الخميس، 30 سبتمبر 2010

سعاده في ضيافة عبود سعاده

سعاده في ضيافة عبود سعاده في الأرجنتين

كنا بتاريخ 11/02/2010 قد نشرنا من كتاب الرفيق جان دايه " تجربة فخري معلوف " ما ورد عن المواطن عبود سعاده، وأشرنا اننا سنورد لاحقاً ما جاء عن المواطن المذكور في الجزء الثاني من كتاب الأمين نواف حردان "سعاده في المهجر".
يروي الأمين نواف حردان عن زيارة سعاده الى مدينة كوردوبا، يقول:

في 10 كانون أول 1940 يغادر فندق " لس كوكس " الى فندق آخر، حيث لقيه المواطن عبود ابراهيم سعاده، صديق الدكتور خليل سعاده، القديم، فيدعوه للاقامة في منزله في مدينة كوردوبا القريبة (قرطبة) فيقبل الدعوة.
والسيد عبود سعاده من بلدة قاره - النبك في الجمهورية الشامية. غادر بلده وهو في العشرين من عمره فوصل الارجنتين عام 1918 وأقام في مدينة كوردوبا حيث بدأ يتعاطى التجارة فنجح فيها نجاحاً كبيراً وصار من الأغنياء.
كانت علومه بدائية يُحسن القراءة والكتابة فقط، ولكنه كان ذكياً طموحاً، فأقبل على المطالعة والدرس حتى توفرت لديه ثقافة لا بأس بها. وكان يميل للهندسة والعلوم الكهربائية فراح يدرسهما على نفسه حتى المّ بأسرارهما.

عرف الدكتور خليل سعاده والد الزعيم بعد مجيئه الأرجنتين وانشائه مجلة "المجلة" فأصبح من اصدقائه وأكبر المعجبين به، وعندما سمع بأن نجله أنطون أنشأ حزباً في الوطن دعاه الحزب السوري القومي، وان السلطات الفرنسية سجنته واضطهدت معاونيه، تحمس كثيراً وصار يؤيد الحزب دون أن يعرف شيئاً كثيراً عنه.
وعندما علم ان أنطون سعاده قَدِمَ الارجنتين، قصد بوينس ايرس وزاره في مكان اقامته، وأعلن تأييده له ولحزبه ودعاه لزيارته في مدينة كوردوبا.
كان في الستين من عمره عندما عَرِفَ الزعيم، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يصبح من أكثر المناصرين له اخلاصاً ووفاء وحماساً..
كان قد بلغ في درسه الهندسة والكهرباء درجة عالية.. الى ان خطر له ان يبني منزلاً فريداً من نوعه.. فتوصل بعد تجارب عديدة وجهود كبيرة الى بناء منزل كبير فخم، يدور بكل محتوياته على عامود من الفولاذ، فيتعرض أي جنب من جوانبه لنور الشمس أو للظل، وذلك بضغط زر كهربائي، فتتحرك جدرانه وأبوابه ونوافذه دفعة واحدة من الشرق الى الغرب أو الشمال أو الجنوب، بحسب رغبة صاحبه.
بقي عبود سعاده يعمل ست سنوات حتى تمكن من انجاز مشروعه الجبار، ببناء ذلك البيت العجيب، وعندما تمكن من تحقيق ذلك، وقف أهالي مدينة كوردوبا مدهوشين مذهولين متعجبين، أمام ذلك المنزل الجميل الفخم الواسع، الذي يحوي قاعة كبيرة وغرفاً عديدة وحمامات ومطابخ، وتحيط به حديقة جميلة وارفة الأشجار، والذي يدور على محوره لدى حركة صغيرة من صاحبه، دون ضجيج.
وبعد أيام قليلة، احتفلت مدينة كوردوبا، يتقدم أهاليها حاكم الولاية ورئيس البلدية وكبار رجال الحكومة، بتدشين ذلك البيت، المقابل لمنتزه "سارفنتو" بين شارعي "سان لورينو" و "بارانا".. وألقى الحاكم خطاباً، أشاد فيه بعبقرية عبود سعاده، الذي تجسد فيها ذكاء شعبه السوري، أمام خفق الأعلام الارجنتينية والسورية.
في هذا البيت حلّ الزعيم ضيفاً عزيزاً مكرّماً، في 15 كانون أول، وبدأت وفود الجالية السورية تأتي لزيارته والترحيب به في اليوم التالي، بعد ان انتشر بينها خبر وصوله الى بيت عبود سعاده.
في اليوم الثالث دعا المضيف ضيفه الى مزرعة له قريبة من المدينة، مع بعض السوريين لتناول "الشوراسكو" (1) في الهواء الطلق واحضان الطبيعة.
ورأى الزعيم في المرعى أمام المزرعة بعض الخيول العربية الأصيلة ترعى.. فاسترعى ذلك اهتمامه وسأل مضيفه عنها فأجاب:
- كنت في الوطن قبل مجيئي الأرجنتين، أتوق لاقتناء جواد او فرس عربية أصيلة، كالتي أراها عند أحد "البكوات" الذي كان يقطن بالقرب من قريتي، الا ان ذلك لم يكن متيسراً لي لضيق ذات يدي. وعندما رزقني الله وتحسنت احوالي بعد جهاد مرير هنا في هذه البلدة، اشتريت هذه المزرعة ومراعيها، فقط لكي أربي فيها خيولاً عربية كالتي تراها.
- أحسنت.. وهل تسمح لي بركوب أحد هذه الخيول؟
- أوتحسن الركوب يا حضرة الزعيم؟
- لقد أتقنته في مطلع شبابي في البرازيل، ومنذ أيام تمرنت عليه من جديد في تلول كوردوبا..
- حسناً اذاً، سأنادي سائس الخيول ليختار لك أفضلها ويأتي به.

بعد قليل وصل الراعي يجر جواداً أسود مع نجمة بيضاء في جبينه، تبدو عليه مظاهر الأصالة، يسير متبختراً تياهاً.. وقدمه للزعيم، الذي قفز الى ظهره برشاقة وخفة، فسار به نحو المرعى المنبسط الفسيح.
وبعد دقائق قليلة.. رأى عبود سعاده وضيوفه، الزعيم على صهوة ذلك الجواد، كأنه يطير ويسابق الرياح.. ففوجئوا وانذهلوا وازداد اعجابهم به.
بعد نصف ساعة تقريباً، رأوا الجواد يقترب خبباً من حيث كانوا، وعلى صهوته الزعيم تلوح على ثغره ابتسامة ساحرة.. فترجل عندما وصل وسلّم الجواد الى الراعي.. الذي عاد به الى المرعى.
وتحلق الحضور حول الزعيم يهنئونه ويمتدحون براعته بالركوب وخفته ورشاقته.
ثم عندما حان موعد الغداء.. جلسوا على الأعشاب الخضراء أمام بيت المزرعة في دائرة تحيط بالنار المشتعلة التي كانت قد أنضجت اللحوم الطرية، وراحوا يقطعون منها بالسكاكين ويأكلونها، ويشربون نبيذاً أرجنتينياً معتقاً.
وانتقلوا عندما انتهوا من الطعام الى شرفة المنزل، فجلسوا يصغون للزعيم، يجود عليهم بأحاديثه الشيقة وبلاغته المعهودة عن قضيته السورية القومية الاجتماعية وعن أوضاع الأمـة.

(1) "الشوراسكو" عجل يذبح ويقطع الى قطعتين بعد ان ينظف، ويملّح ثم تشك كل قطعة منه في سفافيد طويلة، وتوضع امام النار الى ان تنضج فيؤكل لحمه اللذيذ.. الذي يرغب الارجنتينيون كثيراً بأكله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق