ابراهيم المنذر (1875-1950)
شكراً للكاتب جوزف ب. أبي راشد الذي اعاد الينا الشيخ ابراهيم المنذر، النائب واللغوي وشيخ المنابر، وله يقام حفل تكريمي يوم الخميس 15 الجاري في قصر الاونيسكو.
إلا أن الكاتب أبو راشد أسقط في تعريفه القيّم عن الشيخ ابراهيم، علاقته بسعاده وبالحزب، وأنه أب لرفقاء، أبرزهم حافظ الذي تولى مسؤوليات حزبية واقترن بالامينة جمال ناصيف، أول رفيقة تتولى مسؤولية مديرية السيدات في أواسط ثلاثينات القرن الماضي.
للشيخ إبراهيم أولاد، كلهم انتموا الى الحزب:
سلوى (أم سمير) زوجة الرفيق فؤاد اندراوس
صلاح
حافظ
بديع ونهاد
عنه كتب جوزف ب. ابي راشد في عدد "النهار" بتاريخ 12/10/2009 ننقله بالنص الحرفي.
*
ابرهيم المنذر النائب واللغوي "شيخ المنابر" كتب منتصف القرن الماضي عما نتطلع اليه اليوم
الشيخ ابرهيم المنذر (1875 – 1950) ابن المحيدثة، اللغوي والخطيب والشاعر والمربي والسياسي والصحافي والمحامي والقاضي والعازف على الناي والعود، مؤسس مدرسة "البستان" 1910 في بلدته. عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، وأحد مؤسسي المجمع العلمي اللبناني 1928 – 1930. نائب في البرلمان اللبناني غير مرّة. مناضل ضد السلطات العثمانية والمتصرفية والانتداب. مدافع عن الدستور واللغة العربية. منادٍ بتحرير المرأة وبرعاية العلوم والآداب والفنون. صاحب مؤلفات في: اللغة، الشعر، الخطابة، السياسة، الاجتماع، الأدب والمسرح.
الكلام على الشيخ ابراهيم هو الكلام على "حديث النائب" مع "أل" التعريف، الساهر والجريء والمثابر والمثقف، الذي لا يترك موضوعاً وطنياً إلاّ ويكون له فيه خطاب أو مقال أو حديث يتضمن من الانتقاد والتوجيه وسرعة الخاطر والرؤيوية الشيء الكثير، بأخلاق قلّ نظيرها، عمادها احترام الآخر، ومحبته، ونصحه في كل ما يعود بالخير على الشعب والوطن.
كتب في عشرات الجرائد والمجلات اللبنانية والعربية والمهجرية، وبرع في الخطاب فلقّب بشيخ المنابر. وتميّز بثقافة عالية مكنته من معالجة موضوعات كثيرة مرّت في حياته العادية والأدبية والسياسية وما بعدها، وعلى القارئ اللبيب أن يقدّر فضله في ما أُنجز منذ أيامه، وفي ما هو عارض انتهى في المرحلة التي أثير فيها. ولكن يلفت النظر كثير من الأمور الرؤيوية: كمستقبل التعليم، والتربية، واللغة العربية والتعليم المهني، ومواصفات الرجال الرجال، ومتعاطي الأمور السياسية، وتقييم وطنيتهم وأخلاقهم وصلاحهم للخدمة العامة. وهناك، وللأسف، أمور عديدة لم يؤخذ بها، وكأنها كُتبت لعصرنا منذ نحو تسعين سنة، كالقضية الفلسطينية ومستقبلها وكيفية معالجتها، والامور التربوية بشكل عام، التي ما زال قسم كبير منها، مع ما جاء في توصيات مجمع اللويزة الشهير عام 1736 ، بعيداً عن التطبيق حتى يومنا هذا. واذا استبقينا كلمة "غرباء" مكان "اجانب" و"افرنج" نرى أن الحياة لم تتبدل كثيراً طيلة هذه السنوات، وكأن ما كتب قد كُتب لعصرنا ولا يزال.
وفي سبيل الابتعاد عن رأي ذاتي نعطيه في بعض موضوعات الكتاب، ويُلزم القارئ بتقييمنا مندرجاته، نرى ان اختيار بعض من أحاديث الشيخ، وبشكل حرفيّ، يعطي صورة واضحة عن صفاته وأسلوبه واهتماماته، ورؤيته مشاكل الانسان والوطن.
الشيخ عن نفسه: أُجلُّ العلم والعلماء، أحب الصحافة، أعبد سموّ الأخلاق، أعُدُّ الوطن فوق الدين، والانسانية فوق الوطنية، وفي ما عدا ذلك: أنا لبناني عربي، أحبّ لبنان ، وأقدّس أرضه، وأحقق آمال منتخبيّ بتعزيز استقلاله، أي استقلال لبنان. واذا رأيتُ حسنة، ناديت بها شاكراً، أو سيئة جاهرت بها ناقداً، وإلاّ كنت حقيراً في عينيْ نفسي، خائناً للشعب والوطن. ويضيف: النائب الجريء يقول الحق، غير هيّاب ولا وَجِل، وسواء لديه، رضي أولياء الأمر أم أبوا. العمل لديه يبتدئ فكراً، ثم يُسمع قولاً، ثم يظهر فعلاً.
ثم يتساءل: أي مزيّة للنائب، بل أي شرف له اذا هو لم يغضب للحرية وقد أؤتمن عليها، وأقسم على الاحتفاظ بها، والذود عنها بنفيسه ونفسه؟
قيل فيه: انبرى يعالج الازمات، في ندوة المجلس وعلى صفحات الجرائد، بعقل بصير، ونظر ثاقب، شأن العالم الحكيم، والوطني المتفاني في خدمة بلاده، والساهر على مصالحها دون ملل أو كلل. بعد سقوطه في النيابة بعد خمس دورات ناجحة قال: الآن وصلتُ الى حقوقي، فشهادة الأدب خير من شهادة السياسة، وتقدير العلم للعلم أفضل من صوت الجاهل.
عن سياسة الأجانب في لبنان كتب: لو تعرفون ما يجري عندنا اليوم لضحكتم حتى استلقيتم، وحزنتم حتى أدمَيْتم الفؤاد ! حالة تفْطر القلوب.
عن الخطر الصهيوني قال: أخذ الخطر الصهيوني يمتدّ رويداً رويداً في جميع أنحاء البلاد، تحت ظل الاستعمار. ومهما نظمنا وكتبنا، فسيبقى كلاماً بكلام، ولا يفعل في هذا المجال غير السلاح والمال، فهل يفهم المهاجرون هذا، قبل استفحال الخطب؟
في يأسه من الحكم يعبّر: أنا اعجب من نفسي كما أعجب من كتّاب الصحف، اذا كان ما أكتب ويكتبون يمضي حبراً على ورق، ويُطوى كما تطوى السنون، دون أن يترك أثراً في نفوس القائمين بالأمر في ما كانوا يشعرون. أصبح الصمت في نفوس الأهلين أفعل من الكلام، ولا تكاد تمرّ رجل ألا نظر إليك صامتاً، ودلائل النقمة على الحكومة وعمّالها تبرز بين عينيه وحاجبيه.
ونتذكره في نظرته الى الصحافة وواجباتها: واجبها نحو الحكومة الاصلاح والتشهير، ونحو القارئ: الامانة في رواية الأخبار، والترفّع عن الطعن الجارح، الذي يوعز الصدور حقداً، فيضر ولا يفيد.
اما مشكلة الطائفية، فقد اختصرها الشيخ بما يلي: الطائفية تقف حاجزاً دون كل فكر وقول وعمل... هناك حاجز حصين قام في صلب الدستور، ووقف سداً منيعاً دون ارباب الجدارة والحنكة والتحصيل. والعمل بالطائفية، دون الجدارة والاستحقاق، هو عمل رجعي، شاذ، يجعلنا سخرية الامم الراقية.
ان محاربة الطائفية تقوم على فهم الدين الصحيح والسياسة الصحيحة وهو يقول: يظل الناس أصحاب دين ما داموا يبحثون عن علّة العلل، ويعتصمون بمعتقدات آبائهم واجدادهم؛ ويظلون اصحاب سياسة ما داموا يقولون بالوطن، ولو انبثّوا في اقطار العالم جميعاً. إن معظم بلايا الشرق من نقص فهم الدين والسياسة، ومتى كان الداء فيهما فلا يجوز ان يُهمل امرهما بحجة تجنب الشقاق، بل يداوى الداء لنيل الشفاء، وإلاّ ظللنا عرضة للنوائب والثورات الشاذة، التي تلتهم الاخضر واليابس، وتعود بنا القهقرى، قروناً طوالاً، كما نرى حالنا اليوم.. لنبحث في الدين، ونحصره في نطاق لا يتعداه، ولنقل للصغير فينا: افعل الخير، واترك الشر؛ وللكبير فينا: مُر بالمعروف، وانهَ عن المنكر. ذلك هو الدين الصحيح، فاحفظه في قلبك، وعلّمه لولدك وقريبك، ولنبحث في السياسة، ولندرس شؤون الامم، ومتى تسنّى لنا ان نرقّي اخلاقنا، ونحكم اعمالنا، ونحترم رجال الفضيلة فينا، كان لنا قومية، وكان لنا وطن. وإلا ظللنا مطمح المطامح، وطعمة الفاتح، لفساد عقيدتنا الدينية وعقيدتنا الوطنية.
وعن السياسة وسوء الفهم للشيخ امثولة اخلاقية يلخصها كما يلي: هنالك داء أليم يئن من وطأته الشرق، وهو داء سوء التفاهم، وان شئت فقل سوء الفهم. هذا الداء متفش بين القوم، وللفريق الكبير مقاصد شخصية، يريدون تحقيقها، فيؤوّلون الاقوال على هواهم، ويجعلون الحبة قبة، ليوسعوا فسحة الخلاف بين المتناظرين، بحيث لا يبقى للصلح مجال، وعندئذ يكون لهم ما يريدون. ما اشبه اليوم بالبارحة في القضايا الوطنية التي تشغل بال الشيخ ويعبّر عنها كما يلي:
هكذا شاءت لنا الايام، او هكذا شئنا لانفسنا. نحن نلهو بالقشور والاجانب يجمعون اللباب، نحن نقتتل على الوطن من دون ان نفهم معنى الوطن، وهم يضعون سوراً من حديد حول المنازل والاعناق، نحن نقول وهم يعملون، وما اعظم الفرق بين القول والعمل؟ ثم يضيف: اخشى ان يتسرّب اليأس الى النفوس الابية، التي كانت تأنف الذلّ والعار، فيتولاها الجمود، من سوء الحال وهول المآل. الشعوب تحيا وتموت بشجاعة الافراد او جبانة الافراد، عنيت بهم: اولئك الذين يتولّون قيادة الامة، بزعامة نقية يموت فيها الفرد تجاه المجموع، او زعامة مزيّفة يموت بها الشعب على أقدام الزعيم الكاذب. هؤلاء يقتلون الإباء والانفة في النفوس، واولئك يحيون فيها الشمم، ويصعدون بها الى مراتب المجد والشرف.
اما في ما خص الاحزاب والناخب والنائب ومهمته، والمجلس وعمله، فقد وفّى الشيخ الموضوع حقّه كما يلي: دعونا نتزاحم ونتطاحن، ولكن بأحزاب منظمة! فمن كان منا وجيه الرأي، سديد المرمى، عاش. وما كان منها غير ذلك مات. والتجارب محكّ الرجال. وقبل ان نرى ما يفعل مجلس النواب، يجب ان نبحث عن اربابه، واخلاقهم واميالهم، وسابق مآتيهم، وصحة وطنيتهم، وعندئذ نبني على كل شيء ما يصح ان يقال من الخطط والاعمال، لا بد لكل عضو من اعضاء المجلس من تاريخ شخصي يرجع اليه، ومعرفة يشهد بها، ومنهج يسلك فيه، كوضعه، قبل النيابة، في المحاماة او الاقتصاد او التجارة او الزراعة او الطب او العلم او الزعامة او الصحافة او السياسة وغيرها. على هذه القاعدة وجب ان يكون المجلس مؤلفاً من امثال هؤلاء، لتتم الغاية المقصودة، واذا أُلّف مثل ما كان يؤلف قبلاً، بأن يسعى الزعيم بماله ونفوذه، فيتحقق مسعاه، ولا يجلس على كرسي النواب الا الزعماء النافذون، والذين تلطخت صفحات تاريخهم بالمعايب، فعلى هذه البلاد السلام، لانهم سيسترجعون بالرشوة ما فقدوه بالرشوة، التي تسنّموا بها ذروة المناصب، ولا رأي هناك، ولا عمل ولا مشروع، حتى ولا فكر راق ينجم عنه خير البلاد، او حركة حياة تؤدي الى شيء من العمران او الفلاح.
واضاف عن الناخب: جدير بالناخبين، والمجال فسيح، والفرصة سانحة، ان يفرّقوا بين القمح والزوان، ويُمزّقوا اللوائح التي تقدم اليهم، مطبوعة بمال الرشوة، ويكتبوا، بقلم الاخلاص اسماء من توافرت فيهم الصفات لخدمة الامة اللبنانية، والقيام بأعبائها الثقيلة، وانماء الروح الوطنية فيها. نحن في اشدّ الحاجة اليوم الى من يمثل فينا الحرية والجرأة المقرونتين بالحكمة والاخلاص. ليبرهن المنتخبون على شيء من استقلال الفكر والعمل، وما الاستسلام الاعمى الا دليل التقهقر والانحطاط.
ثم يضيف عن نفسه: كل كلمة اضعها، منذ الآن، انما هي توضع بلسان الشعب الذي انتخبني. فكم يجب ان يكون في تلك الكلمة من التعقّل والحكمة؟ اذا كانت المبادئ قويمة، فالثبات عليها واجب، واذا كانت غير قويمة، فالاصرار عليها جهل. ثم يستطرد: سهل جداً وضع البيانات، وبثّ الوعود، ولكن العمل بها ليس بسهل. سهل جداً الظهور بمظهر الوطنية، ولكن صوغ القلوب لها، وجعل الصدور مضطربة بحبها، ليس بسهل، اما مناقشات مجلس النواب فتكون بنظر الشيخ مبنية على الدرس والعلم، ويحلو للقوم حضور الجلسات، وتكون النتيجة مقيدة، لانها تبنى على العلم الصحيح، والحجج الدامغة.
أما عن الاستقلال والاحرار والشهداء فيقول الشيخ: في لبنان فريق لا ينامون على الضيم، ويودّون أن يعيشوا كأبناء الأمم الراقية، يحكمون أنفسهم، ويديرون شؤونهم بأيديهم، ويشتغلون بعقولهم، لا عقول الاجانب. ولكن هؤلاء قليلون. كثيرون ينادون بالاستقلال في المجالس وعلى المنابر وفي الصحف، ولكن عقيدتهم غير متينة، وايمانهم غير قوي، وهمتهم غير عالية.
لا اعلان استقلال، ولا رفع علم، ولا إلقاء الخطب والقصائد يجدينا نفعاً، اذا لم يستتب الأمن وتتوافر موارد الرزق وتنتظم طرق الاعاشة. بل لا حياة ولا استقلال ما لم ترتفع الايدي الضاغطة، ويوقف تيّار المهاجرة. لنزرْ في العيد قبور الشهداء، فهناك درس مفيد للمواطنين: لا استقلال بغير الجندية، ولا كرامة لأمّة لا ترتكز على سواعد بنيها. ثم يختم: في الصحافة جرأة، وفي الشعب حياة كامنة، وفي بعض رجال الامر إخلاص، ولكننا غير متحّدين.
كان للشيخ ابرهيم معركة طويلة مع القضاء والمحاكم: تنظيمها، تموضعها، ومواصفات رجالها، ولم يغب عن باله وضع السجون وتحسينها، قال مخاطباً الجنرال ساراي: ساراي، يا ممثل فرنسا الحرة، مؤيّدة حقوق الانسان: لك الفخر بماضيك، ولك الهناء بحاضرك، فهات خاتمة مباركة جليلة كشَعْرِك الذي يضاهي ثلج صنين بياضاً ونقاء، ونظّم شؤون القضاء، وأرحِ الناس من الفوضى، واعِد الى أطراف البلاد حقوقها فيه، يطمئن الشعب وعميد فرنسا وأحرارها، ويدخل بك العام الجديد وفي فمك كلمة الحق، وبين يديك كل مشروع مفيد، كما طالب باعفاء المساجين من قسم من محكوميتهم ان حسُنت سيرتهم في السجن، فضلاً عن الشيوخ والعاجزين والنساء والاولاد والمرضى المطروحين بمستشفيات الحكومة.
أما الهجرة والمهاجرة فكان لهما نصيب كبير من اهتمامه حيث قال: في كل اسبوع يسافر من ثغر بيروت من الألف الى الالفَي نسمة. فاذا دامت الحال على هذا المنوال سنة او سنتين، فمن يبقى في لبنان؟ ومن يحلّ محل اللبنانيين؟ والى مَن يصير لبنان؟؟ ثم يضيف: متى عرفنا ما نأكل، وما نلبس، وما نشرب، ومتى شعرنا ان لذّتنا بصنع أيدينا لا تضاهيها لذة في العالم، ومتى وثقنا أننا نقوى على المعيشة ببلادنا بنصف العناء الذي نبذله في المهجر، أيْقنّا عندئذ أننا أمّة حيّة، لها ما للأمم الراقية من حق استنشاق الهواء، واستخدام قوى الطبيعة لخيرنا ونجاحنا.
أما الاصطياف والتشتية والسياحة فقد اهتمّ بها في أكثر من مجال، وبخاصة في مطالبة الحكومة بمدّ خط المركبات في أعالي الجبال، بحيث تجعل صلة بين قرى الاصطياف العليا. هذا بالاضافة الى الزراعة، وبخاصة شجر الزيتون، الذي يؤذيه الفرط بالعصا بدل الأيدي، لتتمكن الشجرة من الحمل سنة بعد سنة، كما تكلم عن تطعيم شجر البطم بالفستق الحلبي، وعن تلقيح الاشجار، وتكثير الثمر، وتحسين الجيّد منه، قائلاً: حياة الوطن بحياة أرضه.
• تُكرّم ذكرى الشيخ إبرهيم المنذر في قصر الأونيسكو الساعة السادسة مساء 15 تشرين الأول 2009 في حضور كبار في الشعر والنثر، وحيث يُهدى الى الحضور ما أُعيد إصداره من مؤلفاته.
شكراً للكاتب جوزف ب. أبي راشد الذي اعاد الينا الشيخ ابراهيم المنذر، النائب واللغوي وشيخ المنابر، وله يقام حفل تكريمي يوم الخميس 15 الجاري في قصر الاونيسكو.
إلا أن الكاتب أبو راشد أسقط في تعريفه القيّم عن الشيخ ابراهيم، علاقته بسعاده وبالحزب، وأنه أب لرفقاء، أبرزهم حافظ الذي تولى مسؤوليات حزبية واقترن بالامينة جمال ناصيف، أول رفيقة تتولى مسؤولية مديرية السيدات في أواسط ثلاثينات القرن الماضي.
للشيخ إبراهيم أولاد، كلهم انتموا الى الحزب:
سلوى (أم سمير) زوجة الرفيق فؤاد اندراوس
صلاح
حافظ
بديع ونهاد
عنه كتب جوزف ب. ابي راشد في عدد "النهار" بتاريخ 12/10/2009 ننقله بالنص الحرفي.
*
ابرهيم المنذر النائب واللغوي "شيخ المنابر" كتب منتصف القرن الماضي عما نتطلع اليه اليوم
الشيخ ابرهيم المنذر (1875 – 1950) ابن المحيدثة، اللغوي والخطيب والشاعر والمربي والسياسي والصحافي والمحامي والقاضي والعازف على الناي والعود، مؤسس مدرسة "البستان" 1910 في بلدته. عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، وأحد مؤسسي المجمع العلمي اللبناني 1928 – 1930. نائب في البرلمان اللبناني غير مرّة. مناضل ضد السلطات العثمانية والمتصرفية والانتداب. مدافع عن الدستور واللغة العربية. منادٍ بتحرير المرأة وبرعاية العلوم والآداب والفنون. صاحب مؤلفات في: اللغة، الشعر، الخطابة، السياسة، الاجتماع، الأدب والمسرح.
الكلام على الشيخ ابراهيم هو الكلام على "حديث النائب" مع "أل" التعريف، الساهر والجريء والمثابر والمثقف، الذي لا يترك موضوعاً وطنياً إلاّ ويكون له فيه خطاب أو مقال أو حديث يتضمن من الانتقاد والتوجيه وسرعة الخاطر والرؤيوية الشيء الكثير، بأخلاق قلّ نظيرها، عمادها احترام الآخر، ومحبته، ونصحه في كل ما يعود بالخير على الشعب والوطن.
كتب في عشرات الجرائد والمجلات اللبنانية والعربية والمهجرية، وبرع في الخطاب فلقّب بشيخ المنابر. وتميّز بثقافة عالية مكنته من معالجة موضوعات كثيرة مرّت في حياته العادية والأدبية والسياسية وما بعدها، وعلى القارئ اللبيب أن يقدّر فضله في ما أُنجز منذ أيامه، وفي ما هو عارض انتهى في المرحلة التي أثير فيها. ولكن يلفت النظر كثير من الأمور الرؤيوية: كمستقبل التعليم، والتربية، واللغة العربية والتعليم المهني، ومواصفات الرجال الرجال، ومتعاطي الأمور السياسية، وتقييم وطنيتهم وأخلاقهم وصلاحهم للخدمة العامة. وهناك، وللأسف، أمور عديدة لم يؤخذ بها، وكأنها كُتبت لعصرنا منذ نحو تسعين سنة، كالقضية الفلسطينية ومستقبلها وكيفية معالجتها، والامور التربوية بشكل عام، التي ما زال قسم كبير منها، مع ما جاء في توصيات مجمع اللويزة الشهير عام 1736 ، بعيداً عن التطبيق حتى يومنا هذا. واذا استبقينا كلمة "غرباء" مكان "اجانب" و"افرنج" نرى أن الحياة لم تتبدل كثيراً طيلة هذه السنوات، وكأن ما كتب قد كُتب لعصرنا ولا يزال.
وفي سبيل الابتعاد عن رأي ذاتي نعطيه في بعض موضوعات الكتاب، ويُلزم القارئ بتقييمنا مندرجاته، نرى ان اختيار بعض من أحاديث الشيخ، وبشكل حرفيّ، يعطي صورة واضحة عن صفاته وأسلوبه واهتماماته، ورؤيته مشاكل الانسان والوطن.
الشيخ عن نفسه: أُجلُّ العلم والعلماء، أحب الصحافة، أعبد سموّ الأخلاق، أعُدُّ الوطن فوق الدين، والانسانية فوق الوطنية، وفي ما عدا ذلك: أنا لبناني عربي، أحبّ لبنان ، وأقدّس أرضه، وأحقق آمال منتخبيّ بتعزيز استقلاله، أي استقلال لبنان. واذا رأيتُ حسنة، ناديت بها شاكراً، أو سيئة جاهرت بها ناقداً، وإلاّ كنت حقيراً في عينيْ نفسي، خائناً للشعب والوطن. ويضيف: النائب الجريء يقول الحق، غير هيّاب ولا وَجِل، وسواء لديه، رضي أولياء الأمر أم أبوا. العمل لديه يبتدئ فكراً، ثم يُسمع قولاً، ثم يظهر فعلاً.
ثم يتساءل: أي مزيّة للنائب، بل أي شرف له اذا هو لم يغضب للحرية وقد أؤتمن عليها، وأقسم على الاحتفاظ بها، والذود عنها بنفيسه ونفسه؟
قيل فيه: انبرى يعالج الازمات، في ندوة المجلس وعلى صفحات الجرائد، بعقل بصير، ونظر ثاقب، شأن العالم الحكيم، والوطني المتفاني في خدمة بلاده، والساهر على مصالحها دون ملل أو كلل. بعد سقوطه في النيابة بعد خمس دورات ناجحة قال: الآن وصلتُ الى حقوقي، فشهادة الأدب خير من شهادة السياسة، وتقدير العلم للعلم أفضل من صوت الجاهل.
عن سياسة الأجانب في لبنان كتب: لو تعرفون ما يجري عندنا اليوم لضحكتم حتى استلقيتم، وحزنتم حتى أدمَيْتم الفؤاد ! حالة تفْطر القلوب.
عن الخطر الصهيوني قال: أخذ الخطر الصهيوني يمتدّ رويداً رويداً في جميع أنحاء البلاد، تحت ظل الاستعمار. ومهما نظمنا وكتبنا، فسيبقى كلاماً بكلام، ولا يفعل في هذا المجال غير السلاح والمال، فهل يفهم المهاجرون هذا، قبل استفحال الخطب؟
في يأسه من الحكم يعبّر: أنا اعجب من نفسي كما أعجب من كتّاب الصحف، اذا كان ما أكتب ويكتبون يمضي حبراً على ورق، ويُطوى كما تطوى السنون، دون أن يترك أثراً في نفوس القائمين بالأمر في ما كانوا يشعرون. أصبح الصمت في نفوس الأهلين أفعل من الكلام، ولا تكاد تمرّ رجل ألا نظر إليك صامتاً، ودلائل النقمة على الحكومة وعمّالها تبرز بين عينيه وحاجبيه.
ونتذكره في نظرته الى الصحافة وواجباتها: واجبها نحو الحكومة الاصلاح والتشهير، ونحو القارئ: الامانة في رواية الأخبار، والترفّع عن الطعن الجارح، الذي يوعز الصدور حقداً، فيضر ولا يفيد.
اما مشكلة الطائفية، فقد اختصرها الشيخ بما يلي: الطائفية تقف حاجزاً دون كل فكر وقول وعمل... هناك حاجز حصين قام في صلب الدستور، ووقف سداً منيعاً دون ارباب الجدارة والحنكة والتحصيل. والعمل بالطائفية، دون الجدارة والاستحقاق، هو عمل رجعي، شاذ، يجعلنا سخرية الامم الراقية.
ان محاربة الطائفية تقوم على فهم الدين الصحيح والسياسة الصحيحة وهو يقول: يظل الناس أصحاب دين ما داموا يبحثون عن علّة العلل، ويعتصمون بمعتقدات آبائهم واجدادهم؛ ويظلون اصحاب سياسة ما داموا يقولون بالوطن، ولو انبثّوا في اقطار العالم جميعاً. إن معظم بلايا الشرق من نقص فهم الدين والسياسة، ومتى كان الداء فيهما فلا يجوز ان يُهمل امرهما بحجة تجنب الشقاق، بل يداوى الداء لنيل الشفاء، وإلاّ ظللنا عرضة للنوائب والثورات الشاذة، التي تلتهم الاخضر واليابس، وتعود بنا القهقرى، قروناً طوالاً، كما نرى حالنا اليوم.. لنبحث في الدين، ونحصره في نطاق لا يتعداه، ولنقل للصغير فينا: افعل الخير، واترك الشر؛ وللكبير فينا: مُر بالمعروف، وانهَ عن المنكر. ذلك هو الدين الصحيح، فاحفظه في قلبك، وعلّمه لولدك وقريبك، ولنبحث في السياسة، ولندرس شؤون الامم، ومتى تسنّى لنا ان نرقّي اخلاقنا، ونحكم اعمالنا، ونحترم رجال الفضيلة فينا، كان لنا قومية، وكان لنا وطن. وإلا ظللنا مطمح المطامح، وطعمة الفاتح، لفساد عقيدتنا الدينية وعقيدتنا الوطنية.
وعن السياسة وسوء الفهم للشيخ امثولة اخلاقية يلخصها كما يلي: هنالك داء أليم يئن من وطأته الشرق، وهو داء سوء التفاهم، وان شئت فقل سوء الفهم. هذا الداء متفش بين القوم، وللفريق الكبير مقاصد شخصية، يريدون تحقيقها، فيؤوّلون الاقوال على هواهم، ويجعلون الحبة قبة، ليوسعوا فسحة الخلاف بين المتناظرين، بحيث لا يبقى للصلح مجال، وعندئذ يكون لهم ما يريدون. ما اشبه اليوم بالبارحة في القضايا الوطنية التي تشغل بال الشيخ ويعبّر عنها كما يلي:
هكذا شاءت لنا الايام، او هكذا شئنا لانفسنا. نحن نلهو بالقشور والاجانب يجمعون اللباب، نحن نقتتل على الوطن من دون ان نفهم معنى الوطن، وهم يضعون سوراً من حديد حول المنازل والاعناق، نحن نقول وهم يعملون، وما اعظم الفرق بين القول والعمل؟ ثم يضيف: اخشى ان يتسرّب اليأس الى النفوس الابية، التي كانت تأنف الذلّ والعار، فيتولاها الجمود، من سوء الحال وهول المآل. الشعوب تحيا وتموت بشجاعة الافراد او جبانة الافراد، عنيت بهم: اولئك الذين يتولّون قيادة الامة، بزعامة نقية يموت فيها الفرد تجاه المجموع، او زعامة مزيّفة يموت بها الشعب على أقدام الزعيم الكاذب. هؤلاء يقتلون الإباء والانفة في النفوس، واولئك يحيون فيها الشمم، ويصعدون بها الى مراتب المجد والشرف.
اما في ما خص الاحزاب والناخب والنائب ومهمته، والمجلس وعمله، فقد وفّى الشيخ الموضوع حقّه كما يلي: دعونا نتزاحم ونتطاحن، ولكن بأحزاب منظمة! فمن كان منا وجيه الرأي، سديد المرمى، عاش. وما كان منها غير ذلك مات. والتجارب محكّ الرجال. وقبل ان نرى ما يفعل مجلس النواب، يجب ان نبحث عن اربابه، واخلاقهم واميالهم، وسابق مآتيهم، وصحة وطنيتهم، وعندئذ نبني على كل شيء ما يصح ان يقال من الخطط والاعمال، لا بد لكل عضو من اعضاء المجلس من تاريخ شخصي يرجع اليه، ومعرفة يشهد بها، ومنهج يسلك فيه، كوضعه، قبل النيابة، في المحاماة او الاقتصاد او التجارة او الزراعة او الطب او العلم او الزعامة او الصحافة او السياسة وغيرها. على هذه القاعدة وجب ان يكون المجلس مؤلفاً من امثال هؤلاء، لتتم الغاية المقصودة، واذا أُلّف مثل ما كان يؤلف قبلاً، بأن يسعى الزعيم بماله ونفوذه، فيتحقق مسعاه، ولا يجلس على كرسي النواب الا الزعماء النافذون، والذين تلطخت صفحات تاريخهم بالمعايب، فعلى هذه البلاد السلام، لانهم سيسترجعون بالرشوة ما فقدوه بالرشوة، التي تسنّموا بها ذروة المناصب، ولا رأي هناك، ولا عمل ولا مشروع، حتى ولا فكر راق ينجم عنه خير البلاد، او حركة حياة تؤدي الى شيء من العمران او الفلاح.
واضاف عن الناخب: جدير بالناخبين، والمجال فسيح، والفرصة سانحة، ان يفرّقوا بين القمح والزوان، ويُمزّقوا اللوائح التي تقدم اليهم، مطبوعة بمال الرشوة، ويكتبوا، بقلم الاخلاص اسماء من توافرت فيهم الصفات لخدمة الامة اللبنانية، والقيام بأعبائها الثقيلة، وانماء الروح الوطنية فيها. نحن في اشدّ الحاجة اليوم الى من يمثل فينا الحرية والجرأة المقرونتين بالحكمة والاخلاص. ليبرهن المنتخبون على شيء من استقلال الفكر والعمل، وما الاستسلام الاعمى الا دليل التقهقر والانحطاط.
ثم يضيف عن نفسه: كل كلمة اضعها، منذ الآن، انما هي توضع بلسان الشعب الذي انتخبني. فكم يجب ان يكون في تلك الكلمة من التعقّل والحكمة؟ اذا كانت المبادئ قويمة، فالثبات عليها واجب، واذا كانت غير قويمة، فالاصرار عليها جهل. ثم يستطرد: سهل جداً وضع البيانات، وبثّ الوعود، ولكن العمل بها ليس بسهل. سهل جداً الظهور بمظهر الوطنية، ولكن صوغ القلوب لها، وجعل الصدور مضطربة بحبها، ليس بسهل، اما مناقشات مجلس النواب فتكون بنظر الشيخ مبنية على الدرس والعلم، ويحلو للقوم حضور الجلسات، وتكون النتيجة مقيدة، لانها تبنى على العلم الصحيح، والحجج الدامغة.
أما عن الاستقلال والاحرار والشهداء فيقول الشيخ: في لبنان فريق لا ينامون على الضيم، ويودّون أن يعيشوا كأبناء الأمم الراقية، يحكمون أنفسهم، ويديرون شؤونهم بأيديهم، ويشتغلون بعقولهم، لا عقول الاجانب. ولكن هؤلاء قليلون. كثيرون ينادون بالاستقلال في المجالس وعلى المنابر وفي الصحف، ولكن عقيدتهم غير متينة، وايمانهم غير قوي، وهمتهم غير عالية.
لا اعلان استقلال، ولا رفع علم، ولا إلقاء الخطب والقصائد يجدينا نفعاً، اذا لم يستتب الأمن وتتوافر موارد الرزق وتنتظم طرق الاعاشة. بل لا حياة ولا استقلال ما لم ترتفع الايدي الضاغطة، ويوقف تيّار المهاجرة. لنزرْ في العيد قبور الشهداء، فهناك درس مفيد للمواطنين: لا استقلال بغير الجندية، ولا كرامة لأمّة لا ترتكز على سواعد بنيها. ثم يختم: في الصحافة جرأة، وفي الشعب حياة كامنة، وفي بعض رجال الامر إخلاص، ولكننا غير متحّدين.
كان للشيخ ابرهيم معركة طويلة مع القضاء والمحاكم: تنظيمها، تموضعها، ومواصفات رجالها، ولم يغب عن باله وضع السجون وتحسينها، قال مخاطباً الجنرال ساراي: ساراي، يا ممثل فرنسا الحرة، مؤيّدة حقوق الانسان: لك الفخر بماضيك، ولك الهناء بحاضرك، فهات خاتمة مباركة جليلة كشَعْرِك الذي يضاهي ثلج صنين بياضاً ونقاء، ونظّم شؤون القضاء، وأرحِ الناس من الفوضى، واعِد الى أطراف البلاد حقوقها فيه، يطمئن الشعب وعميد فرنسا وأحرارها، ويدخل بك العام الجديد وفي فمك كلمة الحق، وبين يديك كل مشروع مفيد، كما طالب باعفاء المساجين من قسم من محكوميتهم ان حسُنت سيرتهم في السجن، فضلاً عن الشيوخ والعاجزين والنساء والاولاد والمرضى المطروحين بمستشفيات الحكومة.
أما الهجرة والمهاجرة فكان لهما نصيب كبير من اهتمامه حيث قال: في كل اسبوع يسافر من ثغر بيروت من الألف الى الالفَي نسمة. فاذا دامت الحال على هذا المنوال سنة او سنتين، فمن يبقى في لبنان؟ ومن يحلّ محل اللبنانيين؟ والى مَن يصير لبنان؟؟ ثم يضيف: متى عرفنا ما نأكل، وما نلبس، وما نشرب، ومتى شعرنا ان لذّتنا بصنع أيدينا لا تضاهيها لذة في العالم، ومتى وثقنا أننا نقوى على المعيشة ببلادنا بنصف العناء الذي نبذله في المهجر، أيْقنّا عندئذ أننا أمّة حيّة، لها ما للأمم الراقية من حق استنشاق الهواء، واستخدام قوى الطبيعة لخيرنا ونجاحنا.
أما الاصطياف والتشتية والسياحة فقد اهتمّ بها في أكثر من مجال، وبخاصة في مطالبة الحكومة بمدّ خط المركبات في أعالي الجبال، بحيث تجعل صلة بين قرى الاصطياف العليا. هذا بالاضافة الى الزراعة، وبخاصة شجر الزيتون، الذي يؤذيه الفرط بالعصا بدل الأيدي، لتتمكن الشجرة من الحمل سنة بعد سنة، كما تكلم عن تطعيم شجر البطم بالفستق الحلبي، وعن تلقيح الاشجار، وتكثير الثمر، وتحسين الجيّد منه، قائلاً: حياة الوطن بحياة أرضه.
• تُكرّم ذكرى الشيخ إبرهيم المنذر في قصر الأونيسكو الساعة السادسة مساء 15 تشرين الأول 2009 في حضور كبار في الشعر والنثر، وحيث يُهدى الى الحضور ما أُعيد إصداره من مؤلفاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق