سعيد تقي الدين
حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي
اليوم بلغت من العمر الواحدة والخمسين، وإني إذ أتمهل فألقي خلفي نظرة تستعرض الطريق التي مشيت، أجد أن نفسي لا تزال مترسخة في طفولتها وقرويتها. هذا المقال يسرد بطريقة مستعجلة، مشوشة، حكاية دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وتبدأ القصة في طفولتي وقريتي»بعقلين«، ونحن في بعد ظهر كل يوم نجلس أمام بيتنا على البوابة، والناس عند العشية يمرون بنا، بالبوابة، عائدين من الحقول يقفون ليدعوا الجالسين إلى مشاركتهم بما يحملون من عنب ومن تين. وأن الجالس المراقب يعرف من طريقة إلقاء السلام من الذين يمرون أكان المسلّم صديقاً أو عدواً. فأما الصديق فيلقي التحية بحرارة ويرددها ويستفهم مراراً عن الصحة وعن أفراد العائلة جميعاً. وأما العدو فيتمتم سلاماً مسرعاً ويمضي.
وإني لا أزال أذكر من هؤلاء شخصاً طويل القامة عريض الكتفين يحمل شمسية صفراء من»ستكروزا« فهو حين
يمر بالبوابة لا يتمتم السلام ولا يلقيه حاراً بل يصوب الشمسية نحونا حتى لا نراه ولا يرانا. ذلك كان عدونا الأول في »بعقلين« محمود الطويل. لا أذكر كم كان عمري إذ ذاك. ولكني أذكر أنني مررت يوماً أمام بيته فقال لي»هذه الطريق خصوصية يا بني«. وأذكر أنني لم أعلم يومئذ ما معنى كلمة »خصوصية« واستفهمت أبي عنها.
نحن في أواخر سنة 1945 وقد ارتفع في»الفيليبين« ستار الحصار الذي شطرنا، عن الدنيا خلال الحرب ثلاث سنوات ونصف. وإذا بالبريد يحمل إلي من نيويورك نبأ من قريبنا أمين أبو حمزة يقول فيه إن عمي الدكتور رشيد تقي الدين فوجئ بشلل وكان معدماً وأن الدروز في الولايات المتحدة تعاونوا على تطبيبه وإعاشته وذكر أسماء المتبرعين والمبالغ التي دفعوها وكان بين الأسماء اسم فرحان الطويل. واقترح أمين أبو حمزة في رسالته أن أوجه كتب شكر إلى المتبرعين. وأيقظ اسم»الطويل« في مخيلتي الشمسية العدائية وكبر علي أن أشكر عدواً على احسان فآثرت ولم يكن من اللياقة أن أرد المال للمحسنين أن أستعيد كرامة العائلة بتبرع ضخم لجمعية درزية، ولسواها. وأعتقد أن ما أرسلته إلى نيويورك بلغ نحو الثمانية آلاف دولار. وكان من السهل أن يفتدى هذا المبلغ برسالة شكر. يقولون لك إن الاحسان فيض من القلب. لحد ما هذا صحيح، ولحد كبير أنه خيلاء ودعاية، وفي هذه الحادثة اعتقد أنه كان نكاية. وعدت إلى لبنان سنة 1948 ووجدت قريتي بعقلين تقريباً كما تركتها منذ ثلاث وعشرين سنة. وكان في المعسكر المعادي حسن الطويل بن محمود الطويل. ولكنه لم يكن في المعسكر المعادي على الطريقة التقليدية بل قيل لي إنه في شيء اسمه»الحزب«. وكنت بعد ذلك أسمع ضجة عن الحزب القومي. ولكني لم أكن أقرأ شيئاً من كتابات الزعيم سعادة أو أقرأ عنه. وصحيح القول إني لم أكن أقرأ الصحف، ما عدا الأخبار، إلا المقالات التي أكتبها أنا. وفي مستهل سنة 1949 رشحت نفسي لرئاسة جمعية متخرجي الجامعة الأميركية. وقيل لي يومئذ أن أنطون سعاده أصدر أمراً بتأييدي عن غير معرفة، وكان منافسي الأستاذ الياس المر وأخوه كان حينئذ وكيل رئيس الوزارة في يوم الانتخاب. وتوجهت بعد الانتخاب أشكر، في زيارة تقليدية، رئيس الحزب الذي أيدني ورد لي الزيارة في سهرة طويلة استمع بها إلي، ولم أستمع بها إليه. ولقد أخبروني بعد ذلك أنه كان من عادته أنه يصغي، ويصغي، ويتلقف الكلمات قبل أن يدخل في نقاش. وأعدم سعاده سنة 1949 وتمكنت أن ألمحه خلال دقائق في قاعة المحكمة العسكرية، في فترة الاستراحة. وفي اليوم الثاني كتبت مقالاً في عشرين سطر نشرته»كل شيء«مهملة، أو أن الرقابة حذفت، ثلاثة سطور منه. عنوان المقال»الرصاصة الثالثة عشر«. وفي صيف 1949 ألفت مسرحية ذات فصل واحد اسمها»المليون الضائع « ورحت أقرأ هذه الرواية على بعض أصدقائي الأدباء وأقرأها على نفسي. وكنت أحس أن فيها نقصاً تلمسته فما التقطه فهي تعرض مشكلة ولا تحلها. وبقيت هذه الرواية بين يدي نحواً من سنتين لا أجد لها الخاتمة الفنية الصالحة ولا أدري إن كانت هي في حقيقة الأمر فصلاً أو لا من مسرحية ذات ثلاثة فصول. إلى أن جاءتني يوماً رسالة من سجين وهو من أعضاء الحزب يقول لي فيها »قرأت مقدمة كتابك»غابة الكافور «وفيها تقول»إن أكبر همي في الحياة أن أقنع أمي أني لم أعد طفلاً.« وزاد السجين معلقاً «ليس من الصعب على المرء أن يقنع أمه أنه لم يعد طفلاً بل أن الصعوبة العظمى هي أن يقنع أمته أنه صار رجلاً . «وتوهمت حين قرأت هذه الرسالة أن خاتمة مسرحية»المليون الضائع«قد وجدتها. وأنني كذلك أهم بأن أجد حلاً يصلح خاتمة لمشكلة حياتي. وكان أن استحال عنوان المسرحية من «المليون الضائع » إلى «المنبوذ »وكان ان استحالت حياتي من جهود فردية مبعثرة إلى نظامية نشاط في مؤسسة. ولقد جرى ذلك بعد أن جاءني الأستاذ عبدالله قبرصي مصطحباً كتب الحزب يقول: «لقد درسنا كتاباتك كلها ولاحظنا سلوكك فاكتشفنا أنك منا وأنه لا ينقصك إلا أن تحلف اليمين وتطلع على العقيدة. وشوقني إلى قراءة الكتب التي يصطحبها. قلت: «ما لك وللمطبوعات؟ تعال افهمني ما هي مبادؤكم ». فلما شرحها صحت: «أهذا كل ما في الأمر؟ لماذا لم تأتوا إلي فور عودتي إلى لبنان؟ لا أرى في هذه المبادئ شيئاً جديداً. ولا شيئاً مغلوطاً. غير أنني قبل أن أنتظم أريد أن أتثبت من أمور ثلاثة: أولها أن الحزب لا يحاول هدم لبنان. فإن الذي قال: «إذا قيل لبنان قل موطني إلهي وصل له واسجد » هو عمي أخو أبي، وقد أفصح عن الكثير مما في نفسي نحو لبنان، وأما الأمر الثاني فهو أن لا يكون العنف من بعض أساليبكم وثالثها: أن لا أؤمر بكتابة شيء أو الكف عن كتابة شيء » فأجاب: فإما لبنان فهو بعض دمنا وهو بعض بلادنا وأما العنف فهي تهمة من التهم التي تصوب إلينا. وأما الكتابة فلك أن تكتب ما تشاء أو أن تهمل كتابة ما تشاء. غير أنني كذا قال الأستاذ قبرصي أتنبأ لك بثروة أدبية تجنيها من تفاعل العقيدة في نفسك. ولما رفعت يدي باليمين كان حسن الطويل الشاهد الموقع اسمه على بطاقة الانتساب. ولقد شعرت إذ ذاك بسبب ما ترسب في نفسي من أحقاد قروية، بشيء من الذل. وأخال حسن الطويل أحس بشيء من خيلاء الظفر. لعلنا كلانا إذ وقعنا البطاقة تراءت لنا الشمسية الصفراء. هذه الطفولة، هذه القروية وفيها الكثير من الفضائل هي التي في نقائصها، تسور مواطني هذه الأمة عن بعضهم بعضاً وهذا التحجر القروي أو الطائفي أو العائلي هو العقبة الكبرى في سبيل انتشار الأحزاب التي تستحق شرف هذه التسمية.
الأربعاء، 22 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق