الخميس، 30 سبتمبر 2010

العلامة الدكتور خليل سعاده

العـلامـة الدكتـور خليـل سـعاده
علم من اعلام الفكر والادب والسياسة والنضال الوطني


عام 1971 اهتم الامين نواف حردان، مع نخبة من اصدقاء الدكتور خليل سعاده، ابرزهم السيد غطاس خوري، باحياء ذكرى العلامة الدكتور خليل فكان كتاب الرابطة، الذي انكب الامين نواف حردلن على اصداره، فجمع فيه معظم المقالات التي كان نشرها الدكتور سعاده، في صحيفة " الرابطة " التي كانت تصدر عن " الرابطة الوطنية السورية" في سان باولو، وفي مجلة " المجلة ".
صدر كتاب " الرابطة " عام 1971 بعد " تنقيب وبحث طويلين مثابرين عن آثار الدكتور سعاده، الضائعة المبعثرة الموزعة هنا وهناك، والمخبأة في صناديق عتيقة بين اوراق قديمة بالية ".
بعد " المقدمة " التي اعدها الامين نواف حردان في 25 آب 1971، نشر ترجمة الدكتور خليل سعاده نوردها بالنص تعريفاً على ما كان عليه والد الزعيم، كاتباً ولغوياً وطبيباً ووطنياً.
ولد في الشوير – لبنان عام 1857 وتلقى دروسه الابتدائية في مدرسة المرسلين الاميركان، حيث درس مبادئ العلوم والآداب.
امّ بيروت في سن الخامسة عشر، ودخل الكلية السورية الانجيلية ( الجامعة الاميركية اليوم ) وحصل على الشهادة العلمية فيها، بعد ان اظهر من النبوغ والنجابة، ما ادهش مدراء الكلية واساتذتها. وفي عهده صارت بعض الدروس في الجامعة الاميركية تعطة باللغة الانكليزية، فانصب على تلقف آدابها بكل جد ونشاط، ولم يذخر وسعاً في إنماء معارفه من معين اللغة العربية وآدابها وتاريخها، والاطلاع على تاريخ الشعوب، خاصة تاريخ الامم الشرقية والعربية.
انعكف بعد ذلك على دراسة الطب، ونال لقب دكتور في سنة 1880 وفي اوائل عام 1881 قصد الاستانة، لتقديم فحوض الدكتوراه في المعهد الطبي السلطاني، فأظهر امام اللجنة الطبية الفاحصة، الني كان يرأسها الجراح الشهير محرم باشا، من الذكاء ما ادهش الجميع، ونال شهادة الطب بتفوق باهر. وهناك تعرف على الكثيرين من قادة الفكر وكبار السياسيين الذين كانت لهم مكانتهم السامية في المابين.
وعاد بعد ذلك الى وطنه، فتعاطى الطب في بلدة الشوير وفي بيروت، حيث تمكنت أواصر الصداقة والالفة بينه وبين ادباء النهضة في ذلك العصر ومفكريه، كالدكتور شبلي الشميل والشيخ يوسف الاسير والدكتور بشارة زلزل والشيخ ابراهيم اليازجي، واصدر بشراكة الاخيرين عام 1882 مجلة " الطبيب " فكانت حقلاً ادبياً وعلمياً، حافلاً بمختلف المواضيع الفلسفية والطبية والعلمية والادبية الراقية، ولهذا سمي مصدرو المجلة، سعاده واليازجي وزلزل، بالاقنوم الادبي المثلث، لأنهم أعادوا شأن الادب، وحلقوا فب سماء العلوم والفنون.
واحتجبت هذه المجلة بعد عام، وسافر الشيخ ابراهيم اليازجي الى القاهرة، وبقي صاحب الترجمة يتعاطى الطب في بيروت، حيث اصدر كتابه الاول: " وقاية الامراض السارية " وكتابه الثاني " في معالجة داء السل " وكتابه الثالث :
" فلسفة تأخر الشرق " فنالوا شهرة وانتشاراً واسعين، ولاقوا تقديراً كبيراً في الاوساط العلمية والطبية والفكرية، لما احتووه من الآراء الصائبة والنظريات الدقيقة والتحليل العلمي العميق.
وفي هذه الاثناء، دعته البعثة الطبية الانكليزية، لرئاسة مستوصفاتها في فلسطين ومستشفاها في طبرية، فقبل وقام بمهام مسؤوليته على وجه كامل، وكان يتمرن على الجراحة حتى حذقها فصار يشار اليه بالبنان. وفي اوقات الفرصة الصيفية، كان يعود الى لبنان والى بلدته الجميلة الشوير، لترويح النفس من عناء الاعمال.
تعرف في غضون اقامته في القدس، على الامير عبد القادر الجزائري المجاهد المعروف، فتمكنت بينهما أواصر الصداقة والتفاهم، كما عرف الكثيرين من غيره من اقطاب السياسة وكبارها. وفي هذه الاثناء انخرط في الماسونية وانتمى الى المحفل الملوكي في القدس، وترأس بعد مدة قليلة عام 1885 المؤتمر الماسوني العلمي، الذي ضم نخبة كبار الماسون من وطنيين وادباء مفكرين واجانب.
كلفته الحكومة التركية، اثناء زيارة القيصر غليوم الى فلسطين، بمرافقة القيصر ليكون طبيبه الخاص، فقام بما كل به خير قيام، واستحق اعجاب الملك وصداقته.
ورويداً رويداً بعد ان نضجت خبرته واختمرت نفسه، بدأ يشعر بأن عليه رسالة يجب ان يؤديها لوطنه والعالم العربي، فاستقال من وظيفته وتوجه الى مصر حيث بدأت مرحلة جديدة من حياته، غنية بالانتاج والعطاء.
كانت مصر في تلك الحقبة من الزمن، ملاذ الادباء والمفكرين الوطنيين الذين قصدوها فراراً من جور تركية وظلمها، وفيها لقي الدكتور سعاده بعض اصدقائه القدماء، كابراهيم اليازجي وشبلي الشميل وداوود بركات صاحب
" الاهرام " والجريدني "، وتعرف الى افذاذ جدد فازداد عدد اصدقائه والمعجبين به، كحافظ والبارودي والشيخ محمد عبده رشيد رضى، وعلي اليوسف صاحب " المؤيد " ويعقوب صروف وفارس نمر ووحيد الدين الايوبي والبكري، وغيرهم كما تمكنت عرى الصداقة المتينة بينه وبين عرابي باشا قائد الثورة المصرية الذي طلب منه ان يكون طبيبه الخاص، ورغب اليه ان ينقح له مذكراته التي احدثت مقدمتها – وهي بقلم الدكتور سعاده – دوياً كبيراً في عالمي الادب والسياسة. واسندت اليه بعض المحافل الماسونية رئاستها تقديراً منها لعلمه وادبه، وجرأته واخلاصه واندفاعه في سبيل إعلاء الحق وخدمة الانسانية المتألمة.
تزوج حوالي عام 1894 ورزق سبعة اولاد وابنتان، منهم ارنست الذي شغل وظيفة ملحق تجاري في احدى السفارات الاميركية في عاصمة البرازيل، وأرثور الذي كان مهندساً في مدينة سان فرنسيسكو – اميركانية، وتشارلي الذي كان صيدلياً، وادوار الذي لا يزال حياً، حصل على شهادة الحقوق ويعمل الآن في مكاتب إحدى الشركات الكبرى في سان باولو.
وبالرغم من مشاغل الدكتور سعاده الكثيرة، ومعاطاته الطب والسياسة، والقيام بالاعمال الانسانية، لم يغفل التأليف والكتابة، فأصدر عام 1895 رواية " قيصر وكليو باطرة " باللغة الانكليزية، فقوبلت بالثناء والتقدير في جميع الاوساط الراقية، وعقدت عليها جريدة " المورننغ بوسط " اللندنية الشهيرة، عاموداً كاملاً، مما لم يحصل على مثله فريق كبير من مشاهير الكتاب والمؤلفين.
كما علق العلامة الانكليزي وردسورت على الرواية بقوله: " إن الملائكة تخشى ان تطأ أقدامها حيث وطأت قدما شكسبير، بيد ان الدكتور سعاده يسير هناك بغير هياب ولا وجل ".
وأجمل تفريط لروايته هذه، كان ما كتبه احد كبار الانكليز وهو ما يلي: " ان اللغة العالية التي كتبت بها هذه الرواية، ومخيلة مؤلفها المبدعة ونسقها البديع، تدلنا ان مؤلفها رجل من مشاهير روائيي انكلترة، تستر تحت اسم مستعار ".
وفي نفس الوقت كان صاحب الترجمة مراسلاً رسمياً للجريدة الانكليزية " ستاندرد " فنشر فيها مقالاته الرنانة عن الشرق وعن احوال مصر الخاصة، واتحفَ الصحف الوطنية بمقالاته السياسية الادبية والعلمية على اختلافها، التي كان أثرها بعيد المدى بالغ العمق.
وفي عام 1906 نشر رواية " اسباب الثورة الروسية " ورواية " اسرار الباستيل " وكتب تحفة رسائله الادبية " سهم من كنانة " التي ردّ فيها على يعقوب صروف وفارس نمر في " المقتطف " وهي تعتبر من اروع آثاره النفسية.
وفي عام 1907 ترجم اجيل " برنابا " من التكليزية الى العربية، الا انه كان شديد التأثر من المقدمة التي كتبها ناشر الكتاب رشيد رضى، الذي شوّه محاسن النقل، بما كتبه من اراء لا تتفق والغاية التي نشر الانجيل لاجلها، حتى ان اصدقاء الدكتور سعاده، عاتبوا الشيخ على ذلك، ولكن كان قد سبق السيف العزل، وطبع الانجيل قبل ان يؤخذ رأي المترجم بذلك.
وفي عام 1911 اصدر " معجم سعاده " في اللغتين العربية والانكليزية، وقد اشتهر هذا القاموس بمعطياته العلمية الدقيقة ومسطلحاته الجديدة المبتكرة، وهو من اوسع المعاجم وافضلها، ومما يؤسف له، انه لم يتسنى للمؤلف تعميم نشره في العام العربي.
وفي خلال اقامته في مصر، انهم عليه الخديوي عباس حلمي باشا، برتبة البكوية، قدراً لجهوده ونشاطاته العلمية والادبية والانسانية، إلا انه كان لا يستعمل هذا اللقب، ولم يعرف به المواطنون فيما بعد في هذا المغترب إلا صدفة.
وفي هذه الاثناء تعرّف على سعد زغلول باشا، فاعجب به الرجل الكبير وقدره حق قدر . . ويظهر ان علاقاته المتنية بقادة الفكر المصريين وحاملي لواء ثورتها، اغضب عليه ذوي السلطان الخديويين، فابلغوه عدم رغبتهم ببقائه في مصر، واذا لم يكن في وسعه العودة الى سورية، حيث كان مغضوياً عليه من قبل الاتراك، اضطر الى مغادرة مصر الى الارجنتين في مطلع عام 1914.
وفي بوينوس ايرس عاصمة الارجنتين اصدر مجلته المشهورة " المجلة " فتلفقتها الجالية هناك بكل فخر، ولاقت انتشاراً كبيراً بين المغتربين في الاميركيتين، لما كانت تحتويه من المواضيع السياسية والفكرية والوطنية. وعندما رأى من المواطنين في الارجنتين تجاوباً مع افكاره ودعوته، أسّس " الحزب الديمقراطي الوطني " وغايته مقاومة الاحتلال الاجنبي ونيل الاستقلال، وجعل شعاراً له " الاستقلال او الموت " وكان له في هذا الحزب مآثر خالدة، تشهد له له بطول البال في القاء بذور الوعي والحماس والوطنية، هذا فضلاً عن نشره في العالم خطبه السياسية الرنانة، بواسطة الراديو والبرق، فكانت الدوائر السياسية العالمية تحترم رأيه وتكبر فيه روح العظمة والطموح الى الحرية والاستقلال.
وفي بوينوس ايرس ايضاً، ترأس المؤتمر الوطني السوري الاول، الذي احدث انعاقده دوياً في عالمي السياسة والوطنية.
وفي مطلع عام 1919 دعاه احد كرام الجالية في سان باولو، صديقه ونسيبه السيد جورج قربان الى زيارة البرازيل، فلبى الدعوة. واستقبلته الجالية استقبالاً لائقاً رائعاً، ورجته البقاء في سان باولو فقبل طلب اصدقائه، وأصدر بعد فترة قصيرة في سان باولو، صحيفته الاسبوعية النارية باسم " الجريدة " عام 1920 ثم جعلها يومية، فلقيت اقبالاً شديداً.
وفي عام 1923 اعاد اصدار " المجلة " فكانت من ارقى المجلات في العالم العربي، حملت خلاصة آرائه العلمية وآرائه السياسية ومبتكراته الادبية البليغة.
وفي عام 1925 نقل روايته الشهيرة " قيصر وكليوباطرة " من الانكليزية الى العربية، واسندت اليه رئاسة محفل
" نجمة سورية " الماسوني، فاستقبلت الدوائر الماسونية البرازيلية العليا خبر انتخابه رئيساً بكل بهجة وحبور، نظراً لمعرفتها مقدرته ونبوغه وما قام به من خدمات جليلة.
وفي اول عام 1930 كلفته عمدة الرابطة الوطنية السورية في البرازبل، ان يتولى رئاسة تحرير جريدتها " الرابطة " فقام على تدبيج مقالاتها الراقية، وظل يقوم بذلك خمس سنوات متوالية بدون انقطاع، حتى ساعاته الاخيرة.
كان الدكتور سعاده يجيد الانكليزية كأرقى ابنائها كتابة وخطابة وله اطلاع واسع عميق على دقائق اللغة العربية وآدابها، ويحسن اللغتين اللاتينية والفرنسية، ويلم باللغات الاسبانية والبرتغالية والتركية.
ترك آثاراً كتابية لم تنشر بعد، بينها رواية " انطونيو وكليوباطرة " باللغتين العربية والانكليزية، ومقالات مسهبة في الفلسفة والادب والاجتماع والسياسة. وقد عني في اواخر ايامه بدرس النظرية النسبية لاينشتين، وقرأ بعمق مؤلفات هذا العالم، ولخّص بدقة باللغة العربية، النظرية المذكورة التي عسر على كثير من العلماء فهمها، وهي لا تزال محفوظة بين مخطوطاته النفيسة.
كان الدكتور خليل سعاده كبير الروح كبير العقل، جباراً في هيكل متين، اناف على السبعين دون ان يشكو مرضاً، وقد شاء ان يختبر بنفسه طريقة التطبيب بالصيام، من الوجهتين العلمية والطبية، فصام مدة ثلاث وأربعين يوماً. وقد وافته المنية بعد افطاره بخمسة ايام، فلم تدع مجالاً لاسعافه بالعلاجات الواقية . . وهكذا اسلم روحه وقضى شهيد العلم والجهاد القومي.
وقد نعته الرابطة الوطنية السورية التي كان رئيسها الشرفي الى الجالية السورية والعالم العربي بالعبارات البليغة التالية:
" هوى من سماء العروية كوكب متألق، واعترى الخسوف بدر الوطنية السورية المنير، وتهدم ركن من اركان الادب العربي الرفيع العماد، وسطاً الموت على احد قواد الجند المجاهد في سبيل الحرية والاستقلال، وحضرت الوفاة زعيماً من زعماء النهضات القومية في العالم العربي.

مـات الدكتـور سـعاده
في الساعة السابعة والنصف من مساء أمس العاشر من نيسان الجاري، انطفأت تلك الشعلة المتقدة.
فالرابطة الوطنية السورية، تذيع هذا النعي على الجالية السورية خصوصاً، والعالم العربي عامة، وملء أفئدة أعضائها الحزن والاسف والاسى وسيشيع الجثمان الساعة الخامسة من مساء اليوم الاربعاء، من الكنيسة الارثوذكسية السورية الى جبانة سان باولو، عزى الله قلوب الأمة عن فقده.
سان باولو في : 11 نيسان 1934

وصدرت الصحف العربية والوطنية صباح ذلك اليوم حاملة بين انبائها هذا النبأ الفادح، فروعت الجالية على اختلاف أقاليمها لهذا الخطب الجسيم، واكبرت هذا المصاب الاليم، وتقاطر افرادها زرافات ووحداناً لزيارة الجثمان العزيز، وعلى وجوه الجميع علامات الكآبة وفي عيونهم تترقرق دموع الحزن العميق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق