السبت، 21 مايو 2011

حفل توقيع كتاب الامين ادمون ملحم في سدني

حـفـل توقيـع كـتاب الاميـن د.ادمـون ملحـم فـي سـدني

بعد ان نظمت منفذية ملبورن حفل توقيع الكتاب القيّم الذي اصدره الامين د. ادمون ملحم، Antun Sa’adeh National Philosopher نظمت منفذية سدني حفلاً مماثلاً يوم الاحد اول ايار 2011 في صالة Belmore Senior Citizens Center بحضور حشد من الرفقاء والاصدقاء والمهتمين من الاستراليين.
فيما يلي التقرير كما وردنا من نظارة اذاعة منفذية سدني.


افتتح الرفيق جيمس حرب الحفل بالحديث عن الواقع المفكك للأمة وعن ضرورة العمل الثقافي الذي لا ينفصل عن العمل السياسي والحزبي، كما تحدث بايجاز عن فكر سعاده الفلسفي الوحدوي و أبرز اهمية كتاب الدكتور ادمون ملحم في هذا الاطار، ثم قدم المحاضرين وفي مقدمتهم المُحاضرة في جامعة سيدني السيدة الأستاذة شاديا حجار.
اسهبت السيدة حجار في شرح مضامين الكتاب كما افصحت عما شعرت به من احساس بالمسؤولية تجاه هذه الفلسفة الرائدة التي أوجدت مفاهيم جديدة في قاموس اللغة العربية وخاصة مفهوم المتحد ومفهوم التفاعل وفلسفة المدرحية. كما اشارت الى اهمية اتخاذ سعاده للعقل شرعاً اعلى في جميع منطلقاته الفكرية. كذلك اشادت بجهد الدكتور ملحم في الإضاءة على هذه الفلسفة باللغة الانكليزية التي هي لغة الشبيبة في استراليا. كما عبرت عن مدى فرحها عندما اكتشفت الاحساس و الذوق الأدبي و الفني الكبير عند سعاده، و عندما رأت مدى تأثيره في الأدباء والفنانين والشعراء والفلاسفة السوريين.
بعدها تحدث الإعلامي الاستاذ سركيس كرم باللغة الانكليزية فأوضح تأثير سعاده الفعَال على جميع الأصعدة الفكرية والأدبية والفنية حيث شكلت طروحاته الفكرية الوحدوية سداً منيعاً في وجه طروحات الإنعزال والتشرذم والإنقسام. كما اشار الى ان سعاده كان قد جمع في نفسه مواهب متعددة حيث استطاع ان يبني عمارة فلسفية شامخة ملتزمة بقيم الحق والخير والجمال. كما تحدث عن قدرة الدكتور ملحم على ابراز جميع هذه الجوانب في شخصية سعاده الفلسفية والقيادية. وأقرَّ الإعلامي كرم بأنه تعمّق من خلال كتاب الدكتور ملحم بفكر سعاده الفلسفي واطلع على تراثه الفكري ونتيجة لذلك تكونت لديه فكرة مختلفة نوعاّ ما عن سعاده.
بعد ذلك تحدث ناظر الاذاعة والاعلام الرفيق جعفر بعلبكي عن مفهوم الفلسفة ونشأتها و بيّن بالأدلة والبراهين الواضحة عن جمع سعاده بين قطبي الفلسفة النظري والعلمي، كما اشار الى ان فلسفة سعاده هي فلسفة هادية لجميع الأمم و دعا الى تبني هذه الفلسفة في واقع التعددية الثقافية في استراليا، كما أبرز ان سعاده هو داعية حقوق الانسان وداعية السلام الأول في العالم و ذلك من خلال تحديده لأعداء السلام ودعوته للوقوف ضدهم، و لذلك اعلن ترشيحه الدائم لنيل جائزة نوبل للسلام. ثم أبرز قدرة الأمين الدكتور ملحم في الاضاءة على ذلك.
وفي الختام، تكلم الأمين الدكتور ملحم شاكراً المتكلمين والحضور، ثم اشار الى اهمية فلسفة سعاده في توليدها لنهضة فكرية وانتاجية وفي اعتمادها للمنطق الزينوني الرواقي وقوانينه، كما تحدث عن شخصية سعاده العبقرية وسعة ادراكه ومواهبه المتعددة في شؤون الفكر والفلسفة والأدب والفن والعلوم واللغات وعلى قدوته النضالية وتجسيده الفعلي والعملي لكل مبادئه، كما تحدث ايضاً عن فلسفة التفاعل الغير معنية بالتأويلات الماورائية و الفرضيات العقيمة، بل الساعية الى العناية بقضايا المجتمع الأساسية ومطالب الحياة و مثلها السامية.
وفي ما يلي النص الكامل لكلمة الأمين الدكتور ادمون ملحم:
*
مساءَ الخيرِ وأشكرُ حضورَكم ودعمَكم لهذا العملِ الثقافيِّ ولكلِّ أعمالِ ونشاطاتِ الحزبِ السوريِّ القوميِّ الإجتماعيِّ المتنوعة. أشكرُ كلَّ الذينَ تكلّمُوا وتناولوا الكتاب بكلماتِهمِ القِّيمة، المعبِّرةِ والصادقة.. أشكرُ الدكتورةَ شاديا حجّار والصديقَ الأستاذ سركيس كرم وحضرةَ ناظرِ الإذاعةِ والإعلامِ الرفيق جعفر بعلبكي والرفيقَ جيمس حرب. كما أشكرُ هيئةَ منفذيةِ سيدني لقرارِها بإقامةِ هذا الحفلِ والأعدادِ لهُ وأنوّهُ بجهودِ كلِّ الرفقاءِِ الذينَ ساهمُوا في هذا العملِ..
يسرُّني ويشرِّفُني أنْ أقفَ بينكم في هذا اليوم، وهو يومُ العملِ في بلادِنا، يومُ العمالِ والفلاحينَ وأصحابِ الفنونِ والحرف، يومُ المنتجينَ علماً وفكراً وصناعةً وغلالاً.. في هذا اليوم، أحييكم جميعاً وأحيي من خلالِكم ومن خلالِ وجوهِكُم النيّرةِ والتي أرى فيها وجوهَ أهلِنا وشعبِنا الكريمِ الخيّرِ في طبيعتِهِ والمعطاءِ في نفسيتِهِ والمبدعِ في إنجازاتِهِ، أحيي أرواح الشهداء الذين سقطوا مؤخراً في الوطن نتيجة المؤامرة المجرمة التي تحاول النيل من شام الصمود والممانعة وأحيي أمتَنا بكلِّ أبنائِها الصامدينَ والمقاومينَ والمنتجينَ فكراً وصناعةً وغلالا...
نحنُ نمجّدُ العملَ المنتجَ ونعتبرُهُ قيمةً إنسانيةً عليا وطاقةً مجتمعيّةً للإنتاجِ والنهوضِ الإجتماعيّ.. ونحنُ هنا اليومَ في صددِ تقديمِ إنتاجٍ فكريٍّ متواضعٍ لنْ يأتيَ تامًّا وكاملاً وقد يتضمّنُ ثغراتٍ ولكنّهُ محاولةٌ بحثيةٌ جديةٌ وصادقةٌ حاولْنَا فيها الدخولَ إلى عمارةٍ فكريةٍ فلسفيةٍ كاملةٍ أرسى مداميكَها ابن الأول ِمن آذارَعلى أسس ِالمبادىءِ المناقبيةِ الساميةِ التي تشكِّل ُقواعدَ انطلاقِِ الفكرِ ومكتنزاتِهِ ومراكزَ انطلاقٍ في اتجاهٍ واضحٍ في الحياة.. هذه العمارةُ الفكريّةُ التي حاولْنَا التعريفَ بمحتوياتِها وركائزِها هي الفلسفةُ القوميّةُ الاجتماعيّةُ الجليّةُ، الخاليةُ من الأوهامِ والمعبِّرةُ عن روحيةِ الأمةِ السوريّةِ وحقيقتِها. قبلَ التعريفِ بهذِهِ الفلسفةِ التي ولَّدَتْنهضةً قوميّةً عظيمةً كانَ لها أثرُهَا الواضحُ في المشرقِ، لا بُدَّ لنا منَ التحدّثِ بعضَ الشيءِ عنْ سعاده الفيلسوفِ وعنِ العدةِ المهنيّةِ التي استعانَ بها ليُنتجَ فلسفتَهُ الجديدةَ:
أنطون سعاده، أيهاالحاضرونَ المحترمون، كانَ موسوعةً جليلة في الفكر ِ‏والثقافةِ والأدبِ وكانَ كاتباًغزيرَالإنتاجِ تميَّزَ بالدّقةِ‏ والتحليل ِوالإبداع ِو‏نشأ على حبِّ اللغاتِ فبرزَ مثقفاً منَ الطرازِالرفيعِ ومطلعاً بعمقٍ على علوم شتَّى ‏وعلى فلسفات وتياراتٍ فكريّةٍ ورسالاتٍ دينيّةٍ وحضاراتٍ إنسانيّةٍ‏ وفنونٍ متنوعةٍ وكانَ لهُ فيها نظراتٌ عميقةٌ وصريحةٌ جداً. كمَا برزَ أديبا ًوناقداً مُبدعاً وصاحبَ رسالة ٍ‏أدبيّةٍ إنسانيّةٍ خالدةٍ تدعو للتجديدِ في الأدب والشعور والحياة ولإنتاجِ أدبِ الحياةِ الرفيعِ. وقد ‏تجلَّى إبداعُه ُفي أبحاث ٍومقالاتٍ نقديّةٍ عالج َفيها موضوعَ الأدبِ‏من ْأساسِهِ مُتعرِّضًا لحالةِ الفوضى السائدةِ في الساحةِ الأدبيّةٍ ومنتقد الطائفة ٍكبيرةٍ من الأدباءِ ‏والشعراء ِوالكُتَّابِ الصّحافيين َالمعروفين َفي الساحةِ الأدبيّةِ في ‏سورية وفي العالمِ العربيّ.
وتجلََّتْ‏ عظمةُ هذاالرجلِ الثقافيّةُ في النتاجِ الفكريّ ِالضخم ِالذي تركَهُ للأمَّةِ والذي تضمنَ منظومةً منْ الأفكارِ والآراءِ العميقة ِفي ‏الفلسفة ِوالاجتماع ِوالاقتصاد ِوالسياسة ِوالدين ِوالأدبِ والموسيقى ‏وغيرِهَا من ْميادينِ الفكرِوالعلم ِوالفنونِ.
وآمنَ سعاده بالعلمِ والعقلِ ‏الشرعَالأعلى والشرعَ الأساسيَّودعَا إلى استخدامِ العلومِ ومواكبةِ عصرِ الإختصاصِ ‏الراقِي الذي نعيشُ فيه.‏ وبرأيهِ "إذا قصَّرَ بعضُ شعبِنا عنْ هذِهِ المواكبةِ فعلىالمتعلّمينَ ‏ألاّ يتعامَوْا عنْ "قوّةِ الحقائقِ العلميّةِ.."‏ فالعلمُ برأيهِينقذُنا منَ السذاجةِ، وبخاصةً في ‏القضايا الاجتماعيّةِ السياسيّة.
وسعاده اعتمدَ المنطقَ الزينوني وقوانينَهُ واستندَ إلى الحقائقِ العلميّةِ والأدلّةِ القاطعةِ وإلى ما ‏توصلَتْ إليهِ دراساتُ العلماءِ وأبحاثُهُمفي مختلفِ المجالاتِ. ومنْ يقرأْ ‏كتابَهُ العلميَّ:"نشوءُ الأممِ"، على سبيلِ المثالِ، يُلاحظْ أنَّهُاعتمدَ المناهجَ العلميّةَ واستمدَّ الحقائقَ الاجتماعيَّةَ منْ ‏دراساتٍ وأبحاثٍ قرأَهَافي لغاتٍ أجنبيّةٍ لعلماءِ الجيولوجيَا ‏والجغرافيَا والانتروبولوجيّةِ والآثارِ والتاريخِوالفلكِ وغيرِهم.وفي كتابِهِ "الإسلامُ في رسالتيه" يُوضِحُ سعاده أنَّهُ وضعَ أطروحتَهُ منْ أجلِ مُحاربةِالتدجيلِ العلميِّ والتدجيلِ ‏الدينيِّ والاستهزاءِ بالتعاليمِ على الإطلاقِ، سواءَ أكانَتْدينيّةً أمْ ‏غيرَ دينيّةٍ..."
وسعاده الفيلسوف شدّدَعلى قاعدةِ الوضوح ِوالانضباطِ الفكريِّ والتشديدِ اللفظيِّ و"اجتهد َكيلا يبقى كلامُه مطلقاً،‏بدونِ شواهدَ واضحةً. قرأَ ‏الكُتبَ الأجنبيّةَ والعربيّةَ بتعمُّقٍ، وسفّّهَ بعقلِهِ العلميِّ الواقع يِّالمغالطةَ والتفكيرَالعامّيَّ المنحطَّ‏ الخالي َمنْ كل ِثقافة ٍودراسة ٍصحيحةٍ. كما سفّّهَا لتأويلاتِ السطحيّة والأحكام َ‏الغامضة َوالتعاميمَ المطلقةَ والآراءَ المُضللةَ المرتكزةَ على الوهم ِ‏والخيال ِوالتعصُّب وقدَّمَ لنا التعاريفَ الواضحةَ والتحديداتِ الدقيقةَ ‏والنتائجَ المُنسجمة والمُترابطةَ والمُستندةَ على أسسٍ علميّة ٍ‏وواقعيّةٍ. وباختصارٍ نقول ُأنّ سعاده كانَ صاحبَ تفكيرٍمنهجيّ ٍوكان منطقيًّا في أفكارِهِ وخلاّقًا برؤيتِه ِ‏وواضحًا بمفاهيمٍهِ وآرائِهِ.
هذاالرجل ُالزعيم ُالمعبِّرعن حقيقة الأمة وتطلعاتها والذي عاشَ كلماتِه ِوجسَّد َالمثل َوالمناقبَ ‏في ذاتِه ِوفي مسيرةِ حياتِهِ،هذا القائد الجريء الذي تمتّعَ بنفسٍ كبيرة ٍ‏في إيمانِه َاوحبِّهَ اوإخلاصِه َاوغنيّةٍ في أحلامِه َاالكبيرةِ ورغائبِهَ ا‏العاليةِ، هذا المعلم – القدوة الذي خاطب أجيالاً لم تولد بعد شقَّ الطريقَ لحياةِ الأمّة بالمبادىءِ الجديدةِ التي وضعَهَا والتي كوّنت فلسفةَ نهضةِ الأمّةِ ماديًّا وروحيًّا. هذه الفلسفة المدرحية التي ترى أنَّ أساس َالارتقاءِ الإنسانيِّ هوأساسٌ ‏ماديٌّ روحيٌّ هي فلسفةُ التفاعلِ الموحَّدِ الجامعِ لقوى الإنسانيةِ القائلةِ بتعاونِ المادّةِ والرّوحِ في كلِّ معركةٍ إنسانيةٍ غايتُها تحسينَ الحياةِ وتجويدَهَا.
والحقُّ نقولُ، إنَّ المدرحيةَ لا تعنى بالماورائيّاتِ ولا تقدِّمُ نظرياتٍ مجرّدةً وتصوّراتٍ خياليّةً أو افتراضيّةً بلْ هي فلسفةٌ وجوديّةٌ صراعيّةٌ عمليّةٌ تصّبُ اهتمامَهَا على الوجودِ وقضاياهُ وتسعى لتحقيقِ الحياةِ الحرّةِ الجميلةِ، حياةِ العزِّ والخيرِ والشرفِ والانتصارِ.فهي فلسفةٌ غائيةٌ لحياتِنَا القوميّةِ لأنَّهَا تبغي خروجّنَا منَ التفسّخِ الروحيِّ والبلبلةِ الفكريّة ِوالتمزّقِ الاجتماعيّ والشك ِوالفوضى إلى حالةِ الوحدةِ والوضوحِ والجلاءِ واليقين ِوالثقةِ بالنفسِ. وهي دعوة ٌللحداثةِ لأنَّهَا تبغي تأسيسَ عقليّةٍ أخلاقيّة جديدةٍ وبناءَ الإنسانِ الجديدِ في فكرِهِ وشعورِهِ، الإنسانِ - المجتمعِ الذي يعملُ لخيرِ مجتمعِهِ ورقيِهِ والذي يرفُضُ الاستزلامَ والعيشَ الذليلَ ويحيا لقضايا الحياةِ العاليةِ وغاياتِهَا العظيمةِ. وهي دعوةٌ للعصرنةِ لأنَّها تبغي الإصلاحَ الحقيقيَّ لا الشكلي، إصلاحِ النفوسِ وتحريرِهَامنالمساوىءِوالأهواءِ والنزواتِ‏الفرديّةِ وبناءَ الدولةِ العصريّةِ الديمقراطيةِ المنبثقةِ عنْ إرادةِ الشعبِ التي تُساوي بينَ كلِّ المواطنينَ في الحقوقِِ والواجباتِ.. وهي دعوةٌ للبناءِ لأنَّهّا ترفُضُ حالةَ الفسيفساءِ والانقساماتِ النفسيّةِ والاجتماعيةِ في حياتِنَا وتريدُ بناءَ المجتمعِ القوميِّ الاجتماعيِّ الجديدِ المتحصّنِ بوعي أبنائِهِ ووحدتِهِم والخالِ منَ الظلمِ والتعسُّفِ والجهلِ والانحطاطِ الأخلاقيِّ ومنْ ثقافةِ التعصُّبِ والخوفِ والتقوقعِ والانغلاقِ وكلِّ أشكالِ التفرقةِ والانقساماتِ.
والمدرحيةُ هي فلسفةٌ لمصلحةِ الإنسانيّةِ وعمرانِهَا لأنَّها ُتعبِّرُ عنْ حاجاتٍ إنسانيّةٍ عامّةٍ وتقدِّمُ رؤيةً حضاريّةً جديدةً لإنقاذِ ‏العالمِ منْ تخبُّطِهِ و"لإعادةِ النبوغِ السوريِّ إلى عملِهِ في إصلاحِ المجتمعِ الإنسانيِّ وترقيتِهِ".
وهذه الفلسفةُ القائمةُ على الولاءِ للمجتمعِ وعلى الحبِّ لهُ لا تعترِفُ بالدجلِ والتكاذبِ والرياءِ ولا بالبُغضِ والحقدِ والضغينةِ أساسًا للحياةِ. بلْ هي تُنادي بالتسامحِ القوميِّ وبالمحبّةِ القوميّةِ الصافيةِ وتعملُ للوحدةِ والألفةِ والوئامِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحدِ. فهي تدعونَا لأنْ نكونَ طغاةً على الأنانيةِ القبيحةِ والمفاسدِ الاجتماعيّةِ وحربًا على الحزبياتِ الدينيّةِ والتعصبِ الطائفيِّ لأنَّ المجتمعَ يهلَكُ بالطائفيةِ ويحيا بالآخاءِ القوميِّ.
والفلسفةُ القوميّةُ الاجتماعيّةُ التي تدعونا للإيمانِ الُمطلقِ بحقيقتِنا الجميلةِ وتؤكّدُ أنَّ في النفسِ السوريّةِ أجملَ المثلِ العليا، هذه الفلسفةُ الأصيلةُتزرعُ في نفوسِنَا الوجدانَ والأملَ والإيمانَ وفيضًامن الحبِّ الذي يُغني الذاتَ بالسعادةِ والنبلِ والوفاءِ ويمنحُهَا القوّةَ والقدرةَ على الخلقِ والإبداعِ. يقولُ سعاده: "إذا اضمحلَّ الحبُّ فماذا يبقى من الحقيقةِ؟ ويقولُ أيضاً: "متى وجدَ الإنسانُ الحبَّ فقدْ وجدَ أساسَ الحياةَ والقوّةِ التي ينتصرُ بها على كلِّ عدوٍّ ". هذا الحبُّ الذي بِهِ وحدَهُ يحيا الإنسانُ وتُبنى الأوطانُ لا يراهُ سعاده خدودًا ونهودًا وشهواتٍ بلْ يراهُ حبًّا مدرحيًّا ساميًا إذا قرّبَ فمًا إلى فمٍ سكبَ نفسًا في نفسٍ، هو حبُّ النفوسِ الجميلةِ المؤمنةِ التي تشتركُ في فهمِ جمالِ الحياةِ، هو حبُّ النفوسِ المصمّمةِ على الوقوفِ معًا في تحقيقِ غاياتِهَا ومطالبِهَا العُليا في الحياةِ، هو حبُّ الأرضِ والمجتمعِ والإنسانِ، حبُّ العملِ والبناءِ، حبُّ العطاءِ والتضحيةِ حتّى الفداءِ، حبُّ العزّةِ والحياةِ الحرّةِ الشريفةِ، حبُّ الموتِ متَى كانَ طريقًا للحياةِ.
ختامًا، نقولُ أنَّ سعاده الفيلسوفَ لم يأتِنَا بالخوارقِ والمُعجزاتِ ولم يأتِنَا بتعاليمَ فيها أباطيلُ ومبالغاتٌ، بل أتانَا مؤمنًا بالحقائقِ الراهنةِ التي هي نحنُ. جاءَنَا بالعقيدةٍ القوميّةِ الاجتماعيةِ المناقبيّةِ ودعَانَا لنشقَّ طريقّ الحرّيّةِ والحياةِ لأمَّتِنّا العظيمةِ الجديرةِ بالخلودِ والمجدِ. فإليكُمْ نقدِّمُ هذهِ العقيدةَ وندعوكُمْ لتبنُوْا معَنَا المستقبلَ بالعقلِ والعلمِ والمعرفةِ والانفتاحِ ليكونَ لنا وطنٌ جميلٌ فيهِ الخيرُ والبحبوحةُ والحبُّ والجمالُ وفيهِ النورُ والدفءُ والخصبُ والحياةُ.
*
كلمة الاديب سركيس كرم باللغة الانكليزية

"There is no greater satisfaction than in the task of promoting knowledge and spreading enlightenment through the launch of a book which contains the thoughts and vision of inspiring leaders. Today, we witness the launch of an extremely important book by Edmond Melhem whose tremendous work and impressive research to further explore and analyse the ideology and philosophy of Antun Sa'adeh confirms the sustainment of cultural wealth and creative talent that prevails within the ranks of the Syrian Social Nationalist Party.
Sa'adeh said in 1935 "I organized the party in the fashion that focuses on the quality of each recruit." Clearly, the quality of recruits is in evidence with the number of scholars and thinkers like Edmond Melhem who have distinguished the SSNP with the presence of an abundant assembly of intellects. The constant release of publications, analytical journals and literature which tackle various social and national issues reaffirm the Sa'adeh inspired culture.
I must admit that Edmond Melhem's book has given me a chance to discover in depth the philosophical thought of Sa'adeh and to view Sa'adeh's legacy with a slightly different perspective. For a 45-year old, born on 1st of March 1904 and blatantly assassinated on the 8th of July 1949, Sa'adeh left an enormous legacy that could not only redeem the nation if embraced and implemented properly, but would also establish a solid humanitarian platform for a better present and even a better future.
During his lifetime, with his sharp intellectual talent, unwavering national principles and exceptional leadership qualities, Sa'adeh represented a worrying dilemma to ignorant and in many cases corrupt politicians; thus it was not surprising to learn that they were relieved to see him executed and eliminated from the political scene as quick as was then possible. This trend of dreaded thinking continued after Sa'adeh and was carried out in various forms against members of his party. One of the main anti-Sa'adeh aims was to distort his image, his national drive and his social ambitions whether in Syria, Lebanon or the rest of the world. By publishing this book in English, Edmond Melhem succeeds in his quest to clarify certain issues in relation to Sa'adeh to the confused and often misinformed English speakers especially the Anglo-Saxon. This book drastically rectifies the situation by providing a well-documented and researched reference through which the ideas of Sa'adeh will certainly pave the way for clearer and more comprehensive mode of understanding among Western writers and readers.
Although, I am not here to engage in the debate on whether Sa'adeh was an ideologue or was a philosopher, I would be more than willing to disagree with those determined to fully restrict Sa'adeh's vision to constricted dimensions. I would rather declare him a universal visionary with a solid commitment to establish and preserve an obvious Syrian national renaissance capable of producing intellectual and national independence. The publication of Melhem's book in particular in English tend to take Sa'adeh's vision away from the narrowed viewpoint and into a new worldwide dimension without undermining the core of Sa'adeh's Syrian national drive.
According to Melhem on page 144, "The Ten Lectures," which contains Sa'adeh's speeches, has become a reference and the teaching book for the SSNP. This teaching book outlines the principles of the party and Sa'adeh's motives to form it. The basic characteristics of Sa'adeh's national ideology are summed up as such: a national and social ideology that seeks to unify the fragmented Syrian nation, a rational secular ideology that advocates a complete process of secularism, an authentic ideology rooted in the heart of Syrian life, a futuristic ideology for a better future and a humanistic ideology with a mission to guide other nations of the world and to carry the peace, prosperity and creativity. The humanistic ideology consolidates beyond doubt the universal outlook of Sa'adeh.
Sa'adeh focused on combining national consciousness and social duties to produce dynamic and progressive secular society. Such a drive could well be endorsed by any society anywhere in the world. His views on politics reflected a revolutionary concept. "Politics for the sake of politics could not possibly constitute a national act," he declared. A universal leader is one who envisages a set of ideals that could be embraced by people all over the world. Sa'adeh was certainly of that unique calibre. He was a writer, a thinker, a visionary, an advocate of moral values and a brave nationalist leader. Secularization was a key factor in his ideology. Sa'adeh listed the secular concept as number one when outlining his reform principles when he announced: "I also laid down a number of reform principles, namely, the separation of religion from the state, turning production into an infrastructure for the distribution of wealth and labour, and the establishment of a strong army that can play an effective role in determining the destiny of the nation and the homeland."
Edmond Melhem examines Sa'adeh's national concern to develop among his people a sentiment of nationality or as he said "to awaken the national consciousness of his compatriots." Melhem notes that "like many national ideologues and leaders, Sa'adeh assumed the role of national educator to instil in his people a sense of being a nation with great history, bound together by certain special attributes. Melhem stresses that the geographical environment constitutes an integral part of Sa'adeh definition of a nation. Sa'adeh agreed with Pascal Mancini that the "nation is a natural society" while he saw "the geographic environment is as essential for the life of the community or society as the earth is for life." Sa'adeh placed obvious importance on the building of a viable, solid and superior nation by the commitment of well-educated nationalist society. Such a nation would enjoy real independence in every respect and would cease to be under the hegemony of foreign powers.
Throughout the book which is written in a flowing elegant and academic style, Edmond Melhem underlines the essential chapters of Sa'adeh's life and ideas; his background, character, writings, national ideology, thoughts, literature and impact. Every chapter reinforces the universal leadership attributes of Antun Sa'adeh still very much relevant for today's world. On page 289, Melhem sheds light on Sa'adeh's "Islam in Two Messages" in which he explains the essence of religion and promotes the unity of Christianity and Islam. The "Impact" is another important chapter which ascertains that Sa'adeh's impact was not strictly political, but rather influenced key aspects of social culture. The chapter displays the impact of Sa'adeh's school of thought on literature and leading writers such as Adonis, Yusuf al-Khal, Khalil Hawi, Said Taqi al-Din, Salah Labaki, Muhammed al-Maghut and others. Sa'adeh's impact also influenced Arab art, music and theatre.
Edmond Melhem concludes his extremely valuable book by saying: "Antun Sa'adeh was the creator of a national renaissance that aimed to eliminate reactionary and backwards social mentalities, and inspire people with a sense of national consciousness, through which they would strengthen their national unity and put an end to their division and miseries." With his latest work, Melhem proves once more that Sa'adeh's thoughts are well and truly alive and often invigorated through loyal nationalists like him. Out of this context, the SSNP will remain a standout in as far as preserving and promoting Sa'adeh's legacy via cultural and inspirational means in order to advance the nation.
Finally, I extend sincere congratulations to Dr Edmond Melhem and may he continue to produce similar brilliant work in the future."

مفهوم الحرية في الفلسفة القومية الاجتماعية

مـفـهـوم الحـريـة
في الفـلسفة القـومـية الإجـتـماعـية(1)


للرفيق الكاتب والشاعر يوسف المسمار

مشـكلة الحـرية عميقة الجـذور في تـواريخ ألأمـم . تـناولها الفكر الإنســاني في جـميع عصوره ومراحله، وفي جـميع ميادين ونواحي نشاطاته من فلسفية وأدبية وعلمية واقتصادية وسياسية...الخ لهذا لن ند ّعي بأننا أول من طـرق باب هـذا الموضوع ، ولا آخـر من سيخـوض غـماره . فقد تناوله بالدرس والبحث غيرنا كثيرون .فتعددت بذلك مفاهيم الحرية بتعدد الدارسين والباحثين ، وتمايـزت وتـنوعت بـتـمايـز وتـنوع الجـماعـات ، والبـيـئات ، والأزمـنة ، ومستويات حضارات الشعوب .
إلا َّ أن الجديد عندنا هـو الرؤية الجديدة للإنسان والحرية . فـنحن لا نقول بوجود حرية مستـقـلة بذاتها . لأن الحرية الحقيقية كـما نفهمها ليست حرية العدم ، بل حرية الوجود . الوجود الإنسـاني الكامل . الإنسان الذي هو مقياس كل الأشياء ، ومتجه كل القـيم .
قبل أن نوضح مفهومنا للحرية ، علينا أن نوضح مفهـومنا للإنسـان الذي هو سبب وجودها وغايتها .
وتوضيح مفهومنا للإنسان يتطلب ، بالضرورة ، إيضاح نظـرتنا الى الحياة الإنسانية في نشوئها ونموّها وتطورها وارتقائها .
ولما كانت هذه العجالة لاتـتسع لبحث اجـتماعي وفـلسفي يفي الموضوع حقه من جميع جوانبه ، فإننا نـكـتـفي بالإشارة والتـنـويه بأهم النظـرات والنـظـريات التي استـنـد اليها أو التـزم بـها النـوع الإنســاني في خـطـوط وخِـطـط تـفـكيره التاريخية التطـوريـة ، لـنـشـيـر بـعــدها الى نـظـرتـنا الجـديـدة الى الانسان التي يـمكـن تـسـمـيـتـهـا بالنظرة المجتمعية العقلية .
1 ـ النظرة الـروحية الغيـبـيـة
هي نظرة تقرر انبثاق " الوجـود من العـدم " ويـرى اصحابها ودعاتها الإنسان في كمال وجوده فـردا ً ، ويـرون ايـضا ً البـشـــر في كل بيئاتهم ومجتمعاتهم عائلة واحدة ، ويتركز بنظرهـم أسـاس المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية في الأسـاس الغـيـبي الـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تعـكس بعـضا ً من ارادتـه ، وتـتـحـرك بأوامـره تبعا ً لنواميسه وقـوانينه التي يخرقها بمعجزاته ويعطل سـيـرها حـيـن ومتى يشـاء . وهـذه النـظـرة هي أرقى ما تـوصل اليـه
الإنســان قـديـما ً في ثـورته على بدائـيته ووحشيـته على الرغـم من كـونها نظـرة ماورائـية افتراضية تكهـنيـة جزئـية أدت الى مفهـوم فردية القـيـَم وماورائـيتها ، بحـيـث رأت الحـرية مـثـلا ً حـرية فــردية . ورتـّـبت على الفـرد الانســاني مســؤلية تـجـاه قـيـَـم ماورائـية مـجـردة تـهـيـمـن على كل تـفـكيـره ، وتسـيـطـر عـليه سيـطـرة تامة . وهذه النظـرة ما تـزال تتحكم بالمـجـمـوع الأعظم من البشر في كل مجتمعاتهم .
2 ـ النظرة المادية التكـهـنـية
هي النظـرة التي تـقـرر انبثاق الـوجـود من " تـطـور مادي تلقائي "وقــد رأى أصحابـها ودعاتها وفلاسفـتها الماديـون الإنسان في تمام وجـوده ايضا ً وجـودا ً فــردا ، ورأوا البشــر رغم تمايـز وتـمـيـّز بيئاتهم ومجتمعاتهم مجـتمعا ً واحـدا ً ، واعـتـقـدوا أن المثـال الأعلى
للقـيـَم الإنســانية ، في مفهـومهم ، يـتـركـّز في الأســاس المـادي الـديالكـتيكي الـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تـعـكس بعـضا ً من جـدليته وتـتـحــرك تـبـعا ً لنامـوس حـتـمـيـتـه الـذي لا يخضع لتـغـيـيـر الا تـغـيـيـر القـانون الجـدلي . وهـذه النظـرة كانت رد فعـل على النظرة الـروحـية الغـيـبـيـة الإفـتـراضيـة . فـتـناقـضت معها من حـيث النتائـج الأخيـرة، وانسجـمـت النظرتان الروحية والمادية من حـيـث أسلوب المواجهة ، وموقفهما من علة الكون . فـحـل إفتراض " التطـور التلقائي "عـنـد الفلاسفة الماديين مـحـل افتراض " واجب الوجود" عـنـد الفلاسـفـة الروحـيـيـن . مما أدى الى مادية القـيـَـم بـدل ماورائـيـتـهـا ، وثنائـية التناقـض في المثال الأعلى المادي بـدل الوحدانية الغيبية في المثال الأعلى الروحي .
3 ـ النـظـرة المـجـتمعية العـقـلية
وهذه النظـرة هي عنوان نظرتنا المجتمعية الإنسانية الواقعية التي هي ليست رد فـعـل على النظرة الروحية ، وليست رد فـعـل على النظرة المادية . وانما هي نظرة عملية واقعية علمية شاملة الى الـواقـع الإنساني في نشـوئـه ونـمـوّه ، ونشوء المجتمعات وتطورها، ونشوء الأمم وتمدنها وارتقائـها ، ومـعـنى القومية ووعيّ مضامينها وفهم واستيعاب القـيـَم الإنسانية العليا وممارسة الصراع لتـحـقـيقها . هذه النظرة لا تبـدأ مما قـبـل الإنسان . ولا تـهتم بما هو خارجه او بعده
بل تهتم بكل ما له علاقة به . ان هذه النظرة تـبـدأ من وبالإنسان . وتهتم به ، وبكل ما من شأنه تـحسين حياة الإنسان وتـجـويـدها وتـشــريفها وتـوسيـع آفاق تـقـدمها وتـرقـيـتها، وهي تـنـتـهي فيه . وهي ترى أن الإجتماع كما ذكر المعلم أنطون سعاده في مـؤلفه العلمي " نشوء الأمم" " حـتـمي لـوجـود الإنسان ، ضـروري لبقائـه " وعلى هذا فـقـد قـررت هذه النظرة أن الإنسان في كمال وجـوده هوانسان ـ مجتمع وليس انسان ـ فـرد ، وأدركت من البدية أن أساس الإرتقاء الإنساني ليس
أساس روحي وحسب ، ولا هو أساس مادي خالص بـل هـو أساس مادي ـ روحي . أي مـدرحي دون ثنائـية .
وهذه النظرة تنطلق من نظرة المعلم أنطون سعاده وتـعـمل بقوله الشهير " ليس المكابـرون بالروح بمستـغــنيـن عن المادة وفلســفتها ، وليس المكابرون بالمادة بمستغـنيـن عن الروح وفلسفته . إن أساس الإرتـقاء الإنساني هـو أساس مادي ـ روحي ، وإن الإنسانية المتـفـوقة هي التي تـدرك هذا الأساس وتـشيـد صـرح مستـقـبلها عليه " وكما تـرى بعين الـوضـوح واليقين والعلم مـجتمعية الإنسان ومـدرحيته، لا فـرديته المادية ولا فـرديته الـروحية ، فإنها ترى أيضا ً بعين الـواقـع
والعلم أن الكرة الأرضية الكروية هي واقـع بيئـات جـغـرافية مـتـعـددة ومـتـنـوعة ، وان العالم الإنساني هـو واقـع مـجـتمعات قـومية متمايزة.
انه واقـع أمـم . واقـع انسانيات ثقافية حضارية متعايشة متعاونة ولا يمكنها ان تعيش وتـتـطور وهي المعتزلة الواحدة منها عن الأخرى ، بل عليها ان تكون على اتصال بعضها بـبعض . وهذه النظرة ترى أيضا ً أن مطلقـية القـيـَم الإنسانية هي في كـونها قـيـَم مـجـتمعية قـومية
مـدرحـية انسانـية مـتــنوعة في انسجام ، ومـتـعــددة في تناغـم ،ومـتـمايزة في تفاهم .
وبناء على ما تـقـدم فإن مسؤلية الفـرد الإنساني النهائـية ليست ولا يمكن ان تـكون تجاه القـيـَم الماورائـية المجـردة ، ولا تجاه المثال المادي في الحياة ، وإنما هي مسؤلية تجاه المجتمع الذي ينتمي اليه الفـرد ولا يستـطـيع اختياره إلا بـقـدر ما يختار والديه . فالمجتمع هـو مـصـدر الأفراد
وهـو بالتالي مـصـدر القـيـَم وغايتها ، وهـو أيضا ً المدى الصالح والحيوي الذي يـفـسح المجال لبروز الشخصية الـفردية ونـمـوّها ورقيّها واطلاقها الى أبـعـد مـدى .
وعلى هذا الأساس فإنـنا نـجـد أن القيـَم الفـردية أو الفـئـوية أو المـذهبية أو الطبقية لا تستـطـيع مهما ارتقت أن تـصل الى مستوى القـيـَم الحقيقية الإنسانية ، لأنها لا تـقـدر أن تـتـعـدى في اهتماماتها نطاق الفرد أو الفئـة أو المذهب أو الطبقة أو الأقلية أو الأكـثـرية .
وبما أن المجتمع يحضن الفرد والفئة والمذهب والطبقة والأقلية والأكثـرية وكل الشرائـح ، فإن القـيـَم القومية الإجتماعية الإنسانية هي قـيـَم جميع الأفراد والفئات والمذاهب والطبقات والأقليات والأكثريات وكل الشرائح الإجتماعية .
وحيث ان المجتمع القومي هـو عنصر أساسي في مـُرَكـّـب العالم الذي نسميه الانسانية المترابطة فيما بين أمـمه بواسطة ثقافاتها وعلاقاتها وآدابها وابداعاتها ، فإن القـيـَـم الإجتماعية القومية هي قـيـَم انسانية عامة لجميع بني البشر . وكلما ارتقى الفكرفي أمة ، وارتـقت مفاهيمها ، وتـوسعت آفاق نظـرها ، وابعاد مـُثـُـلها العليا ، فإن وسائـل تفاهمها مع غيرها من الأمـم تـصـبح أرقى ، وقـيـَمها تـصـبـح أكثـر انسانية وأكـثـر قـبـولا ً وتـبـنـيا ً.
وبناء على كل ما ورد ذكره ، فإن مسؤلية كل فـرد إنساني هي أن يكون مواطنا ً صالحا ً منتجا ً في المجتمع وليس في الفئة ، ولا في المذهب ولا في الطبقة ولا في الطائفة ولا في أي شكل آخـر من أشكال التجمعات البشرية المنغلقة أو المنفلشة . وحين يتحول أبناء المجتمع الى مواطنين صالحين منتجين ، فإن مجتمعهم يـُصـبح ، بلا شك ، عـضـوا ً سليما ً فاعـلا ً في حـركة إغناء التـجـدد والإرتقاء الإنسانيـين ، وتـكوين عالم انساني جـديد بـقـيـَم انسانية أرقى وأسمى .
على ضـوء هذا المفهـوم الجـديد للـوجـود الإنساني يتـضح أن الوجود الكامل السليم الصحيح ليس وجودا ً فرديا ً بل إجتماعيا ً ، وليس وجودا ماديا ً منفصلا ً عن الروح ، ولا وجودا روحيا ً مـجـردا من المادة ، بل هـو وجود مادي ـ روحي واحـد دون ثنائية . وجود مـدرحي انساني
إذا تـجزأ فـقـد انسانيته وتلاشى . ولأن واقـع الكوكب الذي نعيش عليه ليس بيئة واحـدة ، بل واقـع بيئات متنوعة ، مما يجعل العالم الإنساني واقـع مجتمعات متمايزة . واقع أمـم .
فإن الوجود المجتمعي الأتم الكامل هـو وجـود الأمة التي لا تعني جيلا ً واحـدا ً في حقبة من الزمن ولا تعني عـدة أجيال في عـدة حـقـب زمنية بل تعني وحـدة حياة الجماعة الانسانية وحـركتها المستمرة على بقعة أو بيئة معينة من الأرض تفاعلت معها وتتفاعل وسوف يستمر هذا التفاعـل منذ كانت الحياة الانسانية الى ما سوف تكون .
استنادا الى هذه النظرة التي تقول بالانسان ـ المجتمع ، والتي ترى أن الأفراد هـم امكانيات وفعاليات اجتماعية فان المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية يتركز على الاساس المجتمعي الانساني حيث يكون المجتمع
هو مصدر كل القـيـَم ومآلـها . وحيث يكون ارتقاؤه المستمر الشرط الأساسي على أهليته وجدارته في الإبتكار والإبداع والخلق ، وحيث يـدل على مبلغ السمـوّ في رسالته الحضارية الى الشعوب الأخـرى،
ويشير الى جـدية مشاركته في الصراع الانساني من أجـل تـحـقـيـق " حياة أجـود ، في عالـم أجـمل ، وقـيـَم أعلى " فـبـدلا ً من فـردية القـيـَم وماورائيتها كما تقرر في النظرة الروحية الغيبية ، وبـدلا ً من فردية القـيـَم وماديتها وخضوعها لبعض القوانين الحتمية التي توصل الى اكتشافها أو تقريرها العـقـل الانساني في زمن مـعـيـّن ، ومكان مـعـيـّن ، ومستوى ثقافي مـعـيـّن ، فإن القـيـَم تصبح في المفهوم الجـديد قـيـَما ً اجتماعية إنسانية تـبـدأ من وبالمجتمع وترتقي وتسمو بقدر ما في المجتمع من طـاقة على الارتقاء والســمـوّ . وتصبح مسؤلية الأفراد ليست تجاه قـيـَم ماورائية مـجـردة ، ولا تجاه قـيـَم مادية خانقة ، بل تجاه قضية عـُظـمى تساوي كل وجودهم . ويتوقف على انتصارها أو انهيارها انتصار الأمة أو انهيارها . وانتصار العالم وغناه الانساني أو انهيار العالم وشيوع همجيته .
هذه هي بعض ملامح النظرة الجديدة التي تكشفت لنا بأحـد أبرز عباقرة أمتنا المعلم أنطون ســعاده الذي دفع دمه ثمنا ً لتكريس هذا الوعي وانتصاره في جميع أبناء أمتنا ، ليتنبهوا الى حقيقة وجودهم ، وليعـملوا من أجل تحقيق انتصار حقيقتهم ، فتستعيـد الأمة قـدرتها على الحياة والإبـداع ، وتحتـل مكانها اللائـق بها تحت الشمس .
وعلى ضـوء هذه النظرة الإجتماعية العلمية العـقـلية الـتـي لا تـبـدأ مـما قـبـل الإنســان ، ولا تـهـتـم بما بـعـده ، سنحاول تفسير المفهـوم الجـديـد للحـرية . مفهـوم الحـرية المجتمعية الإنســانية في رسالة الأمة السورية الى العالـم .
مـفـهـوم الحـرية المـجـتمعية
وبما أن الـوجـود المجتمعي الإنساني هو وجـود حـركة ، فإن الحـرية هي حرية الصـراع والتـقـدم . صـراع العـقـائـد في سبيل تحـقـيـق مجتمع أفـضـل . انها قاعـدة من قـواعـد نـهـضة كل مجتمع ، وهي الى جانب كونها قاعـدة هي ايـضا ً وسيلة من وسائـل تـقـدمه وازدهاره .
من الطبيعي أن القـاعـدة لا تـكـون فاعـلة أو تـكـتسب فاعليتها إلا من حيث هي جـزء في كـل مـُرَكـَّـب . لها مكانها ولها دورها ولها وظـيفـتها .
ولهذا فإن الحـرية لا تكون بالضـعـف بـل تكون مع القـوة . ولا تـكـون بالفـوضى بـل تكـون مـع النـظام . ولا تـكـون بالتخاذل بـل تكون مـع الشعـور بالمسؤلية والقيام بالواجب . ونحن لا نستـطـيـع أن نـتـصـور مجتمعا ً حـرا ً راقيا ً يـرضى بالجـهل ويـعـيـش بالتـخـلـّـف ، ويسير بالرذائـل دون الفـضـائـل .
يـتـبـيـّن من كـل ما تـقـدم ان للحـرية في مـفـهـومها الجـديـد مناخا ًخـاصا ً لا تـنـشأ بـدونه ولا تـنمو وتستـمر بـغـيـر تـوفـره .
وهذا المناخ لا يـقـوم بـدون مـقـومات أصـلية جلية ومتينة . وبما أن الحـرية هي ميزة الإنســان العاقـل وهي من أرقى مزايا الإنســان ـ المجتمع فإن مـقـومات نشــوء مناخها هي مقومات إجتماعية إنســانية نـهـضـوية ومن العـبـث أن نـبـحـث عن الأحـرار خارج نـهـضة المجتمع ، سواء كان ذلك في مناخ الإستسلام لـقـوى " الماوراء " أوفي مناخ الإستسلام للقوانين" الوضـعـية الإفـتراضية " التي وضعـها الإنسان أو قـررها في تعاقب أجياله . وكذلك لاتـفـيـد في شيء كل محاولات التـوفـيـق والتسويات التي تـجـري لتـقـريـب وجهات النـظـر المـتـناقـضة في النتائـج والمنسجمة في المـواقـف من مسألة عـلة الـكـون وأسـلـوب المـواجـهة .
إن الحـرية هي من أهـم الوسائـل وأفـعـل الأسباب التي يستطيع الإنسان بواسطـتها غـزو العوالـم التي ، ما تـزال قـدرته الإنسانية غـير كافية وغير مـهـيأة لإكتشاف خبايا وأسرار تلك العوالم. والتي تـسـفـه ، في حال اكتشافها ، الكثير من المفاهيم " الماورائية" والتعليلات التكهنية .
والحـرية في الـوقت نفسه هي من أقوى الأسلحة الفـعـّـالة في اكتشاف
نـوامـيـس كـونية وحياتية أعـم ، وقـوانين طـبـيعية أشمل تســاعـد الإنسان على التـخـلـّـص من عـبودية النظريات الحتمية والأحـكـام المسبقة . لأن الحقيقة البديهية التي يجب أن تبقى ماثلة أمامـنا هي : " أنـنا كلما صـعـدنا قـمة تراءت لـنا قـمم أعـلى ويجب عـليـنا أن نـصـعـدها ." وانطلاقا ً من هذه الحقيقة فإن كل قـول نهائي فاصـل في تعليل نشوء الكون أو تفسير نهايته ، هـو قـول باطـل مهما ارتقى أسلوب منطقه ، ومهما بـدت تعليلات حـدوثه واقعية للعـقـول الفـردية الجزئية . فالعـقـول الفردية تـحـتاج دائما ً وباستمرار الى مـزيد من التـعـقـل والتـبـصـر ، ومـزيد من النـمـوّ والنـضـج وسـمـوّ الإدراك . والحقيقة في نظري هي كما قال المعلم سـعاده : " انه لا يُوجد في العالم شيء يُسمى حقيقة ابتدائية . فـكـل شيء متعلق بما سبقه الى ما لا نستطيع ادراكه . "
واستنادا الى هذا الفهم الإجتماعي للإنسان ، فنحن نـقـرر أن القـيـَم
الإنسانية هي قـيـَم اجتماعية .
ولأن المجتمعات هي كائنات طبيعية حـيـّة نامية ، فإن القـيـَم الحقيقية هي القـيـَم الحياتية التي تـنـمو وترتقي بـنـموّ المجتمعات وارتقائها . وتـضـعـف وتـتـخـلف وتزول بضـعـف وتـخـلف وزوال المجتمعات .
ولذلك فإن أفـضـل تـحـديد للحـرية هي أن تبقى بدون تـحـديـد .
واذا كان لا بـد من تـعـريف الحـرية لتـقـريـبها من الأفهام ، فإن الحـرية تكمن في طاقة المجتمع عللى النـمـوّ الـدائـم ، وقـدرته على الخلق المتسامي ، وتكمن أيضا ً في جـدارته على ممارسة سـلبـيـته في مواجهة الكون الماثـل أمامنا ، وقدرته على تعديل وتصحيح وتصويب كل المفاهيم التي ظـهـرت حتى الآن من جراء تقصير العقول الفردية الجزئية ، التي كان قصورها بالذات ويبقى ، طريقا مسدودة ونهاية خانقة تقضي على كل أمـل للإنسانية بالنهـوض والتـقـدم .
من هنا كانت أهمية تـوفـر مناخ النهضة الذي هـو : " خـروج من البلبلة الى التعيين ." على حد تعبير المعلم سـعاده . ومن هنا كانت أهمية ولادة الإنسان الجديد الجـيـّد الناهض .
وتـوفـر مناخ النهوض أو النهضة ، وولادة الإنسان الجـديد هما أمران مهمان أساسيان ولا يمكن أن يحصلا إلا بتوفر المقومات الأساسية التالية :
المقوم الأول : الـوعيّ الإنساني
إن الـوعي الإنساني السـليـم هـو شـرط أساسي وجـوهـري لقيام ونـشـوء الحـرية ، لأن " المجتمع مـعـرفة والمـعـرفة قـوة ." والقـوة هي حـركة ديـناميكية حـيـّـة نامـيـة . والمـعـرفة التي نـقـصـد هي المـعـرفة الإنسانية بـكـل أبـعادها ، وبكل مستوياتها ومـقايـيسـها المنبـثـقـة من يـقـظـة المـجتمع ، وتـنـبـهـه لـوجـوده ومـعـنى وجـوده . وحـياتـه ومـصـالحـه في الحـيـاة. ومـصـيـره وكيفية تـحـسين وتـجـويـد وتـرقـية هـذا المـصـيـر.
إن الحـريـة هي وليـدة تـنـبـُّـه الإنسان الخـارج من الظـلـمـة الى النـور . ومن الشك الى اليـقـيـن . ومن الجـهـل الى العلم.فالجاهـلون المـتخـلفـون لا يـمارسون إلا جـهـلهـم وتـخـلفـهـم وانـحـطاطـهـم . إنـهـم عـبـيـد جـهـلهـم وتـخـبطهم وبـلبلاتـهـم وعـقـدهم وأمـراضـهـم التي لا تسمح لهم بأن يكونـوا أحـرارا ً.
وعلى عـكـسهم يكون الواعـون العارفون العاقلون أحراراً بوعيّهم ومعرفتهم وتـبـصـرهم وصراعـيـتـهم ، حيث يـؤكـد تـنـبـُهـهـم ، وتـؤكـد مـمارستـهم لوعـيـهـم وبطولتهم على إصالتهم وعلى صـفـاء حريتهم وسـمـوّهـم في حـريـتـهم .
إن الحـرية الإنسانية لا تـُحـَـد لأنها لا تكون إلا بالمعـرفة المـتـطـورة النامية بـغـيـر حـدود . كـتـطـور المـجتمع ونـمـوّه وتساميه الذي ليس
لـه حـدود . أما العبودية فـوحـدها هي المـحـدودة بالغـفـوة والغـباء والجـهل والتـخـلـف والإنـحـطـاط .
المـقـوم الثاني : المناقب الإجتماعية
إن المناقب الإجتماعية هي الشرط الثاني من شروط تـوفـر مناخ الحـرية التي يستحيل أن تكون وتـقـوم مع الرذائـل والمساويء والمـفـاسـد .
إن الحـرية مـنـقـبة . والحرية التي لاتكون مـنـقـبة وغيـرالمقترنة بالمناقب الإجتماعية الإنسانية لا تـكفي أبداً لكي يكون الـمـجـتـمـع حـرا ً . ولذلك لا بـد من تـوفـر عـقـلية أخـلاقية فاعلة يـمـارســها الإنسان وعـيـا ً ، وتـحـقـيـقا ً ، واستمرار مـمارسة ، فـيـعـبـّـر بـذلك عن حـريته الصـحـيـحة السليمة مـحـبـة ً ، وعـدلا ً، وحـقا ًوخـيـرا ً ، وجـمالا ً، ونظاما ً، وقـوة ، ومسؤولية ً، وعـطـاء ً، وتـضـحـية ، فـتـرتـفـع الحـرية الى مـستوى قـيـَمي ومـناقـبـي جـديـد وتـصـبـح، بالإضافة الى كـونـها قـاعـدة من قـواعـد النهضة القومية الإجتماعية ، فـضـيلة ً من فـضائـل هـذه النـهـضـة.
إن الذين يمارسون الفضائـل باستمرار ، ويـعـمـلون ويـعـطـون ويـضـحـون
في سبـيـل تـحـقـيـق المـُـثـُـل ِ العليا العظيمة لأمتهم هـم وحـدهـم الأحـياء الأحـرار بـوعـيـهـم ومـنـاقـبـهـم . أما الذين يعيشون بالرذائـل المـتـأتية من جـهلهم وتـخـلفـهم فليسوا من الأحـرار في شيء ، ولا يستحقون أن يكونوا أحرارا ً.
المـقـوم الثالث : التـقـدم الإجتماعي الإنساني
إن التـقـدم الإجتماعي الإنساني ، فـضـلا ً عن كـونه ميزة من مزايا نـمـوّ الإنسان ـ المجتمع ، ونـمـوّ وعـيـه ، وسـمـوّ مناقبه ، فإنه أيضا ً شـرط ثالث من شروط مناخ وجـود ،ونموّ، وسـمـوّ الحـرية . لأن المعرفة الفاضلة التي لا تنمو ، ولا تـتـطور، ولا تـتـقـدم وتـرتـقي ، فإنها تـتـحـجـّـر وتـنـغـلق وتـتـقـولب ، وتـُحـَـجـِّـر ، وتـُعـَـطـِّـل ، وتـخـنـق العـقـل الإنساني بمفاهيمها الجامـدة ، وقوالبها القاتلة . وتـتـحـول الى درك رديء من دركات العـبـودية .
إن قـدرة العـقـل الإنساني المجتمعي لا تـُحـَـد . والعـقـل هـو وحـده الذي يـضـع القواعـد ، ويـقـرر المفاهيم ، ويكتشف النواميس ، ويـُـذلـل كل عاصي . فإذا قـُولـِبَ العـقـل بالقوانين ، وحـُـوصـِر بالنظريات والتـنـظـيـر فـقـد بَـطـُـلَ أن يكون عـقـلا ً . لـقـد " وُجـِـدَ العـقـل ليعـرف ، ليدرك ، ليتبصـر ، ليـمـيـّـز ، ليـعـيـّن الأهـداف ، وليفـعـل في الوجـود . " على حـد تعـبـيـر المعلم أنطون ســعاده.
وبالعـقـل ليس للحـرية حـدود . لأن العـقـل يسمو ويتسامى بـغـيـر حـدود . فـحريتنا ، تقاس مـثـلا ً ، بـقـدر ما نحن مـتـقـد مين وسباقين ومتفوقين في مضمار الحضارة وليس بنسبة ما نحن متخلفين ومتأخرين وخاملين . وحريتنا يجب أن تـقاس بالنسبة لما حـقـقـته أرقى المجتمعات الحضارية التي تجاوزناها في مفهومنا المجتمعي الجديد للحرية وليس بالنسبة للمجتمعات المتخلفة الغبية .
إن الـوعيّ ، والـمناقب ، والتـقـدم ، هي مقومات أساسية وشروط
مهمة ضرورية لا يمكن أن يتوفـر مناخ الحرية المجتمعية الإنسانية بـدونـها . وهي وعي المجتمع حقيقة وجـوده ،ومصالح حياته،وتعيـين أهـدافه ومـُـثـُـله ، وممارسة الفضائـل والمناقب القومية الإجتماعية لتوليـد عـقـلية أخلاقية جـديدة جـيـدة ،وصـراع بالوعي والمناقب لتحقيق أسمى المـُثـُل وأبعـد المرامي التي تليق بأصحاب النفوس الجميلة العظيمة .
هذا المفهوم الجديد للحرية قادر أن يستوعب جميع المفاهيم الجزئـية للحرية في العالم لأنه يقول بحرية المجتمع كل المجتمع.وليس بحرية فـرد فقط ، ولا بحرية فئـة ، أو طائـفة أو طبقة .
إن المجتمع هـو حـر بقـدر ما فيه من وعيّ ومعرفة ، وبـقـدر ما يمارس من المناقب والفضائـل ، وبـقـدر ما يحـقـق من التقدم والإرتقاء . ولذلك فإن المجتمع الحـر هـو وحـده الذي يتمتع فيه أبناؤه كل أبنائـه بالحـرية فـهم أحـرار لأنهم من مجتمع وفي مجتمع حـر . أما الذين يقولون بحرية سياسية أو اقتصادية أو دينية أو جزئية وعلى أساس فردي ، فإن مفاهيمهم تـبـقـى قاصرة عن مفهوم الحرية السليم الشامل كل هذه الشؤون .
إننا نقبل مفاهيمهم من حيث هي مفاهيم جزئية ، وليس من حيث هي مفاهيم شاملة . فالحرية التي تقول بها الرأسمالية الفردية مثلا ً ، والتي تبيح للفـرد في المجتمع أن يعـتـقـد بما يـريـد ، ويـقـول ما يـريـد ، ويـعـمـل ما يـريـد ، ليست حـرية حـقـيـقية شاملة . فما هي قيمة إعـتـقاد أو قـول أو عـمـل الفـرد الجاهـل السيء المتخلف في ظـل الأنظمة الجائـرة الفاسدة المستبدة المستغلة نشاط وجهود ونتاج الملايـيـن لمصلحة فـئـة ظالمة جـشـعة خائـنة متآمـرة ؟!
إننا نـقـول أولا ً بتحرير الفـرد من عـقـد المخاوف والأوهام والمفاسد والحاجات المادية والروحية وأمراض الأنانية والفـئـوية والمذهبية والكيانية الضيقة . ونعمل لإيجاد النظام النهضوي الجديد ، وتوفيـر المناخ
الصحيح الملائـم ، ليصبح لإعتقاد الفـرد وقوله وعمله وممارسته قيمة الحرية بـتـربيته على الـوعيّ ، وتـدريبه على حياة المناقب ، وتـشـجـيـعه على التـقـدم والصـراع .
مـفاهـيـم جـزئـية
أما الحرية الإقـتصادية التي قالت ونادت بها الفلسفات والمذاهب المادية ، والتي لاقت استحسانا ً عنـد الكثيرين من الناس ليست أكثـر من دليل على وجود الخلل والأخطاء في المفهوم الرأسمالي الفـردي للحـرية .
وبدلا ً من أن تكون الأقلية العددية متحكمة بحياة المجتمع ، ومسخـّرة كل جهوده لمنافعها بتسلطها على مصالح حياته ، وتسخيره لخدمة أغراضها الخصوصية في النظام الرأسمالي الفردي ، فـقـد شددت الماركسيةوحرضت على ثورة طبقة الأكثرية المسحوقة المحكومة على الطبقة الحاكمة والعمل من أجل إذلالها والسيطرة عليها وإنشاء : " دكتاتورية البروليتاريا " مكانها مجزئة ً بذلك المجتمع ، ومـدمرة ً وحدته باقتـتال داخلي ، ومعطلة وعيه ، ومحطمة ً مناقبه وروحيته، وقاضية ًعلى كل امل بالتقدم والرقي .
إن المفـهـوم الماركسي ـ بـدلا ً من التركيز على وحـدة المجتمع ـ شـدّد على تـفـتيته بـحـجة تـوحيـده ، وأثار الضـغائـن والحـقـد في نـفـوس أبنائـه فانـشلت حـركـته الإنتاجية ، وتـعـطـل فـعـل طاقاته التي يـجـب أن توجـّـه كلها لتـحسين أوضاع المـنـتـجـين بـتـحـسين حـياة المجتمع وتـرقـيـته بـتـمام وجـوده .
وهـو أيـضا ً ـ بـدلا ً من الرؤيـة العلمية الوقـعـية للعالم الإنساني كـواقـع مجتمعات متمايزة بحضاراتها ومواهبها وقـدراتها ـ فإنه تجاوز هـذا الواقـع وأثار بين الشعـوب حـروبا ً على غرار حـروب الـدول الرأسمالية الإستعمارية أدت الى استـعـباد كـثـيـر من الشـعـوب المـتـخـلفة بـدل مـساعـدتـها على النـهـوض والتـقـدم . فـصارت العلاقة بين الشـعـوب عـلاقة تابـع ومـتـبـوع بـدل أن تـكـون عـلاقـة التـعاون والإخـاء الإنسانـيـيـن التي هي في أساس الحـضارة العالمية والتـقـدم الإنساني ويـجـب أن تـكـون .
إنـنا نـجـد ـ في الحـقـيـقة ـ أنه كما قـصـّر المـفـهـوم الرأسمالي الفـردي الإستعماري التـسلطي فـكـذلك قـصـَّـر أيـضا المـفـهـوم المـضـاد. وتـطـورات المجتمعات وحـركات الشـعـوب كـانت أقـوى من أن تـسيـر بـحـسب نـظـرات ونـظـريات وضـعـها مـدَّعـو الفلسفة والعلم جـهـلا ً ،
وتـقـبّـلها الكـثـيـرون من أبـنائـنا غـبـاء ً. إن النـظـريات والقـوانـين والمباديء والـدساتـيـر والأنـظـمة هي لمـساعـدة الشـعـوب علىتـحـسين حـياتـها ، وتـرقـية مـصـيـرها. وجميع النـظـرات والنـظريات الـروحـية أو المادية أو التـوفـقـية كـانت وتـبـقى وسـوف تـسـتـمـر على مـشـرحة تـطـور الشـعـوب ونـهـضـاتـها وثـوراتـها . وحتى الأديان نـفـسـها هي خـاضـعة لحالة
الـنـمـوّ والـتـطـور والتـغـيـيـر . وتـكفي نـظـرة بسيطة الى التاريخ لـنـجـد كـيـف تـرومـنت المسيحية في روما ، وتـسـكـسـنـت في انكـلـتـرا . وكـيـف تـتـركت المـحـمـدية في تـركـيا ، وتـعـجـمت أو تـفـرسنت في إيـران . وكـيـف تـروسـنـت الماركسية في روسيا ، وتـصـيـنـت في الصـين ، وتـكـوبـنـت في كوبا. وكـيف تـفـرنـست النـظـريات الأخـرى من هـيـغـلية وشـخـصانية في فـرنـسا ، وتـأمـركـت في أمـيـركانـيا . وتـدرج تـأقـلـمـها صـعـودا ً أو هـبـوطـا ً في الشـعـوب النامية التي مـا تـزال تـعاني من إسـتـغـلال الـدول القـوية الإستعـمارية. إن كـل المزايـدات اللفـظـية الكـلامـية والـدعايات المـغـرضة لا يـمكنها أن تـقـوم مـكان الحـقائـق والـوقائـع والأرقـام .فالفـرد ـ مـثـلا ً ـ في ظـل الأنـظـمة الـرأسمالية الـفـردية الإستعمارية هـو حـرٌ في الظـاهـر في أن يـعـمـل أو لا يـعـمـل . ولكـنه في الحـقـيـقة والـواقـع والمـحـسـوس
هـو مـُجـبـَرٌ لكي يـعـيش أن يـعـمـل تـحـت أقـسى الشـروط التي يفرضها عليه أرباب العـمـل وأصـحاب الشـركات وجـمـيـع المـهـيـمـنـيـن على أرزاق العـباد . ولذلك فإن حـريـته هي حـرية العـبـودية والـذل ولـيـست حـرية الكـرامـة والـعـز .
والـفـرد ، أيضا ، في الأنظمة الماركسية الإشتـراكية حـرٌ في ممارسة الـدعاية والتبشير والـدعوة الى اعـتـناق عـقـيـدة مادية والعـمـل على تـقـوية وتـعـزيـز سلطة الدولة التي تشكل في حـد ذاتها شـركة كـبـرى يـديرها ويسيطـر عليها حـفـنة من الذين بـرعـوا في تـزويـر الحـقائـق وتـضليل الناس واستخدامـهم كـرها ً أو طـوعا ً من أجل مـآرب خاصة جزئـية وفـئـوية متذرعين بفلسفة مادية مصورينها للناس على انها عقيدة العقائد ،ونظرية النظريات التي لا نظرية قبلها ولا نظرية بعدها .
وهي في الحقيقة نظرية دعاية خادعة لا تـخـدم سوى المسيطـرين والمـهـيـمـنـيـن على مركز القرار والتقرير في الحزب أو الأحزاب التي تسيطر على مقدرات الدولة والأمة.
وكذلك حال المواطن الفرد في ظـل الأنظمة العسكرية التوتاليتارية الذي تأمنت له لقمة العيش في خدمة الحكومة المستبدة ، وتـأمن له العـمـل في حقولها ومصانعها ومزارعها ومكاتب شركاتها ، فأصبح غير قادر ـ مهما
وجـد النظام ظالما ً ومجحفا ً وسيئـا ًـ أن يقول رأيه بصراحة أو يحتج أو يرفض أو يبرز مواهبه في غير الخط المرسوم لـه . وليس لـه إلا الوظيفة المقررة لنشاطه من قبل المستبدين والمسيطرين على مرافق الدولة في حكومتها الجائـرة .
إن حـرية الـفـرد في هـذه الأنـظـمة هي حـرية التـبـويـق والتـصـفـيـق للأســياد الذين يستـخـدمون الناس عبيدا لقاء لقمة عيشهم مـجبرين على أعمال لا يـقبلها حـق ولا تـقـر بـها عـدالة ،وليست حـرية الأحـرار الأعـزاء الذين لا يـقـبـلـون بـغـيـرعـيـشة الشـرفاء وحياة الكـرماء . الحـرية المجتمعية هي حرية الصراع والتقدم
إنـنا نـقـول بالإنسان ـ المجتمع الذي هـو مـصـدر الفـرد ، ونطاق بروز وتـحـقـق شخـصـية الفـرد ، والضامن لإستمرار وجـود وخـلـود الفـرد .فـفي المجتمع أصـل الفـرد ومـصـدره . وفي المجتمع بروز شخصية الفـرد وتـحـقـق كيانه . وفي المجتمع بقاء الفـرد وخـلوده . والفـرد الحـر هو ابن المجتمع الحـر . ودرجة حـرية الفـرد تـرتـقي وتـرتـفـع سويتها بـنـسـبـة ما يـتـوحـدن بـقـضـية مجتمعه ، وبـقـدر ما يـعـمـل الفـرد من اجـل عـزة مجتمعه ورقيه . وليس بنسبة ما يـنـعـزل ويـغـتـرب عن قضية مجتمعه.
لأن في الإنـعـزال تـنـكـر للوعي والمناقـب يـؤدي الى التـقـزم والتـصـنـم والإنهيار . والحرية لا تكون أبـدا ً تـقزما ً وتصنما ً وانهيارا ً بل هي دائما انفتاح لا نهاية له ، وحـركة لا تتوقـف عن الفـعـل ، ونـمـوٌ من طبيعته الإستمرار .
من طبيعة الإنسان الـنـمـوّ . والنـمـو هـو نـمـوّ الوعي والفكر . والحـرية هي مـظـهـر نـمـوّ الفكر الذي يـوجـّه الإرادة ، فتسمو الإرادة بحرية الفكر وتزيده وضوحا ً وقـوة ً وفاعلية ، فيزداد تـألقـا ً ويزداد المجتمع تـقـدما ً وحـرية . ويصبح الإنسان مؤهلا ً لتحقيق : " الحياة الأجـود في عالم أجمل وقـيـَم ٍ أعلى." حيث يصبح لقاء الأمم الحـرة الناهضة ســبـيلا ً الى الإرتقاء الإنساني الصحيح وبلوغ عالم ٍموحـد " إذا كـشـفـت مـخـبـآت الأبـد أنـه سيكون ممكنا ً احـداث ذلك العالم ." كما نـوه بذلك المعلم سعاده.
إننا ننطلق في فهمنا من وحدة حياة المجتمع وليس من تجزئـته الى فتات .
ونرى في كمال وجـود أمتـنا وتمامه وجودنا الكامل الفاعـل كأفراد ، فنرفض كل ما من شأنه تجزئتنا وتفسيخنا أرضا ً وشــعبا ً وحضارة .
نحن وحدة حياة . لا قيمة للأرض بـدون شعبنا وحضارته . ولا وجـود للشــعـب والحضارة بدون أرضنا . ولا معنى للأرض والحضارة بـدون شـعـبـنا . ولأننا وحدة حياة على هذا المستوى ، فإن كل فرد من أفرادنا ينمو ويجب أن ينمو ، ومن حقه أن ينمو ، ولا معني لوجوده وشخصيته بغـيـر نـمـو . وعلى كل حكومة في دولته أن تسهر وتحافـظ وتعمل على نـمـو وتـقـدم وارتقاء كل فـرد دون تـمـيـيـز ، ودون تـحـفـظ ، ودون تـبـريـر. كما عليها أن تحافـظ على كل شبر من أرض الوطن لتبقى سلامة الأمة مصانة . وينبغي على الحكومات أيضا أن تـوفـر للشعب كل أسباب ووسائـل تنمية الحضارة وتوسيع آفاقها .
بهذه الأمور المتقدمة تكون الأمة حـرة ويكون أبناؤها أحراراً ، ولا معنى للحرية إلا بالقدرة على الإبداع وتحمـّل المسؤلية وممارسة فعل الصراع سحقا ً للبـاطـل وانتصارا ً للحـق .
إلا أن الـنـمـو الذي أشرنا اليه لا يكون أبدا ً ولا يستقيم بغير انتاج .
والإنتاج بـدوره مـتـنوع يشمل العلم والفكر ، والصناعة والزراعة ، والفن والإبداع ، والتضحية والصراع . ولهذا كان مبدأ الإنـتـاج في مفهومنا أنه : " يـجـب على كل مواطن أن يكون منتجا ًبطريقة مـا."
ليصح أن يكون مبدأ الحق في الجتمع الحـر هو أن :" لكل مواطن نصيبه العادل من الإنتاج العام ." في المجتمع كما توضح مباديء الفلسفة القومية الإجتماعية . ومبدا الإنتاج لا يتفق ولا يتوافق أبدا مع هـدر طاقات المجتمع وفعالياته . والمجتمع لا يتقدم ويرتقي باستنفاد واستهلاك كل جهود المواطنين وارهاقهم.بل يتقدم المجتمع بتهيئـة مناخ الإنتاج الفكري ـ العلمي ـ الصناعي ـ الزراعي ـالفني ـ الإبداعي ـ البطولي وتنظيمه ورعايته وتأمينه لما فيه مصلحة الأمة وسـلامة الدولة الجديرة والمؤهلة لخدمة مصالح الأمة وأهـدافـها بحيث تتأمن مصلحة كل مواطن وسلامته في الحياة الجـيـّـدة المتـنامية العزيزة الحرة.وحيث يعمل المواطن ليس خدمة خصوصية لبعض أفراد ، ولا لشركات ، ولا لمرافق حكومية ، ولا لأغراض جزئـية ولا حتى لإنتاج بذاته مهما كان هـذا الإنتاج ، بل انه يعـمل في سبيل تحقيق الحياة الجـيـّـدة المـُثـلى لأمته المتحدة حياته بحياتها والتي لا جودة لحياته إلا بجودة حياتها . فيضحي في سبيل انتصار مقاصدها العليا ، وغاياتها الشــريـفة ، وقـضـيتها العـُـظـمى الـتي تنطوي على أجـمل مقاصده ، وأشــرف غاياته . وتـعـبّر عن استقلال فكره وصحة إرادته وسلامة حـريته .
إن الأفكار الجـيـّدة تـتـحـقـق في المجتمع خلال مسيـرته ونضاله ولا يجوز أبـدا ً أن تـطـبـق على المجتمع أية فكـرة أو نظـرية أو أمــر كما لو أنه مادة من مواد الإختبار في المختبرات .
ولهذا بالضبط كانت ضرورة تـولـيـد عقيدة الوعيّ القومي الإجتماعي في كل أبناء المجتمع ، وإيقاظ وجدانهم المجتمعي العام ، وتنبيهـهم الى قضية وجودهم وحياتهم ومصيرهم ، وكانت بالتالي أهمية توفير المناخ الصحيح الملائـم لتأمين ســلامة نـمـوّهم في توليد نظام جديد تتحقق بواسطته مباديء عقيدة الحرية الجامعة لمختلف العقائـد وغاياتها التي هي مزيد من تحقيق الحق والخير والجمال ، واستمرار ارتقاء الحق والخير والجمال باستمرار ارتقاء الأمة الحـرة المتحررة بالمعرفة الفاضلة من كل مثالب الجهالات .
إن المواطن الفـرد كما تبين في الأنظمة المشار اليها هـو حـر في أن يكون عـبدا ً للفكرة والنظرية والحزب وحكومة الدولة والمتسلطين على مقدراتها ومرافقها ووزاراتها ، لكنه أبدا ً ليس بحر ان يمتنع عن تنفيذ أوامرها مهما كانت خاطئة وجائرة ومهلكة .من الأمور البديهية أن يضحي المواطن الفرد بنفسه من أجل حياة مجتمعه لأن في حياة المجتمع وسعادته تكمن حياة الفرد وسعادة الفرد. أما التضحية في سبيل فكرة أو نظرية أوحكومة او رئيس بشكل لايخدم مصالح الأمة وأهدافها في الحياة، وممارسة الإستقلال لروحي، والمصير العـزيـز فإنها تضحيـة خـرقاء تصغـر أمامها كـل الأضاليل والأخطـاء والجرائـم .
إن التضحية ليست من أجل التضحية ، بل يجب أن تكون التضحية من أجل قضية عـُظـمى تساوي وجود الأفراد في بقاء مجتمعهم ونـمـوّه وتقدمه ورقيه . فوجود الفرد ما كان بالإنفصال عن المجتمع. وبقاء الفرد يستحيل أن يتم خارج حركة المجتمع.ولا حرية للفرد إلا اذا كان مجتمعه حـــرا والمجتمع الحـر لايمكن ان يكون حـرا ً إلا إذا كان جميع ابنائـه أحـرارا ً ، واستمـرت أجياله تمارس الحـرية وعيا ً ومناقبا ً ، ونـمـوا ً وانـتـاجا ً ، وصراعا ً ورقيا ً.
بهذا المفهوم للحرية يصبح أي اعتداء على أي فـرد من أفراد المجـتمـع أو أي شــبر من أرض الوطن هـو اعتداء على الشعب كله ، واعتـداء على الحرية ذاتها ، وتهديدا ً لوحدة الوطن وسلامته . ويصبح في المقابل أيـضا أي تساهل بحقوق أي مواطن أو أي تنازل عن شــبر واحد من أرض الوطن هو تساهـل بحقوق الشعب كله وتنازل عن أرض الوطن كلها ، كما أن أي ويـل أو كارثة أو نكبة تنزل بأي فـرد من أبناء الأمـة ولا تـرد الأمـة كـما ينبغي أن تـرد وتحمي أبناءها ، فإنها تعرض شخصيتها للإنهيار وسيادتها للضياع وحريتها للسقوط . وكل أمة تنهار شخصيتها ، وتـفـقـد سـيادتها على نفسها ووطنها ، ولا تحمي نفسها بحماية أبنائـها تسقـط لأنها غير جديرة بالحياة ، وغير مـؤهـلـة للتنعم بالحرية . ومن المحال المحال أن يعيش أبناء المجتمع الحرفي ظـل التخلف والجهل والمثالب والإنحـطـاط والذل .
الحـرية هي الأحـرار في مجتمع حـر إن الحرية هي الأحـرار . وإن الأحـرار هـم الأمة الحـرة . والأمة الحـرة هي الأمة الواعية مسؤليتها ، والقوية بوعيها ، والنظامية بحـريتها ، والحـرة بنظاميتها ، والعادلة بحقها ، والمحقة بعـدالتها، والخيـّرة بجـمال نفسيتها ، والجميلة بـخـيـِّر انتاجها وابداعها. الأمة الحرة هي التي تعرف حقوقها وحقوق غيرها من الأمم وتحترم هذه الحقوق وتناضل من اجل الحفاظ عليها . فلا تتنازل عن حقوقها لغيرها ولا تعتدي على حقوق غيرها . انـها الأمة التي تـعـرف واجباتها ومسؤلياتها وتمارس مسؤلياتها وتقوم بواجباتها بحرية عصية على القـهـر .
الأمة الحرة تـدرك وحدة حياتها ومصالحها واغراضها ومقاصدها ومـثـلها العليا وتجاهـد في سبيل تحقيقها بكل ما تستلزمه الحرية من وعي وعزم وارادة وجهاد .
الأمـة الحـرة هي التي تعـمـل من أجل اكـتـشـاف أعـداء الإنسان والحرية لتطاردهم وتحاربهم وتنتصر عليهم . انها تـحـمـل رسـالة الهـُدى والحياة والحرية الى جميع الأمم والشـــعـوب ، واضـعـة ً حـدا ً لأطـماع الجماعات الهـمـجـيـة المـتـوحـشــة ، مساهمة ً في انشاء المدنية الإنسانية وبنائـها وتـرقــيتـها ، مـبــدعـة ً ومـبـتـكـرة ً أروع وأجـمـل ما تـؤهـلها نـفسـيتـها العظيمة على ابتكاره وابـداعه من خِـطـَـط التـفـوق الإنســاني .
لن نسـتـطـيـع أن نكـون أحـرارا ً ، ولـن نسـتـطيع أن نـنـعـم بالحـرية وفي شـعبنا مـواطـن فـرد واحـد جائـع أو جاهـل أو مـُهـان ، ومن أرضنا شــبـر واحـد مـُغـتـَصـَب . ولن نستطيع أن نكون أحـرارا ً أيضا ً وأمتـنا ليس لـها دور في صناعة أو المساهمة في صناعة وكتابة تاريخ مـدنية الإنسان على هذا الكوكب لســبـر أغـوار هـذا الكـون الماثل أمامنا واكتـشـاف ما يـمكـن اكتشافه من أسرار الوجود ومـخـبآت الآفاق .
فالحرية تعـني الحياة الجـيـدة لكل مواطـن ، وتـعـني أيـضا ً ســيادة الأمــة الكاملة على نفسها وعلى وطـنها . وتعني الخـروج من الظلمة الى النــور، وتعني نهوض الأمم وتعاونها فيما بينها لخلق الإنسان البشري الإنساني .الإنسان ـ النـوع النـوعي الذي شــاءته العناية الخالقة متميزا وســيـّـدا ً ومـمـثـلا ً لها على الأرض .
الحـرية تعني تحقيق وتحقق ارادة الحياة العزيزة الحـرة ، ولا معنى للحرية غـيـر ذلك .

(1): من كتابه " مفاهيم قومية اجتماعية ".
إبراهيم أبو دية
فلاح بسيط بعقل ضابط رفيع


"السفير- ملحق فلسطين" 16/05/2011
بقلم: صقر أبو فخر
إبراهيم أبو دية إنسان نبيل وبسيط، وشوط استثنائي في سلسلة طويلة من المناضلين الذين سقطوا في فلسطين في سبيل حريتها أمثال عز الدين القسام وفرحان السعدي وحسن سلامة وسعيد العاص وعبد الرحيم محمود وعبد القادر الحسيني وغيرهم كثيرون جداً. وهذا الشاب الذي لم يعش أكثر من اثنتين وثلاثين سنة، والذي أمضى نصفها تقريباً في نضال مرير ضد الصهيونية، قدّم أمثولة فذّة وفريدة في الجهاد العسكري، فكان مقاتلاً بارعاً على الرغم من أنه لم يتلق إلا تدريباً أولياً على السلاح. وتجربته في القتال كانت استثنائية بجميع المقاييس؛ فمع أنه كان فلاحاً بسيطاً، إلا أنه أدار معاركه بعقلية ضابط محترف، فكان يستطلع ويحدد الأهداف ويخطط، ثم يقاتل.
قال عنه يوسف صايغ في سيرته:«رجل ضئيل الحجم، شجاع جداً، ومحبوب جداً، ومقاتل شرس جداً». كان، إذاً، شرساً في قتال أعدائه، حانياً على أبناء شعبه، الأمر الذي منحه حب الناس من غير أي توسل. وقد ظل إبراهيم أبو دية واحداً من هؤلاء الناس، عاش في وسطهم وارتدى زيهم (حطة وعقال وسترة وقمباز) ومات بينهم.
*****
في ثورة 1936 كان غراً، فانخرط في جهد متواصل لتعقب سماسرة بيع الأراضي وردعهم عن هذا العمل الشائن. وما إن شبّ واكتملت رجولته، حتى كان واحداً ممن اختارهم عبد القادر الحسيني لتمهيد السبل قبل إعلان الكفاح المسلح، فسافر إلى القاهرة في سنة 1946، والتقى عبد القادر، وشرعا في التخطيط لخوض القتال ضد القوات الصهيونية في فلسطين، وكُلّف شراء الأسلحة من بدو الصحراء المصرية ـ الليبية التي جمعوها من مخلفات معارك طبرق والعلمين، وتخزينها في مصر ثم إعادة إرسالها إلى فلسطين بعد إصلاح المعطوب منها. وكان التخزين يتم أولاً لدى الشيخ عبد الله أبو ستة من بير السبع، ولدى الشيخ فريح أبو مدين من غزة، ثم يُنقل إلى مغاور بلدته صوريف. وقد ساهم في هذه المهمة الشاقة والخطرة والسرية شقيقاته: سارة وعائشة ومريم وعزيزة ونفيسة، فضلاً عن زوجته معزوزة أبو الريش. وفي 22/12/1947 وصل عبد القادر الحسيني إلى صوريف سراً، وحلّ في منزل إبراهيم أبو دية. وفي 25/12/1947 جرى تأليف أول مجموعة من«جيش الجهاد المقدس»، وتولى أبو دية قيادة سرايا العمليات الحربية.
*****
بدأ اسم إبراهيم أبو دية يتردد بقوة في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية بعد معركة صوريف التي اندلعت في 17/1/1948، والتي سقط فيها 35 صهيونياً، وأربعة شهداء من الفلسطينيين. ومنذ ذلك التاريخ عرفته ساحات القتال كلها، وجُرح خمس مرات، حتى أنه في معركة القسطل حمل كامل عريقات بعد إصابته، على ظهره إلى قرية صوبا، ثم قفل إلى ساحة المعركة، وتمكن من جمع المقاتلين بعدما دبت الفوضى في صفوفهم، وقاد القتال مع عبد الحليم الجيلاني، وجرح في أثناء هذه المعركة التي سقط فيها قائد جيش الجهاد المقدس شهيداً. وفي جنازة عبد القادر الحسيني ألقى إبراهيم أبو دية كلمة كانت الأكثر تأثيراً بين جميع الكلمات الأخرى.
*****
كان مرشحاً لتولي قيادة جيش الجهاد المقدس بعد استشهاد عبد القادر الحسيني. لكن الهيئة العربية العليا رأت غير ذلك، واختارت خالد الحسيني. وفي 13/5/1948 عقدت قيادة الجهاد المقدس اجتماعاً حاسماً للنظر في ما يمكن القيام به قبيل انسحاب القوات البريطانية من فلسطين. وتولى أبو دية مع مئة مقاتل مهمة الدفاع عن حي البقعة التحتا وحي الطالبية في القدس. ثم تولى قيادة حامية حي القطمون في القدس بعد أن خاض ببسالة معركة الدهيشة في 28 آذار 1948. ولم يطل الأمر به حتى شرع في خوض معركة الدفاع عن القطمون (29 نيسان 1948) في وجه الهاغاناه وقواتها الضاربة (البالماح). ومن بين 130 مقاتلاً كانوا معه في القطمون لم ينج إلا 15 مقاتلاً فقط. أما الباقون فقد استشهد معظمهم وجرح القليل.
بعد سقوط القطمون تمكن إبراهيم أبو دية من جمع نحو 300 مقاتل لاستعادة القطمون، لكن الجيش البريطاني اعتقله موقتاً، ومنع وصول الإمدادات والنجدات إلى مواقعه، الأمر الذي قضى على هذه الخطة، فتحول إلى بلدة صوريف وقرى الخليل وبيت لحم وجنوب القدس امتداداً حتى بيت صفافا. وبقي صامداً في الدفاع عن هذه القرى، إلى جانب رفيقه بهجت أبو غربية، حتى قبيل توقيع اتفاقية الهدنة في رودس التي قسّمت بيت صفافا بين العرب والإسرائيليين، ومنحت الإسرائيليين منطقة المثلث وأراضي صور باهر وميناء أم الرشرش على البحر الأحمر.
*****
في 17/5/1948 كان إبراهيم أبو دية على موعد مع مصيره؛ فقد قاد الهجوم على مستعمرة رامات راحيل، وكان معه نحو 150 مقاتلاً. وتمكن من الاستيلاء على معظم المستعمرة. لكنه، في 20/5/1948 أصيب بسبع رصاصات استقر بعضها في ظهره، وسببت له شللاً. فنُقل إلى المستشفى الفرنسي في بيت لحم، وأمضى فيه شهراً كاملاً، ثم نُقل إلى القاهرة للعلاج في المستشفى العسكري، ثم في المستشفى الإيطالي. ولما لم يجد الشفاء في المستشفيات المصرية عاد إلى بيت لحم وبقي في المستشفى الفرنسي حتى نهاية سنة 1948.
*****
أيامه الأخيرة كانت في بيروت. جاء إليها في سنة 1949 ترافقه زوجته معزوزة، وخضع لعلاج متواصل في مستشفى الجامعة الأميركية. ولهذه الغاية استأجر منزلاً في منطقة الطريق الجديدة، وكان معه دائماً المناضلان محمد نمر عودة ومحمد أبو خليفة (أبو عبد الله). وفي مستشفى الجامعة الأميركية تعرف إلى جورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب الذين أسسوا لاحقاً حركة القوميين العرب. لم يستكن إبراهيم أبو دية لشؤونه الصحية، بل كان يطوف على مخيمات اللاجئين وهو محمول على أيدي رفيقيه محمد نمر عودة ومحمد أبو خليفة، حاثاً اللاجئين على الصبر وعلى الاستعداد ليوم التحرير، وكرّس معظم أوقاته للتواصل مع أبناء شعبه في المخيمات اللبنانية. غير أن الأيام لم تمهله كثيراً، فتوفي في 6/3/1952.
لم يعش إبراهيم أبو دية أكثر من اثنتين وثلاثين سنة. لكنه، في هذه الفترة القصيرة، خاض غمار الحياة بحلوها ومرها، وعرك السياسة من بوابة القتال وركوب المخاطر، وترك مآثر جمّة وسمعة لا تضاهى في الإقدام والشجاعة والتفاني. وعندما توفي في بيروت شيعته جماهير غفيرة من الجامع العمري إلى مقبرة الباشورة، وألقى إميل الغوري كلمة التأبين باسم الهيئة العربية العليا. وكان لافتاً في لبنان أن يرثي عربي مسيحي من القدس مناضلاً مسلماً من الخليل. لكن مثل هذا الشأن كان عادياً في فلسطين آنذاك، ولا يلفت أحداً على الإطلاق.
***
زين الشباب
- وُلد في بلدة صوريف ـ قضاء الخليل فــي ســنة 1920.
- توفي والده عبد الفتاح في سنة 1930، فــترك المدرسة وهو في الصف الرابع الابتدائي، وانصـرف إلى العمل.
- عمد إلى تثقيف نفسه بنفسه من خلال القراءة، وانضم إلى حزب الشباب العربي. وكان ناشطاً في مقاومة بيع الأراضي من اليهود.
- شارك في أثناء فتوته في ثورة 1936 تحت قيادة عبد الحليم الجيلاني.
- انتمى إلى الحزب العربي الفلسطيني في سنة 1946 الذي كان يقوده جمال الحسيني، وهو الحزب الذي كان يرعاه الحاج أمين الحسيني.
- انضم إلى جيش الجهاد المقدس في سنة 1947، وخاض معارك صوريف وضهر الحجة (في الخليل) وسنهدريا في القدس، والدهيشة (أو كفارعصيون) وبيت سوريك، وجرح خمس مرات.
ـ أصيب بعدة رصـاصـات اسـتقرت فــي عمـوده الفقري في معركة رامات راحيل الأمر الـذي أورثه الشـلل.
ـ توفي في بيروت في 6/3/1952.

الجمعة، 6 مايو 2011

حزب التحرير

افرزت جريدة " السفير" في عددها تاريخ 28/04/2011 صفحة كاملة عن السلفيين والحركات الاسلامية.
للاطلاع، ننشر من المعلومات الغنية الواردة، المقاطع التالية:

ابـرز الحـركات الاسـلامية فـي مصر:

الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة أسسها الشيخ محمود خطاب السبكي في نهاية القرن التاسع عشر، وكان من علماء المذهب المالكي في الأزهر، وقد سجلها رسمياً بعد صدور قانون الجمعيات في العام 1913، وما زالت تعمل حتى اليوم، ولها فروع كثيرة في كل محافظات مصر، وعادة ما يقودها علماء من الأزهر. جماعة أنصار السنة المحمدية هي فصيل من الحركة الإسلامية حادّ جداً في موقفه من الصوفية. أسسها الشيخ محمد حامد الفقي في العام 1926، وهي تعمل بنشاط حتى الآن. وتركّز الجمعية في خطابها على محاربة «بدع» المساجد والأضرحة والصوفية. كما أن مسألة وجوب الحكم بالشريعة حاضرة في أدبياتها. جماعة التبليغ والدعوة تعتبر أحد الفصائل المهمة في «الحركة الإسلامية التقليدية» في مصر، وتلي السلفية التقليدية من حيث الأهمية والعدد. دخلت هذه الجماعة مصر في منتصف السبعينيات قادمة من الهند، علماً بأن مؤسسها الهندي هو من مشايخ الصوفية هناك. الإخوان المسلمون تعتبر أقدم فصائل الحركة الإسلامية الحديثة. أنشأها الشيخ حسن البنا عام 1928، في محاولة للجمع بين مختلف التيارات الفكرية الإسلامية في جماعته، كي يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجههم فأعلن «نحن دعوة سلفية وحقيقة صوفية»، ولكنه شدّد على أن الصوفية وسيلة وليست غاية وأنها منهج تربوي وليست دروشة. جماعة شباب محمد تعتبر الجماعة التالية لحركة الإخوان المسلمين من حيث تاريخ النشأة. أسستها مجموعة من قادة وشباب الإخوان الذين انشقوا عن الجماعة عام 1939، حددوا خلافهم مع الإخوان في عدة نقاط أبرزها عدم أخذ قيادة الإخوان بمبدأ الشورى في إتخاذ القرار، وعملهم تحت لواء الحاكمين «بغير ما أنزل الله». القطبيون تأسست جماعة القطبيين في السجن بعد انتهاء محاكمات قضية تنظيم سيد قطب عام 1965. و قد تكونت من مجموعة صغيرة من قادة و أعضاء الإخوان على رأسهم محمد قطب، شقيق سيد قطب، وقد اختلفت مع الإخوان في عدة قضايا و أهمها استراتيجية العمل الإسلامي. جماعة الجهاد الإسلامي تأسست الخلايا الأولى لتنظيم الجهاد المصري في العام 1966، وكان أبرز مؤسسيها علوي مصطفى وإسماعيل طنطاوي ونبيل البرعي. وكان من بين أعضاء هذا التنظيم أيمن الظواهري ومصطفى يسري وحسن الهلاوي. اختار التنظيم مبدئيا أسلوب الإنقلاب العسكرى لتحقيق هذا التغيير. حدثت انشقاقات عديدة في صفوف الجهاد، حيث نشأ «تنظيم يحيى هاشم» بعد هزيمة العام 1967، و«جناح علوي مصطفى» بعد حرب العام 1973، فضلاً عن استقلال «مجموعة الجيزة» بزعامة مصطفى يسري. وقد شهد عام 1980 أحداثا مهمة في تاريخ تيار الجهاد في مصر أبرزها نجاح المهندس محمد عبدالسلام في تجنيد مقدم الاستخبارات الحربية عبود الزمر، وقراره اغتيال السادات عبر ضابط تابع له (خالد الإسلامبولي). وابتداء من العام 1999، بدأ العديد من قادة جماعة الجهاد في السجون المصرية إجراء ما سمي ب«مراجعات الجهاد»، التي خلصت إلى ضرورة وقف العمليات العسكرية والكف عن السعي لقلب النظام. جماعة التكفير و الهجرة أسسها شكري مصطفى في بداية السبعينات تحت اسم «جماعة المسلمين». وترتكز المنظومة الفكرية للجماعة على عدة أسس، من بنيها اعتبار أن الألفاظ المعبرة عن سائر المعاصي تعني كلها معنى واحد هو الكفر المخرج عن الملة، واعتبار أن الهجرة من دار الكفر (أي دولة لا تحكم بالشريعة) هي واجب شرعي حتمي، والحكم بكفر من يتحاكم للقانون الوضعي. السلفية برز التيار السلفي بشكله الحالي في منتصف السبعينات. لا تجمع السلفيين منظمة محددة، فهم يلتفون حول عدد من المشايخ ويتتلمذون عليهم. بعضهم لا يشتغل بالسياسة، ولا يتكلم فيها إلا تحت ضغوط الأتباع المقربين جدا، وذلك في جلسات سرية. وتتلخص رؤية هذا الفصيل للتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تفسيرهم الخاص لآية «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». وهناك فصيل آخر من السلفيين، نشأ في منتصف السبعينات على أيدي مجموعة من قادة الحركة الطلابية الإسلامية في عدد من جامعات مصر، ويطلق عليه اسم «السلفية العلمية»، وهو يدعو إلى الالتزام بتعاليم الإسلام وفقا لمنهج السلف الصالح، لكنهم أكثر حرفية والتزاما بذلك واقل اجتهادا وتجديدا فيه، ويفرق بينهم وبين الإخوان المسلمين، رفضهم للتصوف وآراء الأشاعرة والمعتزلة و الشيعة، ورفضهم للعمل الحزبي والدخول في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، فيما يفرقهم عن الجهاد رفضهم للعمل المسلح والتنظيمات السرية. وهناك أيضاً «السلفية الحركية»، التي لا تختلف عن «السلفية العلمية» إلا في «الإعلان عن كفر الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة الإسلامية»، بالإضافة إلى «السلفية الجهادية»، التي يعتبر فكرها أقرب إلى تنظيم «القاعدة». الجماعة الإسلامية تكونت كحركة طلابية في منتصف السبعينات داخل جامعة أسيوط. اشتهرت باستعمال القوة لتغيير ما اعتبرته من المنكرات المخالفة لتعاليم الإسلام في المجتمع. كما شنت هجمات مسلحة ضد قوات الأمن والسياح الأجانب، فضلاً عن عمليات اغتيال استهدفت مسؤولين، كما حاولت اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا. حزب التحرير تأسس في العام 1909 على يد تقي الدين إبراهيم النبهاني، وهو من قرية إجزم في فلسطين. يربط الحزب كل شيء بقيام دولة الخلافة، ولا يرى مجالا للعمل الاسلامي الشامل إلا من خلالها. ظهر الحزب في مصر في العام 1984 عندما أعلنت أجهزة الأمن تقديم 32 شخصا من المنتمين إليه للتحقيق بتهمة محاولة قلب نظام الحكم.
*
السـلفـيون والـثـورة:
انقسم السلفيون في مصر خلال «ثورة 25 يناير» بين مؤيد ومعارض وصامت وذي موقف ملتبس. 1ـ موقف المؤيدين: لعل أهم المدارس السلفية التي أيدت «ثورة 25 يناير» منذ بدايتها، هي المجموعات السلفية في القاهرة، والتي اصطلح على تسميتها السلفية الجهادية، والتي لم تكتف بالتأييد فحسب، بل شارك العديد من رموزها في تظاهرات ميدان التحرير، مثل الشيخ محمد عبد المقصود، والشيخ نشأت أحمد، والشيخ فوزي السعيد. كذلك جاءت مشاركة مجموعات سلفية أخرى في عدة محافظات في مرحلة أكثر تطورا من ناحية العمل السياسي، فخرجت في تظاهرات مستقلة تسير في الشوارع مرددة نفس شعارات إسقاط النظام، وانضمت إلى مجموعات المعارضة الأخرى وشاركت بعض قياداتها في اجتماع رموز القوى الوطنية في تلك المحافظات ونسقت حركتها معها. ويمكن إدخال الداعية الشهير الشيخ محمد حسان في صف الدعاة السلفيين المؤيدين في الثورة، وإن كانت مواقفه قد تبلبلت في البداية عندما حاول إمساك العصا من المنتصف، ثم دشن عدد من علماء الأزهر، وعلى رأسهم مفتي مصر الأسبق الدكتور نصر فريد واصل، «الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات المشروعة» التي أصدرت العديد من البيانات المؤيدة لمطالب شباب الثورة. 2- مواقف معارضة للثورة: لعل أبرز وأهم الدعاة غير المؤيدين لـ«ثورة 25 يناير» الشيخ محمود المصري والذي حاول مخاطبة جموع الثوار في ميدان التحرير محاولاً حثهم على العودة إلى ديارهم وترك الاعتصام لكنه طرد من ساحة الميدان، وكذلك الشيخ مصطفى العدوي، الذي تحدث بدوره في مداخلة للتلفزيون المصري رافضاً ما يحدث من ثورة، والشيخ محمد حسين يعقوب الذي رفض الثورة ووصفها بالفتن المتلاطمة. 3- مواقف ملتبسة: أبرز هذه المدارس الدعوة السلفية في الاسكندرية، والتي تمثل أكبر تكتل سلفي في مصر، والتي جاء رفضها لثورة 25 يناير من خلال فتوى للدكتور ياسر برهامي جاء فيها «انطلاقاً مِن تمسكنا بديننا وشعورنا بالمسؤولية تجاه بلادنا وحرصاً على مصلحتها، وتقديما وتغليباً لأمن العباد والبلاد في هذه الفترة العصيبة... نرى عدم المشاركة في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير». لكن برهامي عاد وأشار، في مداخلة تلفزيونية، إلى أن رأيه بشأن عدم تأييد هذه الثورة صواب يحتمل الخطأ، ولكنه شدد أن رأي غيره من الرموز المؤيدة لهذه الثورة خطأ يحتمل الصواب، ومن ثم فلا بأس من الترحم على ضحايا هذه الثورة واعتبارهم من الشهداء لحسن نيتهم واتباعهم لفتوى علماء معتمدين. 4- مواقف الصامتين: يأتي موقف الشيخ أبو إسحاق الحويني على رأس هذا الجانب، فالرجل أغلق هواتفه، ولم يحدّث موقعه الإلكتروني، و لم يفهم حتى الآن موقفه، و لكنه فسر بأنه صمت وإعراض عن التعرض للموقف.

لمن يرغب، الدخول الى الرابط التالي: http://www.assafir.com/WeeklyChannel.aspx?EditionId=1833&ChannelId=10415
*
من جهة ثانية ننشر عن موضوع " حزب التحرير" التعريف التالي عنه، لفائدة الاطلاع.

حـــزب التحـريـــر
تـأسـس سـنة 1372هـ - 1953م
أسباب قيام حزب التحرير
إن قيام حزب التحرير كان استجابة لقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} . بغية إنهاض الأمة الإسلامية من الانحدار الشديد، الذي وصلت إليه وتحريرها من أفكار الكفر وأنظمته وأحكامه، ومن سيطرة الدول الكافرة ونفوذها. وبغية العمل لإعادة دولة الخلافة الإسلامية إلى الوجود، حتى يعود الحكم بما أنزل الله.
غاية حزب التحرير
هي استئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. وهذه الغاية تعني إعادة المسلمين إلى العيش عيشاً إسلامياً في دار إسلام، وفي مجتمع إسلامي، بحيث تكون جميع شؤون الحياة فيه مسيره وفق الأحكام الشرعية، وتكون وجهة النظر فيه هي الحلال والحرام في ظل دولة إسلامية، التي هي دولة الخلافة، والتي ينصب المسلمون فيها خليفة يبايعونه على السمع والطاعة على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وعلى أن يحمل الإسلام رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد.والحزب يهدف إلى إنهاض الأمة النهضة الصحيحة، بالفكر المستنير، ويسعى إلى أن يعيدها إلى سابق عزّها ومجدها، بحيث تنتزع زمام المبادرة من الدول والأمم والشعوب، وتعود الدولة الأولى في العالم، كما كانت في السابق، تسوسه وفق أحكام الإسلام.كما يهدف إلى هداية البشرية، وإلى قيادة الأمة للصراع مع الكفر وأنظمته وأفكاره، حتى يعم الإسلام الأرض.
العضوية في حزب التحرير
يضم الحزب إلى عضويته الرجال والنساء من المسلمين، بقطع النظر عن كونهم عرباً أم غير عرب بيضاً أم سوداً، فهو حزب لجميع المسلمين، ويدعو جميع المسلمين لحمل الإسلام وتبني أنظمته بقطع النظر عن قومياتهم وألوانهم ومذاهبهم، إذ ينظر إلى الجميع نظرة الإسلام.وطريقة ربط الأشخاص فيه تكون باعتناق العقيدة الإسلامية، والنضج في الثقافة الحزبية، وتبني أفكار الحزب وآرائه، والشخص نفسه هو الذي يفرض نفسه على الحزب، حين ينصهر فيه، وحين تتفاعل الدعوة معه، ويتبنى أفكاره ومفاهيمه، فالرابط الذي يربط بين أفراد الحزب هو العقيدة الإسلامية والثقافة الحزبية المنبثقة عن هذه العقيدة. وحلقات النساء فيه مفصولة عن حلقات الرجال، ويشرف على حلقات النساء الأزواج، أو المحارم، أو النساء.
عمل حزب التحرير
عمل حزب التحرير هو حمل الدعوة الإسلامية، لتغيير واقع المجتمع الفاسد وتحويله إلى مجتمع إسلامي، بتغيير الأفكار الموجودة فيه إلى أفكار إسلامية، حتى تصبح رأياً عاماً عند الناس ومفاهيمهم تدفعهم لتطبيقها والعمل بمقتضاها، وتغيير المشاعر فيه حتى تصبح مشاعر إسلامية ترضى لما يرضي الله وتثور وتغضب لما يغضب الله، وتغيير العلاقات فيه حتى تصبح علاقات إسلامية تسير وفق أحكام الإسلام ومعالجاته.وهذه الأعمال التي يقوم بها الحزب هي أعمال سياسية، إذ الحزب يرعى فيها شؤون الناس وفق الأحكام والمعالجات الشرعية، لأن السياسة هي رعاية شؤون الناس بأحكام الإسلام ومعالجاته.ويبرز في هذه الأعمال السياسية تثقيف الأمة بالثقافة الإسلامية لصهرها بالإسلام، وتخليصها من العقائد الفاسدة والأفكار الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، ومن التأثر بأفكار الكفر وآرائه.كما يبرز في هذه الأعمال السياسية، الصراع الفكري والكفاح السياسي.أما الصراع الفكري فيتجلى في صراع أفكار الكفر وأنظمته، كما يتجلى في صراع الأفكار الخاطئة والعقائد الفاسدة والمفاهيم المغلوطة، ببيان فسادها، وإظهار خطئها، وبيان حكم الإسلام فيها.أما الكفاح السياسي فيتجلى في مصارعة الكفار المستعمرين، لتخليص الأمة من سيطرتهم وتحريرها من نفوذهم، واجتثاث جذورهم الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، والعسكرية وغيرها من سائر بلاد المسلمين.كما يتجلى في مقارعة الحكام، وكشف خياناتهم للأمة، ومؤامراتهم عليها، ومحاسبتهم والتغيير عليهم إذا هضموا حقوقها، أو قصروا في أداء واجباتهم نحوها، أو أهملوا شأناً من شؤونها، أو خالفوا أحكام الإسلام.فعمل الحزب كله عمل سياسي، سواء كان خارج الحكم أم كان في الحكم، وليس عمله تعليمياً فهو ليس مدرسة، كما أن عمله ليس وعظاً وإرشاداً، بل عمله سياسي تعطى فيه أفكار الإسلام وأحكامه ليعمل بها ولتحمل لإيجادها في واقع الحياة والدولة.والحزب يحمل الإسلام ليصبح هو المطبق، وتصبح عقيدته هي أصل الدولة، وأصل الدستور والقوانين فيها. لأن عقيدة الإسلام هي عقيدة عقلية، وهي عقيدة سياسية انبثق عنها نظام يعالج مشاكل الإنسان جميعها سياسية كانت أم اقتصادية، ثقافية أم اجتماعية، أم غيرها.
مكان عمل حزب التحرير
مع أن الإسلام مبدأ عالمي، إلا أنه ليس من طريقته أن يعمل له من البدء بشكل عالمي، بل لا بد أن يدعى له عالمياً، وأن يجعل مجال العمل له في قطر، أو أقطار حتى يتمركز فيها فتقوم الدولة الإسلامية.إن العالم كله مكان صالح للدعوة الإسلامية، غير انه لما كانت البلاد الإسلامية يدين أهلها بالإسلام كان لا بد أن تبدأ الدعوة فيها، ولما كانت البلاد العربية، التي هي جزء من البلاد الإسلامية تتكلم اللغة العربية، التي هي لغة القرآن والحديث، والتي هي جزء جوهري من الإسلام وعنصر أساسي من عناصر الثقافة الإسلامية كانت أولى البلاد بالبدء في حمل هذه الدعوة هي البلاد العربية.وقد كان بدء نشوء الحزب، وحمله الدعوة في بعض البلاد العربية، ثم أخذ يتوسع في حمله للدعوة توسعاً طبيعياً، حتى أصبح يعمل في كثير من الأقطار العربية، وفي بعض الأقطار الإسلامية غير العربية.
طريقة حزب التحرير
- طريقة السير في حمل الدعوة هي أحكام شرعية، تؤخذ من طريقة سير الرسول صلى الله عليه وسلم في حمله الدعوة لأنه واجب الاتباع، لقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}، ولقوله {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}، وقوله{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. وكثير غيرها من الآيات الدالة على وجوب اتباع الرسول والتأسي به والأخذ عنه.- لكون المسلمين اليوم يعيشون في دار كفر، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله فإن دارهم تشبه مكة حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يجب أن يتخذ الدور المكي في حمل الدعوة هو موضع التأسي.- ومن تتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حتى أقام الدولة في المدينة تبين انه مرّ في مراحل بارزة المعالم، كان يقوم فيها بأعمال معينة بارزة. فأخذ الحزب من ذلك طريقته في السير، ومراحل سيره، والأعمال التي يجب أن يقوم بها في هذه المراحل تأسياً بالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مراحل سيره.- وبناء على ذلك حددّ الحزب طريقة سيرة بثلاث مراحل:الأولى: مرحلة التثقيف لإيجاد أشخاص مؤمنين بفكرة الحزب وطريقته لتكوين الكتلة الحزبية.الثانية: مرحلة التفاعل مع الأمة، لتحميلها الإسلام، حتى تتخذه قضية لها، كي تعمل على إيجاده في واقع الحياة.الثالثة: مرحلة استلام الحكم، وتطبيق الإسلام تطبيقاً عاماً شاملاً، وحمله رسالة إلى العالم.أما المرحلة الأولى فقد ابتدأ فيها الحزب في القدس عام 1372 هـ - 1953 م على يد مؤسّسه العالم الجليل، والمفكر الكبير، والسياسي القدير، والقاضي في محكمة الاستئناف في القدس الأستاذ تقي الدين النبهاني عليه رحمة الله، وكان الحزب يقوم فيها بالاتصال بأفراد الأمة، عارضاً عليهم فكرته وطريقته بشكل فردي، ومن كان يستجيب له ينظمه للدراسة المركزة في حلقات الحزب، حتى يصهره بأفكار الإسلام وأحكامه التي تبنّاها، ويصبح شخصية إسلامية، يتفاعل مع الإسلام، ويتمتع بعقلية إسلامية، ونفسية إسلامية، وينطلق إلى حمل الدعوة إلى الناس. فإذا وصل الشخص إلى هذا المستوى، فرض نفسه على الحزب، وضمّه الحزب إلى أعضائه. كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرحلته الأولى من الدعوة، والتي استمرت ثلاث سنين، من دعوته الناس أفرادا، عارضاً عليهم ما أرسله الله به ومن كان يؤمن يكتله معه على أساس هذا الدين سراً، ويحرص على تعليمه الإسلام، وإقرائه ما نزل عليه وينزل من القرآن حتى صهرهم بالإسلام، وكان يلتقي بهم سرّاً ويعلمهم سرّاً في أماكن غير ظاهرة، وكانوا يقومون بعبادتهم وهم مستخفون. ثمّ فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس ودخلوا فيه أرسالاً.وفي هذه المرحلة انصبّت عناية الحزب على بناء جسمه، وتكثير سواده وتثقيف الأفراد في حلقاته، بالثقافة الحزبية المركزة، حتى استطاع أن يكوّن كتلة حزبية من شباب انصهروا بالإسلام، وتبنّوا أفكار الحزب، وتفاعلوا معها وحملوها للناس.وبعد أن استطاع الحزب تكوين هذه الكتلة الحزبية، وأحسّ به المجتمع، وعرفه وعرف أفكاره، وما يدعو إليه، انتقل إلى المرحلة الثانية.- وهي مرحلة التفاعل مع الأمة لتحميلها الإسلام، وإيجاد الوعي العام، والرأي العام عندها على أفكار الإسلام وأحكامه، التي تبناها الحزب، حتى تتخذها أفكاراً لها، تعمل على إيجادها في واقع الحياة، وتسير مع الحزب في العمل لإقامة دولة الخلافة، ونصب الخليفة، لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.وفي هذه المرحلة انتقل الحزب إلى مخاطبة الجماهير مخاطبة جماعية. وقد كان يقوم في هذه المرحلة بالأعمال التالية:1 - الثقافة المركزة في الحلقات للأفراد لتنمية جسم الحزب، وتكثير سواده، وإيجاد الشخصيات الإسلامية القادرة على حمل الدعوة، وخوض الغمرات بالصراع الفكري، والكفاح السياسي.2 - الثقافة الجماعية لجماهير الأمة بأفكار الإسلام وأحكامه التي تبناها الحزب، في دروس المساجد والنوادي والمحاضرات وأماكن التجمعات العامة وبالصحف والكتب والنشرات، لإيجاد الوعي العام عند الأمة، والتفاعل معها.3 - الصراع الفكري لعقائد الكفر وأنظمته وأفكاره، وللعقائد الفاسدة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، ببيان زيفها وخطئها ومناقضتها للإسلام، لتخليص الأمة منها ومن آثارها.4 - الكفاح السياسي، ويتمثل بما يلي:أ - مكافحة الدول الكافرة المستعمرة، التي لها سيطرة ونفوذ على البلاد الإسلامية ومكافحة الاستعمار بجميع أشكاله الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وكشف خططه وفضح مؤامراته لتخليص الأمة من سيطرته، وتحريرها من أي أثر لنفوذه.ب - مقارعة الحكام في البلاد العربية والإسلامية وكشفهم ومحاسبتهم والتغيير عليهم كلما هضموا حقوق الأمة، أو قصّروا في أداء واجباتهم نحوها، أو أهملوا شأناً من شؤونها، وكلما خالفوا أحكام الإسلام. والعمل على إزالة حكمهم لإقامة حكم الإسلام مكانه.5 - تبنّي مصالح الأمة، ورعاية شؤونها وفق أحكام الشرع.وقام الحزب بكل ذلك اتباعاً لما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن نزل عليه قوله تعالى:{ فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين} فانه أظهر أمره، ودعا قريشاً إلى الصفا وأخبرهم أنه نبي مرسل وطلب منهم أن يؤمنوا به، وأخذ يعرض دعوته على الجماعات كما يعرضها على الأفراد، وقد تصدى لقريش وآلهتها وعقائدها وأفكارها فبين زيفها وفسادها وخطأها وعابها وهاجمها كما هاجم كل العقائد والأفكار الموجودة. وكانت الآيات تنزل متلاحقة بذلك وتنزل مهاجمة لما كانوا يقومون به من أكل الربا، ووأد البنات وتطفيف الكيل ومقارفة الزنا، كما كانت تنزل بمهاجمة زعماء قريش وسادتها، وتسفيههم وتسفيه آبائهم وأحلامهم وفضح ما يقومون به من تآمر ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد دعوته وأصحابه.وكان الحزب في حمل أفكاره، وفي تصدّيه للأفكار الأخرى، والتكتلات السياسية، وفي تصدّيه لمكافحة الدول الكافرة المستعمرة، وفي مقارعته للحكّام صريحاً سافراً متحدياً، لا يداجي ولا يداهن ولا يجامل ولا يتملق ولا يؤثر السلامة، بغض النظر عن النتائج والأوضاع فكان يتحدى كل من يخالف الإسلام وأحكامه - مما عرّضه للإيذاء الشديد من الحكّام من سجن وتعذيب وتشريد وملاحقة، ومحاربة في رزق، وتعطيل مصالح، ومنع من سفر، وقتل، فقد قتل منه الحكام الظلمة في العراق وسورية وليبيا العشرات، كما أن سجون الأردن وسورية والعراق ومصر وليبيا وتونس مليئة بشبابه - وذلك إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء برسالة الإسلام إلى العالم أجمع متحدياً سافراً مؤمناً بالحق الذي يدعو إليه يتحدى الدنيا بأكملها، ويعلن الحرب على الأحمر والأسود من الناس دون أن يحسب أي حساب لعادات وتقاليد، أو أديان أو عقائد أو حكّام أو سوقة، ولم يلتفت إلى شيء سوى رسالة الإسلام، فقد بادأ قريشاً بذكر آلهتهم وعابها، وتحداهم في معتقداتهم وسفّهها وهو فرد أعزل لا عدة معه ولا معين، ولا سلاح عنده سوى إيمانه العميق برسالة الإسلام التي أرسل بها.ومع أن الحزب التزم في سيره أن يكون صريحاً وسافراً متحدياً، إلاّ أنه اقتصر على الأعمال السياسية في ذلك، ولم يتجاوزها إلى الأعمال المادية ضد الحكام، أو ضد من يقفون أمام دعوته، إقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتصاره في مكة على الدعوة، ولم يقم بأيّة أعمال مادية حتى هاجر، وعندما عرض عليه أهل بيعة العقبة الثانية أن يأذن لهم بمقاتلة أهل منى بالسيوف أجابهم قائلاً: «لم نؤمر بذلك بعد» والله سبحانه قد طلب منه أن يصبر على الإيذاء كما صبر من سبقه من الرسل حيث قال الله تعالى له: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا}.وعدم استعمال الحزب القوة المادية للدفاع عن نفسه، أو ضد الحكّام، لا علاقة له بموضوع الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة فإذا ما هاجم الأعداء الكفار بلداً إسلامياً وجب على المسلمين من أهله ردهم، وشباب حزب التحرير في ذلك البلد جزء من المسلمين يجب عليهم ما يجب على المسلمين من قتال العدو وردّه بوصفهم مسلمين. وإذا ما وجد وقام أمير مسلم بالجهاد لإعلاء كلمة الله واستنفر الناس فإن شباب حزب التحرير يلبون بوصفهم مسلمين في ذلك البلد الذي حصل فيه الاستنفار.- ولما تجمّد المجتمع أمام الحزب من جراء فقد الأمة ثقتها بقادتها وزعمائها الذين كانوا موضع أملها، ومن جرّاء الظروف الصعبة التي وضعت فيها المنطقة لتمرير المخططات التآمرية، ومن جرّاء التسلط والقهر الذي يمارسه الحكام ضد شعوبهم، ومن جرّاء شدة الأذى الذي يوقعه الحكام بالحزب وشبابه، لما تجمد من جراء كل ذلك قام الحزب بطلب النصرة من القادرين عليها. وقد طلبها لغرضين:الأول: لغرض الحماية حتى يستطيع أن يسير في حمل دعوته وهو آمن.الثاني: الإيصال إلى الحكم لإقامة الخلافة وتطبيق الإسلام.ومع قيام الحزب بأعمال النصرة هذه فإنه قد استمر في القيام بجميع الأعمال التي كان يقوم بها، من دراسة مركزة في الحلقات، ومن ثقافة جماعية، ومن تركيز على الأمة لتحميلها الإسلام، وإيجاد الرأي العام عندها ومن مكافحة الدول الكافرة المستعمرة وكشف خططها، وفضح مؤامراتها، ومن مقارعة الحكّام، ومن تبنّ لمصالح الأمة ورعاية لشؤونها.وهو مستمر في كل ذلك آملاً من الله أن يحقّق له وللأمة الإسلامية الفوز والنجاح والنصر، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

قيسارية بناها الكنعانيون في فجر التاريخ

مـنـذ فـجـر التـاريــخ:
صراعنا مع الصهاينة صـراع وجـود… وهـو مستمر
قيسـارية: بـناهـا الكنـعانـيون فـي فجـر التاريـخ
وأبـادهـا اليـهـود ذات ليـلـة (1)

عندما تفسد ذاكرة التاريخ، تقع الخيانة، وتقع الأبراج، وتستقيل الآلهة، تماماً مثلما أُسقط استراتون (عبد عشتروت) من برجه المبني في أوائل عصر الاستقرار الانساني، في يد مؤامرة تاريخية كبيرة صاغتها لعنة «الذاكرة»، وحلت تلك اللعنة برعيته البسطاء، أبناء قريته الصغيرة، اولئك الذين طردوا من أرضهم، من حقهم، من رحم أمهم عشتار، ليستعمر أبناء الجاريات القادمون من الغرب بيوتهم ويغتالوا ملامحهم، فتحولت «قيساريتهم» الحبيبة من أعتق مدن التاريخ، إلى أحدث مشروع لإبادة الوطن و»تسويته أرضاً»، وما بقي منها إلا نواح الأم تندب وجوه من راحوا. وتغني: «طوبى لمن ذبحوا، طوبى لمن قاوموا، وطوبى لمن يحملون النكبة في ذاكرتهم». فـي ذاكـرة الـتاريـخ قيسارية، التي تسمى مدينة التاريخ، هي مدن السهل الساحلي الفلسطيني، وتقع على بعد (42 كم) إلى الجنوب الغربي من حيفا، وبلغت مساحة اراضيها 31786 دونماً، وقدر عدد سكانها عام 1922 حوالى (346) نسمة، وفي عام 1945 (1120) نسمة مختلطين بين مسلمين ومسيحيين، وقد تعددت الآراء وتضاربت الأقوال حول نشأتها الأولى، ومرد ذلك إلى غرق المدينة القديمة في البحر، ما نتج عنه صعوبة عمليات التنقيب فيها، إلى جانب أن بعثات الآثار التي نقبت في فلسطين، ودائرة «الآثار الإسرائيلية» لم يولوا جميعاً المدينة حقها من العناية، لكونها لم تندرج ضمن المدن التي ورد ذكرها في التوراة كمدن يهودية. وكانت القرية تقع على شاطئ البحر، داخل بقايا متينة البنيان تعود لثغر بحري كان يسمّى أصلاً برج ستراتو. والاسم قيسارية تعريب لسيزاريا (Caesarea)، الاسم الروماني الذي أُطلق على المدينة التي خلفت برج ستراتو. أما الثغر البحري، فقد أنشأه ستراتو، حاكم صيدون، في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، مستعمرةً تجارية فينيقية. وأما المدينة، فقد بناها هيرودس الكبير ودعاها سيزاريا (أي قيصرية؛ تيمناً بسيّده أغسطس قيصر) بين سنتي 22 و10 ق.م. وتطورت إلى مرفأ مزدهر في عهد الرومان، وظلت كذلك أيام البيزنطيين (وقد أظهرت تنقيبات حديثة تحت المياه أن الميناء آية من آيات البناء البحري). وشهدت قيصرية تحول أول رجل غير يهودي إلى المسيحية (أعمال الرسل: 10). وفي القرن الثالث للميلاد كانت مركزاً لعلماء المسيحية، بفضل وجود أوريجينس الذي توفي سنة 254 م تقريباً وكتبته فيها. ويؤكد معظم الباحثين بأنها من أقدم المناطق التي سكنها البشر، وأن الكنعانيين قد أنشأوا في موقعها مدينة لهم، وأطلقوا عليها اسم (برج ستراتون) وستراتون هو تحريف للاسم الكنعاني (الفينيقي) عبد عشتروت. وحسب رأي البعض الآخر أنه يمكن الاستدلال على انها كانت موجودة في الفترة الفارسية، وأنشئت على أيدي الصيداويين في القرن الرابع ق. م، اذ يتضمن الاسم أن مؤسس المدينة واحد من رهط سمي كل منهم (ستراتون)، وكانوا ملوكاً في صيدا في القرن الرابع ق.م، وكان سهل سارون (سهل يافا) تابعاً يومئذ لصيدا، وقد يكون الاسم تحويلاً يونانياً لاسم (برج ـ عشتروت) الفينيقي، ويدعمون رأيهم هذا ببعض الشذرات الواردة في المصادر التاريخية،والتي تفيد بأن الفرس قد اتخذوا من قيسارية مركزاً ثانياً للدفاع عن الساحل. ومن الباحثين من يرى بان أحد قادة الملوك البطالمة هو الذي اسسها إبان القرن الثالث ق. م، إلا أن الرأي الأكثر ترجيحاً هو القائل بأن هذه المدينة قد اسسها ملكان من صيدا، أحدهما عاش في القرن رابع ق. م، والثاني كان معاصراً للإسكندر الأكبر، وقد عرف هذان الملكان باسم واحد وهو (عبد ـ عشتروت) الذي تحول إلى اليونانية إلى ستراتون، وقد عرفت تلك المدينة بهذا الاسم في وثائق (زينون)، كما وجدنا إشارة إليها في إعمال أحد الكتاب الإغريق (أرتيمودوروس). وذكرت قيسارية في أرشيف (زينون)، وهو من المصادر الرئيسية لدراسة الحياة الاقتصادية في فلسطين في أوساط القرن الثالث ق.م. واشتهرت قيسارية بخمرها الذي كان مطمح الشاربين، وقمحها الجيد الذي كانت تصدره الى الخارج، كما كان يزرع في جهاتها الأربع، واشتهرت بصباغة الأرجوان وصناعة التجارة والأثاث، وكانت تستورد الأسماك من مصر وحتى من إسبانيا، إضافة إلى زراعة الموز والحمضيات. في قيسارية، يروى عن قصة الشيخ ابراهيم محمد أحمد حجات من قرية المنسي، وهو أحد قيادات الثورة عام 1936، الذي أعدم الخضرواتي اليهودي السفاردي مزراحي في قيسارية نتيجة اكتشاف مخططه لتسريب أراضي القرية، حيث اختطف مزراحي على يد أحمد درسية من عرب الشمالي وبعدها جاء الشيخ ابراهيم حجات وأخذه الى قيسارية قبل إعدامه. شـاهـد علـى الـبدايات تحتضن البلدة مواقع أثرية هامة وضاربة في القدم، وقد أبرزت أعمال التنقيب التي أُجريت حديثاً آثاراً كثيرة تعود إلى قيصرية؛ منها: قناة المياه العليا وقناة المياه السفلى في المدينة، ومسرح، وأجزاء من سور المدينة (يعود تاريخها إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية)، وميدان سباق الخيل، وإهراءات التخزين داخل المرفأ، وقلعة الصليبيين الأحدث عهداً. تحتوي على بقايا مدينة رومانية كاملة وجدران وميناء، ومعبد عشتاري، وجدران صليبية وقاعدة تحصين مائلة وبناء روماني مستطيل الشكل، وأساسات وقطع معمارية، وصخور منحوتة وأقنية ويعتبر موقعها حافلاً بالآثار الرومانية والبيزنطية والاسلامية والصليبية وهناك بعض المباني القديمة يحافظ على شكله إلى حد بعيد، غير أن الآثار العربية هدمت أو شوهت وحولت إلى مراحيض عامة. تطهـير القـرية عـرقيـاً قامت العصابات اليهودية المسلحة بهدم البلدة وتشريد أهلها البالغ عددهم عام 48 حوالى (1350) نسمة وكان ذلك في 15-2-1948 وباشراف اسحاق رابين، وكانت قد بدأت الهجمات على القرية في 10/2/1948 بهدف طرد كامل سكانها، كما تمكن الجنود من إخلاء وتدمير أربع قرى أخرى في ذات اليوم تحت سمع وبصر جنود الاحتلال البريطانيين. كما تم محو قرية ثانية تدعى برو قيسارية عن الوجود. ويذكر المؤرخ «الإسرائيلي» بِني موريس، أن قيسارية كانت أولى القرى التي تمت فيها عملية منظمة لطرد السكان الفلسطينيين، على يد الهاغاناه، إذ احتلت وحدة من البلماح القرية في 15 شباط، وهرب السكان أو أُمروا بالرحيل، وذبح من رفض الخروج، ومن بينهم عشرون قروياً أصروا على ملازمة منازلهم حتى بعد أن اُحتلت القرية، فدمّرت وحدة من البلماح منازل القرية في 20 شباط وبعضهم كان ما زال في داخلها. وكان قرار تهديم المنازل قد اتُخذ في أوائل شباط، في اجتماع هيئة الأركان العامة للهاغاناه. وقد دُمّر ثلاثون منزلاً، واستُبقيت ستة منازل بسبب نقص في المتفجرات. وكان التدمير في السياق العام لتطهير السهل الساحلي شمالي تل أبيب، في الأشهر الأولى من سنة 1948. وعلى انقاضها أقام اليهود مستعمرة «أور عكيفا» عام 1951، كما ضموا بعض أراضيها إلى مستعمرة «سدوت يام» المجاورة للبلدة والمقامة في عام 1940 على أراضي خربة أبو طنطورة إلى الجنوب من قيسارية. حوّل ما بقي من القرية اليوم، الى مطعم شرق أوسطي حديث تحت أسم « مطعم هيلنة»– يضم مطعما وباراً، مخصصاً لرفاهية سياح «اسرائيل» الشقر، أما أبناء القرية فيسكن معظمهم في مخيمات الضفة الغربية اليوم وبعضهم في الشتات.
***
(1): إعداد ذكية قرنفل- " البناء " 21/03/2011.

جامعة اسعد نصر

جـامـعـة أسـعـد نـصـر
عن رئيس مجلس ادارة - مدير عام شركة طيران الشرق الاوسط الراحل اسعد نصر يحكى الكثير، بعضه هذه المقالة التي نشرها عبد الحميد فاخوري في " الانوار " بتاريخ 11/04/2011.
جدير بالذكر ان نائب رئيس الحزب الامين توفيق مهنا وعميد شؤون عبر الحدود الامين لبيب ناصيف قاما بواجب التعزية في كاتدرائية مار نقولا في الاشرفية لكون عقيلته الفاضلة ماري انيس عوض من عائلة قومية اجتماعية.انسليت من بين أيدينا ونحن في غفلة عنك. تسللت الى بعيد دون أن تستشير حتى أقرب الناس اليك وكأنك اتخذت قراراً نهائياًَ بذلك. اتصلت بك السبت الماضي لأطمئن عليك. أجبت حرفياً بأنك صرت أحسن، وكي لا أتحشر أكثر قطعت علي الطريق وأسرعت بالقول آمل أن أراك يوم الأربعاء في لقائنا الأسبوعي. فكيف لم تفِ بوعدك وأنت الذي ما نكثت يوماً بعهدك؟ ومعتذراً منك لأنني أعلم علم اليقين بأنك لو شككت بأن هناك مجالاً للحديث عنك لأوصيت قطعاً بمنعي عن قول كلمة حق فيك، وأنت الذي بتواضعك أخجلت التواضع، فعذراً ثانية يا صديقي وأستاذي وأعدك بالايجاز قدر ما أستطيع لا قدر ما تحب.علمني أسعد في الجامعة الأميركية مادة الاحصاء عام 1954 فرأيت فيه أستاذاً يقسو على بعض طلابه دون البعض الآخر. ومع الوقت اكتشفت أنه يتعمد فعل ذلك مع من يتوسم فيهم الخير، فيحثهم على الابداع والتميز. ثم انتقلت معه أو بعده بأشهر قليلة الى الميدل ايست عام 1955، والحديث عن هذه المؤسسة الوطنية التي لم يكتب تاريخها بعد يطول، أما القليل الذي كتب فيحتاج الى كثير من المراجعة والتصحيح والتبديل والتعديل. وكم رجوت أسعد أن يكتب مذكراته ولكنه كان يكرر على مسامعي الغير مقتنعة أن من يكتب المذكرات ينتهي حكماً الى تضخيم دوره وتحجيم أدوار الآخرين وذلك أمر لا يريد الاقدام عليه. ابن 28 عاماً دخل الميدل ايست كمدير للتخطيط وبسرعة قياسية انتقل الى رتبة المدير العام، ونشأ الثنائي علم الدين - نصر اللذان استمرا في العمل معاً بتعاون أصبح حينها مضرباً للأمثال على مدى 22 عاماً، وانفرد أسعد بعد ذلك لمدة خمسة أعوام أخر. واذا كان صائب سلام المؤسس ونجيب علم الدين الباني وسليم سلام المدافع فإن أسعد كان العالم والمعلم. أدرك بثاقب نظره أن تطوير المؤسسة وتوسيعها يعتمد على زيادة الانتاجية نوعياً، والسبيل الى تحقيق هذا الهدف يتم من خلال تشكيل ادارة فاعلة وطموحة التي بدورها يمكن أن تبني الما دونها وهكذا دواليك وذلك عبر قولبة القيادات الادارية بحيث تستطيع أن تستوعب الأساليب الحديثة المبنية على العلم والمنطق. هذه المهمة تصدى لها المعلم كما فعل في ال AUB سابقاً ببراعة نادرة وعلم غزير ومنطق لا يرد. واستعمل للوصول الى هدفه أسلوبه الشهير الذي عرفته عنه وهو القسوة على من يعتقد فيه القدرة على الابداع والتميز. ولأن الوقت عنده لا يحسب بالساعات بل بالدقائق استطاع بجهد خارق تشكيل تلك الحلقة من الادارة التي تمكنت من صياغة الحلقات الأخرى وساهمت في تحقيق النمو الرائع للميدل ايست بحيث أصبحت نموذجاً تبعه الكثيرون في عالمنا العربي وتمتعت بسمعة عالمية مميزة جعلتها صنو شركات اضخم بمراحل واقدم بسنوات. لدي حديث يطول عن هذا الرجل المميز ثقافة وعلماً وسعة أفق. يكفي أن أزيد بأن الميدل ايست سبقت عصرها في نظرتها الى ما جرى تسميته بالرأسمالي البشري، أي مجموع الطبقة العاملة على الأرض وفي الجو تمييزاً له عن الرأسمال المادي الذي يمكن أن يتبدل مالكوه كما حصل عدة مرات. أقر الثنائي المذكور مبدأ جرى اتباعه بعدها لفترة طويلة وهو ان التعاطي مع العمال على مختلف أصنافهم ورتبهم لا يكون على أساس اعتبارهم أجراء أو أزلاما أو أتباعا بل على اعتبارهم شركاء حقيقيين ومنتمين فاعلين للمؤسسة. من هنا تم منحهم أسهماً في الميدل ايست، وإقرار الضمان الصحي حتى قبل أن تقره الدولة بسنوات الخ... كما تم التعامل مع النقابات على أساس المصلحة المشتركة، فكانت تلك العلاقة المميزة من التكامل بين الادارة والموظفين مما مكن الشركة من مواجهة العواصف التي هبت على لبنان وفي لبنان على مدى عشرات السنين. لقد تخرجت والكثير من زملائي من جامعة أسعد نصر الفريدة، وما هذه العجالة الا للتعبير، وإن كان ناقصاً، عما ندين لهذا الرجل الذي نقلنا الى عصر الحداثة فكراً وثقافة وممارسة. أما فيما يخصني شخصياً فأكتفي بالقول: اثنان أثرا في حياتي، الأول: والدي الذي توفي وعمري ٢٨ عاماً أما الثاني فأسعد نصر الذي بفقدانه فقدت جزءاً من ذاتي ولا أزيد. أرجو يا أسعد أن أكون قد أوجزت كما تحب كي لا تحاسبني حين ألتقي معك في قليل أو كثير كي نستأنف حوارنا الأبدي. عزائي الى الزوجة الصديقة ماري والأبناء يوسف، خالد، منذر، وأسامة، والشقيقة ليلى والأصدقاء الكثر مع الاعتذار لأن ما ذكرت كان أقل مما يستحق المعلم وأكثر مما أطيق.