الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010

التحليل النقدي الذي اعده لؤي زيتوني عن فؤاد سليمان

الـرفـيـق الـدكـتـور
لـؤي زيـتـونـي

الرفيق لؤي زيتوني، أديب وباحث، كانت العمدة نشرت سابقاً كلمة قيمة له عن الأديب فؤاد سليمان، له اصدرت مؤسسة دار فكر عام 2009 البحثين التاليين في كتاب أول حمل عنوان "مفهوم الأسطورة ورمزيتها الأدبية"، وثانٍ بعنوان "التأسيس للحداثة في كتاب الصراع الفكري":


مفـهـوم الأسـطـورة ورمزيتـها الأدبـية

شغلت الأسطورة حيّزاً مهماً من حياة الشعوب، حتى أنها شكّلت محور الحضارات في بعض المراحل، لكونها اختزنت ألوان الفكر الإنساني المتنوعة وعبّرت عن هواجس المجتمعات وهمومها. إلا أنها مع الزمن لم تخفت أهميتها، بل ازداد دخولها في عمق الذّات الجماعية للقبض على كوامن الإبداع فيها، وعلى الأبعاد الفلسفية التي تحكم فعلها عبر التاريخ. لذلك كانت محور استقطاب للدّارسين في تاريخ الشعوب وحضاراتها، لا سيّما أنها أعطت صورةً صادقةً عن طرائق التفكير الإنساني وتناميه.
لكنَّ الملفت في هذا السياق أن حضور هذه الأسطورة كان مرتبطاً بالفن عموماً، والأدب منه خصوصاً، إذ يصعب أن نجدها خارجه. ولذلك كانت الأهمية القصوى لهذا الإرتباط الذي أفسح أمامنا في المجال للتّعرّف على التراث الكوني ككل، والقومي منه بشكل خاص، من أجل الفهم الواعي لنهج النفس المجتمعية في الأمّة.
وعندما نستوعب أن هذه الأساطير قد تناولت قضايا وجوديّة كبرى هدفت من خلالها إلى توثيق الصّلة بالعالم المحيط وإزالة ما قد يعتري الإنسان من خوفٍ وقلق نتيجة المواجهة المريرة معها، نجد أن أهمّيّتها تزداد، نظراً لكون تلك القضايا نفسها تواجه الإنسان وتبعث فيه مشاعر ممزوجة من الرعب والإستسلام.
لعلّ أبرز هذه القضايا، الموت ومظاهر الطبيعة القاسية مع ما تعنيه من حاجةٍ إلى فهم ما يحيط به، تحت وطأة العقل الإنساني الذي كان ما يزال يتفتّح. وهي، إلى ذلك، دفعت العقل إلى توليد نماذج من الأساطير المتناسبة مع البيئة التي يتعامل معها، وقد أدى ذلك بالتالي إلى دفع العقل المتفاعل مع بيئات شرق البحر الأبيض المتوسط، وبالأخص منطقة سورية الطبيعية، إلى إبداع ما عُرف بالأسطورة التّمّوزيّة التي حملت مخاوف الحضارات فيها ومطامحهم، إضافةً إلى طريقة تفكيرهم، انطلاقاً من البؤرة الحضارية الأولى التي تجلّت في سومر.
على أنّ المتتبع لتطور هذه النماذج يدرك عدم توقّف تأثير الأسطورة عند حدود الشعوب القديمة، إذ أنَّه بات من المعروف لدارسي الأدب العربي الحديث استعانته بها إلى أقصى الحدود، لا سيما منها التموزية، من منطلق كونها تحمل في طياتها أبعاداً تأثيريّة فاعلة، وعناصر تعبيرية وجماليّة محكمة، فضلاً عن قوة انسجامها مع العامل الحضاري الذي يسعى إلى استنهاض الامّة ورفعها إلى مصاف الأمم العظمى؛ لذا كانت دعوة الكثير من المفكرين إلى العودة للأساطير القومية وإيجاد موصل الإستمرار الفلسفي بين ماضي الأمة وحاضرها في سبيل الإنطلاق نحو مستقبلها، وقد لا يخفى على أحد أن رائد هذه الدعوة بامتياز كان أنطون سعادة الذي نوّه بأسطورة أدونيس أو تمّوز بالتحديد في كتابه " الصراع الفكري في الأدب السوري". وبنتيجة ذلك، لم يكن غريباً أن يبرز الشعراء القوميون بوصفهم أول المقبلين على هذه الرموز التموزية، في إطار مشروع حضاريّ- ثقافي عام يستهدف قيامة أمتهم التي تأبى القبر مكاناً لها تحت الشمس.
من هذا المنطلق كان انجذابي إلى دراسة الرموز، من ناحية مفهوم الأسطورة بنحو عامّ، والتّعرّف إلى النموذج التموزي منها بشكل خاص، وصولاً إلى معاينة أشكال ظهورها في الأدب القومي الحديث والغاية القومية من هذا الظهور. ضمن إطار حرصٍ على أن يدرك القارئ وحدة حضارتنا وأهميتها بين قريناتها، ووعي بضرورة نشر المعرفة واستيعاب مرامي الذّات القومية واستعادة الثّقة بها، وذلك على طريق أجدادنا الذين أبوا أن يبقى للعلم أسرار وخفايا، وشرّعوا معارفهم للبشريّة جمعاء.
مـحـتويـات الـكـتـاب

الفصل الأول: محاولة في مقاربة الأسطورة.
مدخل- الأسطورة والفنون الحكائية- الأسطورة فلسفيّاً- الأسطورة أنتروبولوجياً وسوسيولوجياً- الأسطورة سايكولوجياً- الأسطورة والأدب- الأسطورة من منظور جديد.
الفصل الثاني: أسطورة الفداء والإنبعاث وانطلاقة الوعي الإنساني.
مدخل- أسطورة الفداء والإنبعاث في بلاد ما بين النهرين- بلاد كنعان والأسطورة الإنبعاثية- نماذج انبعاثية من وادي النيل وبلاد فارس والأناضول والإغريق- الرّمز الإنبعاثي في الموروث الديني والتاريخي- الفداء والإنبعاث: رؤيةٌ أخرى.
الفصل الثالث: الأسطورة التموزية في الادب القومي.
النزعة التموزية في مواجهة الفساد عند قؤاد سليمان- الفساد الإجتماعي- الخلاص التموزي- التمرد في شخصية محمد يوسف حمود ونتاجه- المثقف العربي بين البرج العاجي وميدان الحياة كمال خير بك نموذجاً- إتقان المضي في بحر الحداثة نظرة تموزية في ديوان "الأنهار لا تتقن السباحة في البحر" لكمال خير بك- الخاتمة.

الـتـأسـيـس لـلـحـداثـة فـي
كـتـاب الصـراع الـفـكـري

ارتبطت حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، منذ نشأتها، بالثقافة الغربية ونموذجها الشعري، حيث ألصق النتاج العربي الحديث في أغلب الأحيان، بالغرب. وقد وصل هذا الإلصاق حد الإتهام بتعامل بعض أعلام الحداثة مع استخبارات خارجية. إلا أن هذه النظرية سرعان ما سقطت بعد النجاح الباهر الذي وصلت إليه حركة الحداثة، وبعد وضوح مدى التزامها القومي بالدرجة الأولى من خلال ذلك النتاج. وما لا شك فيه أن حركة الحداثة ما كانت لتنشأ في شعرنا وأدبنا عموماً، إلا بنوع من التواصل مع النتاجات الغربية الحديثة في أوروبا واميركا. هذا التواصل الذي ابتدأ بشكله الأولى مع بعض المهجريين من أمثال: نسيب عريضة، جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إلياس فرحات ثم اتخذ شكلاً متطوراً عبر الشعراء العراقيين الثلاثة: السياب والملائكة والبياتي؛ حيث برزت مع هؤلاء ومع غيرهم من الشعراء في الشام ولبنان، أسماء شعرية كبرى وعلى رأسها ت. س. إليوت، إضافةً إلى جون كيتس وإزرا باوند وإيديث سيتويل.... وقد نشأ خلاف حول هذه المسألة بين بعض الأعلام في الشعر الحديث ونقده حول منشأ الحداثة أكان من قبل العراقيين الثلاثة أم كانت مع المهجريين؟...
إلا أننا بالنظر إلى الحداثة الغربية في الشعر، نرى أنها لم تنشأ مباشرة أو من الفراغ. فقد ترافق ظهور مصطلح MODERNISME للدلالة على الحداثة الشعرية، مصطلح آخر هو MODERNITE وذلك للدلالة على الحداثة على صعيد الحياة العامة، ما يعني أن الشعر لم يحدث في الغرب إلا مع التحديث في النظرة أو الرؤيا إلى الوجود..... وحتى إذا نظرنا إلى الشعراء الذين ارتبطت بأسمائهم نشأة الشعر الحديث، أي السياب والملائكة، نلاحظ أن شعرهم لم يكن حديثاً إلا بالمعنى الإيقاعي للمصطلح، وأن حركة الحداثة الشعرية بمعنى التحديث في اللغة والرؤيا برزت بعد هذا التاريخ أي بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي مع السياب وحركة مجلة "شعر".
هنا ينفتح أمامنا مجال لسؤال جوهري، وهو: هل سبقت الشعر الحديث في مجتمعنا رؤيا جديدة للوجود، ومرجع آخر غير المرجع الغربي نابع من عمق تراثنا وبيئتنا؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال، تبرز لدينا شخصية غامضة خارجة عن الوسط الأدبي المعروف كان ظهورها سياسياً واجتماعياً أكثر منه أدبياً، هذه الشخصية هي شخصية أنطون سعادة.
فهو يبرز كواضع لرؤيا جديدة للحياة والكون والفن أسّست القاعدة الرّاقية لحداثة شعريّة تؤدّي دورها العالمي، وذلك من خلال عدة كتابات في هذا المجال ولا سيما كتابه " الصراع الفكري في الأدب السوري" الذي يشكّل أحد الاركان الأساسية في المنظومة العقيدية للنهضة السورية القومية الإجتماعية التي أسسها هو ووطّد أركانها.
فأنطون سعادة ليس مجرّد رجل سياسة فحسب، بل هو أبعد من ذلك، مفكر نهضوي عمل بجد لتحقيق الإنبعاث الحقيقي لنهضة أمته، على جميع الصعد التي تمكنه من تحقيق غايته. من هنا كان تناوله لموضوع الأدب في سورية، حيث خصّه بعدّة كتب أهمها " الصراع الفكري في الادب السوري" في سنة 1940، إضافة إلى "جنون الخلود" بين 1940 و 1942، وبعض المقالات التي تمحّورت حول موضوع أدب الحياة وأدب الكتب والأدب الذي تحتاج إليه بلادنا سورية.
وقد كان تأثير أنطون سعادة واضحاً في شعراء الحداثة، وخاصةً كتاب " الصراع الفكري"، وذلك باعترافهم الشخصي، حيث أن الذين استلموا دفّة الحداثة ابتداءً من النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي ومع صدور مجلّة "الشعر" عام 1957، كانوا قد تشرّبوا العقيدة القومية الإجتماعية جيّداً.
ففي معرض حديثه عن المؤثرات في نشأة الحداثة، رأى أدونيس أنّ شعره وشعر خليل حاوي ينبعثان من مصدر واحد هو فكر أنطون سعادة. وهذا النوع من الشعر، لم يكن مقتصراً على هذين الشاعرين فقط، بل شمل أسماء أخرى معروفة، إذ أن حركة الحداثة عموماً، وشعر الفداء والإنبعاث خصوصاً، كما يرى، صدرت عن هذا المؤتمر من هذا المنطلق، رأى أدونيس نفسه:
" لم يكن لهذا الإتجاه تنظيرٌ نقديّ، على الصعيد الشعريّ- الادبي، ولا يزال يفتقده حتى الآن. غير أنه كان يستمد أصوله من كتاب لم يكتبه، ويا للمفارقة، ناقدٌ أدبيٌ، وإنما كتبه قائد سياسي- فكري هو أنطون سعادة، والكتاب هو: "الصراع الفكري في الأدب السوري".
فقد كان هناك تمايز في الإطار الحضاري الذي وضع فيه الرمز التموزي، بين استخدامه عند إليوت والشعراء الغربيين بشكل عام، وبين استخدامه لدى شعرائنا الحداثيين. فلم يعتقد هؤلاء بحضارة ميتة تقوم على التطور الصناعي والتكنولوجي، وبمحاولة للقيام من الموات بالعودة إلى القيم التقليدية القائمة ما قبل عصر النهضة، وفي العصور القديمة، لكنهم وجدوا مجتمعهم يعيش واقعاً جدباً يفتقر إلى الحياة نتيجة الإنكسارات والهزائم والتجزئة والنفعيات الفردية.... فعبروا عن هواجس الامة التي انتظرت بشكل ابتهالي حار فداءً قربانياً على الطريقة السورية القديمة. من هنا قامت نخبة الشعراء بالغوص في عمق التراث القومي الذي ينتمون إلى ثقافته، إلى أن وصلوا إلى الينابيع الحية للأمة التي استصرخوا من خلالها الإنبعاث أو النهضة من الحاضر العقيم، من خلال تجسيد قيم جديدة. فكان أن ناجوا "نسلاً من (الرجال الآلهة) كما عبر حاوي في (نهر الرماد) أو بعلاً يحقق(جلجلة البعث) كما عبر أدونيس أو(فادياً يولم لحمه في الجماعة) كما عبر السياب، أو فارساً أسطورياً منقذاً كما عبر يوسف الخال".
وهنا تنهض شخصية أنطون سعادة لتستقطب الأنظار والآمال والعقول انطلاقاً من قدرته على الجمع بين الكشف والفعل، وانطلاقاً من كونه في خط حضاري متواصل، من البعل الكنعاني، إلى المار جرجس- الخضر. وهو في الواقع استطاع أن يكرر الأسطورة الفدائية الإنبعاثية في شخصه، فاندفع نحو مصيره هذا وجدانات الآلاف الذين اندفعوا خلفه، أو على الأقل رأوا فيه النموذج القادر على إنهاض واقعهم من الركام. فضحى بنفسه من أجل انتصار حزبه وعقيدته، انتصار النهضة القومية الإجتماعية التي دعا إليها، والتي تحقق رغبة أمته السورية في الحياة.
ونرى ما يؤكد هذا الكلام من خلال قوله عند اقتياده إلى الإعدام: (هذه الليلة سيعدمونني أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي) يهز مسامعنا ويدوي في التاريخ مستحضراً نموذج الفداء البعلي المسيحي. ولعله تكمن هنا أولى درجات تأثير سعادة في بعض شعراء الحداثة، لا سيما أنّ بعض الباحثين في هذا الشأن يقولون:
"وجدير بالذكر أن كثيرين من الشعراء والكتّاب بالرمز التموزي وتبنوا القصة التموزية للتعبير عن استشهاد من كان في نظرهم منقذاً وقد صرعته الخنازير البرية وأراقت دمه الزكي على رمال الشاطئ".
والواقع أن انطون سعادة نفسه، عمل على الإستفادة من الرمز التموزي في خطابه الحزبي. ولعل أهم نموذج له في هذا السياق، هو الخطاب الذي ألقاه في يوم عيد مارجرجس 23 نيسان، من العام 1948، وذلك عند زيارته لإحدى بلدات البقاع. ففي هذا الخطاب، يقوم بربط مسار التاريخ السوري في مراحله الثلاث بدءاً بالتراث البابلي- الكنعاني مروراً بالمسيحية وصولاً إلى الإسلام، مقرناً إياها "بالمهمة العظمى" للمرحلة الرابعة وهي مرحلة النهضة القومية الإجتماعية ويقول سعادة في ذلك:
"قبل أن يسمى بطل هذا العيد مارجرجس، وقبل أن يسمى الخضر، كان يسمى في هذه البلاد، البعل إله الشباب والجمال والقوة والإنتصار على الأباطيل، إنه البعل الذي اكتشف في رأس شمرا قرب (الميناء الأبيض) في اللاذقية، أسطورة منازلته التنين الشرير إنه من بين الآلهة جميعها البطل الذي أخذ على عاتقه مهمة عظمى هي النزول إلى التنين الذي يخيف الإنسانية ليقتله ويسحق رأسه. وقد أتم البعل مهمته وقتل التنين. وجاء مارجرجس الخضر، في عهد المسيحية والمحمدية يعيدان الصورة والمغزى عينهما هو على صهوة جواده يطعن التنين تحت قوائم الجّواد الطّعنة القاتلة ويمحو أثره. وهذا الرمز يذكر بالمهمة العظمى لهذا الدور الرابع في تاريخ الأمة: من البعل الأول إلى ماجرجس إلى الخضر إلى النهضة القومية الإجتماعية، هذه التي جعلت مهمتها قتل التنين وإخراج هذه الأمة إلى المجد والعزّ.
ويُلاحظ أن هذا الخطاب السعادي بمجمله يفيد من أسطورة البعل وصراعه مع التنين في دورها الكنعاني، بداءة، ثم يمر بالدورين المسيحي والإسلامي لهذا الرمز، ويصل إلى الدور الرابع المتمثل بالنهضة القومية الإجتماعية مشيراً إلى المهمة التاريخية الكبرى التي تقع على عاتق هذه النهضة. لذا فإن الإحياء وتحفيز قوى التجديد وعوامله، أو باختصار ما نسميه " النهضة"، لا يكون إلا بالصراع المستمر الذي يشكل في الواقع جوهر الأسطورة السورية عامة في جميع مضامينها وصياغاتها وتشكيلاتها الإبداعية وبناها الدرامية. وهذا الرّمز يبدو قريباً جداً من المضامين التي طرحها شعراء الحداثة في قصائدهم، لجهة مناشدة قيامة الأمة وانتصارها. وربما يكون هذا هو المستوى الثاني في مستويات التأثير في نشأة القصيدة التموزية، حيث سعادة دعا إلى استخدام رمز البعل المارجرجس- الخضر، حتى تقيم معادلاً موضوعياً لمسألة إنهاض الأمّة السورية على يد الحركة القومية الإجتماعية التي أسّسها، ويعطي بذلك نموذجاً حيّاً لنصوص الفداء والإنبعاث في الشعر الحديث. وهذا كله ضمن إطار منهج نهضوي تكامليّ يستهدف، أولاً وأخيراً، انبعاث الأمة. وفي ذلك يقول ربيعة أبي فاضل:
" إن هاجس البعث والنهوض هو الهاجس الحقيقي الذي حرّك فكر سعادة، ودفعه إلى اتخاذ مواقف تخدم القضية التي نذر لها نفسه".
وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يقتصر تأثير أنطون سعادة، والحال هذه، على هذين المستويين، وإلا كان مؤثراً ضعيفاً هشاً. والمستوى الأهم في هذا التأثير يمكن تسميته بالمستوى الفكري، إذ أعدّ مقدمات نظرية للحداثة الشعرية، فأولى الأدب قيمة كبرى في مشروعه النهضوي، وقد رأى حداثيون في هذا الإطار:
" كانت رسالته القومية تستدعي منه أن يضع عدداً من التصورات للنهوض بأمته وشعبه، ولم تكن الدراسات النقدية والجمالية من ضمن هذه الأولويات، ولكن سعادة حاول ان يلج هذا الباب ويدلي بدلوه فيه لإدراكه مدى أهمية رسالة الأدب والفن وجدواهما في الحياة المجتمعية، وتغيير المجتمع، ودلالتهما في التوجيه التعليمي/ التربوي في سبيل مثال محدد للخروج على سائد الأعراف والطبائع والعادات التي لا تتماشى وملابسات الحياة الجديدة ومستجدات العيش إضافة إلى إحساسه بأن ثمة تخبطاً في مفهوم الادب".
وعليه فإن الغاية الأساسية من الأدب، في المنظور القومي النهضوي، هي المساهمة في تشكيل وعي عام في المجتمع يدفع بنيه إلى التمرد على واقعهم وتحقيق الأفضل لمجموعهم. لذلك نلتقي هنا مع قول أحد الفلاسفة الفرنسيين: "ليس المهم أن يعبّر الأديب عن كل ما يريد، بالأسلوب الذي يريد، الأهم هو أن يكتب لجمهور تقوده إلى تحقيق أحلامه، والتحول نحو الأفضل".
واستناداً إلى ذلك، نسأل عن حقيقة النظرة إلى الأدب، والشعر خصوصاً عند سعادة. وما هي حقيقة تأثير كتابه في شعراء الحداثة؟ وما هي الطروحات التي تطالعنا فيه؟ خصوصاً مع التعتيم الذي حاول البعض تطبيقه على مؤلِّفه. وذلك دون أن ننسى العديد من الدراسات التي تناولته عن إدراك واع بأهميته، على أن هذه الدراسات في معظمها لم تتناول نظرته في الكتاب إلى الفن بعامة، والادب بخاصة، انطلاقاً من كونها جزءاً أساسياً ونتيجة طبيعية للفكر الذي احتضن حركة النهضة القومية الإجتماعية ووجّهه،بشكل وافٍ. وسنحاول إبراز هذه المسألة في هذا البحث، مع التركيز على ما يخص الأدب كذلك تأثير هذا الكتاب في حركة الحداثة الشعرية.

مـحتـويـات الـكتـاب
إشكاليات الكتاب:
1- المنطلقات الفكرية لنظرة سعادة إلى الأدب -2- الشعر والتجديد عند سعادة -3- النظرة الفلسفية الجديدة إلى الحياة والكون والفن -4- العودة إلى الاسطورة.
الحداثة و"الصراع الفكري"- أدونيس و"الصراع الفكري"- طروحات "الصراع الفكري" لدى يوسف الخال- استجابة خليل حاوي لدعوة "الصراع الفكري"- إلتزام نذير العظمة بالنظرة الجديدة- خلاصة.

الـرفـيـق الـدكتـور لـؤي زيـتـونـي:

* من مواليد المريجات 06/ 07/ 1979.
* حائز على إجازة تعليمية في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية- الفرع الرابع.
* حائز على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانية- العمادة في الجامعة اللبنانية، وذلك عن رسالته التي حملت عنوان : "شعر الفداء والإنبعاث- دراسة في البواعث والنشأة والأسس والنص"، حيث نال درجة جيد جداً مع تنويه من اللجنة المناقشة.
* حائز على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية- الجامعة اللبنانية، وذلك على أطروحته المعنونة: "الخطاب الحداثي في شعر الفداء والإنبعاث"، وقد حصل عليها درجة جيد جداً مع تنويه اللجنة المناقشة.
* له العديد من المقالات المنشورة في صحف مختلفة منها: البناء البيروتية- فكر- الديار- الأنوار- البلد- الغد الأردنية.
* له في النقد: "مفهوم الأسطورة ورمزيتها الأدبية- التموزية نموذجاً" ، "التأسيس للحداثة في كتاب الصراع الفكري"
* له في القصة مجموعة: "نور تحت سيف العتم".

من أطـروحته "الخطـاب الحـداثي فـي شـعر الفـداء والإنبـعاث".

يدور موضوع الأطروحة حول مسألة الخطاب وما نعنيه بهذا المصطلح، حيث تتبنى الدراسة تعريفه بطريقة التلفظ التي تفترض متكلماً ومتلقياً وغاية الأول التأثير في الثاني.
ثم تتطرق لمسألة الحداثة وتاريخها الغربي والشرقي والقيم التي تتمحور حول: الحرية وعقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع.
أما عن الفداء والإنبعاث فهو ما عُرف بالتموزية التي تتعلق بأساطير الخصب والبعث المعروفة منذ القدم والمرتبطة بخلاص المجتمع من حالات الإنحطاط والموات فيه. وهي التي قام شعراء الحداثة ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي بتوظيفها في أعمالهم لإبراز السّعي لقيامة المجتمع وتقدمه. وقد تم استعمال لفظة الشعر لأنها تعني كل كلام يستخدم طريقة فنية في إيصال أفكاره، سواء كان نظماً أو نثراً.
وسعت الأطروحة من خلال مدخله وفصوله الستة وخاتمته إلى إثبات أن شعر الفداء والإنبعاث قد شكّل خطاباً حداثياً يعمل على إدخال مفاهيم الحرية والعقلنة والعلمنة في المجتمع من خلال التأثير في القراء باستخدام رموز الفداء والإنبعاث عبر العصور وطبيعتها الصراعية- الدرامية.
وقد قامت الأطروحة بدراسة ستة من شعراء الحداثة لإثبات غايتها وهم على التوالي: يوسف الخال وخليل حاوي وجبرا ابراهيم جبرا وبدر شاكر السياب وأدونيس ونذير العظمة، لتبرز حضور تلك القيم في شعرهم ونجاحهم في إيصال الرّسالة التي يطمحون إليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق