بـــــــراد
عـــادت الـــى الحيــــاة
بالاشارة الى ما أوردناه في ملحق النشرة تاريخ 23 شباط 2010 عن الدور الذي قام به الرفيق غسان الشامي في الكشف على موقع ضريح القديس مارون في براد شمالي حلب ننشر، عن المجلد الفخم الذي أصدره بعنوان "في ديار ما مارون" المعلومات التالية التي تضيء على موقع براد ومحيطه، وما فيه من اماكن أثرية قيّمة تاريخياً.
يعود معنى اسم براد في اشتقاقه السرياني إلى ساعي البريد، وكان اسمها »كفر براد« ، أما اللفظ فمتداخل بالآرامية ويدلّ على البرودة، وما يشي بذلك موقعها وقربها نهر عفرين واسمه الأصلي باليونانية »أونيو باراس «، أي عين براد أو عين الباردة أو عين مدينة براد، واسم براد منتشر في بلاد الشام منه نهر بردى والبردوني ونهر البارد وعين الباردة ، وترتفع 588 م عن سطح البحر. كانت براد عاصمة جبل سمعان خلال الفترة البيزنطية بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين وذات كثافة سكانية عالية تمتد خرائبها وآثارها حاليا على مساحتها الكاملة) 2 × 2 كم ( ، وقد وجدت كتابة عنها قرب » قصر البنات « على بعد 25 كم من المدينة ترسم حدود منطقة البيزيكيين وتعريبها» بأمر بولس مدير الشرق الجزيل المجد وبواسطة يوحنا محافظ براد الجزيل الشهرة جعل هذا حدّ بلاد البيزيكيين في سنة637 « لأنطاكية التي تقابل السنة 588 - 589 م . تعدّ براد حالياً أكبر مدينة أثرية مخرّبة في جبل سمعان، بدأ ازدهارها في القرنين الثاني والثالث الميلاديين حيث تظهر الأبنية الفخمة العائدة إلى ذلك العهد ومنها النادي )الأندرون ( والسوق التجاري والحمام العمومي والضريح الروماني الفخم ومعاصر الزيت والبيوت من مختلف الأنواع والأحجام. نَمَتْ بشكل كبير بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين فضمّت 3 كنائس ومعبداً ضريحياً لمار مارون وديرين، ويتبدّى هذا النمو العمراني والحضاري والديني في الكنائس والدير والشوارع والبيوت الفخمة، وشكّلت مركزاً زراعياً وصناعياً وتجارياً وسياسياً وإدارياً، واشتهرت بزراعة الزيتون والكرمة والحبوب.
الأبنية المدنية
المدفن الروماني:
بني في القرن الثاني للميلاد ولا يزال سليماً إلى حد كبير رغم تلف وتكسير كتابة على قاعدته وتهشيم تماثيل نافرة على كورنيش قبته. يتألف من قبة هرمية تقوم على أربعة قناطر قوسية على شكل حدوة الفرس، يزاوج نموذج البناء بين الفن الغريكو - روماني الكلاسيكي والفن السوري المحلي، ويظهر ذلك في قوس النصر المربع الأوجه والقبة الهرمية التي تعود
إلى النموذجين الهليني والروماني حيث قام المعماري المحلي بدمجهما وأضاف من بيئته البراويز المحيطة بقاعدة القناطر في أسفلها وأعلاها، وكذلك القناطر على شكل حدوة الفرس التي تعود إلى أصل سوري محض.
الحمّام العمومي:
يقع وسط المدينة لا يزال سليماً أيضاً إلى حد كبير لكنه يحتاج إلى ترميم وتنقيب ونزح الأتربة. قاعاته مسقوفة بالعقد يبلغ طوله 3,50 م ويضم 5 غرف سليمة مقببة تبلغ سماكة جدرانها أحيانا مترين وسقوفها عقد »جملون « وفيها قبب داخلية معقودة ومغلفة من الخارج بحيطان مستقيمة، وبعضها بارز من الخارج، وفيه 3 قاعات واسعة مهدّمة، وتظهر أقنية
الماء في الغرف والقبب . وهو متقن من الداخل بني بأحجار صقيلة مركبة بعناية ودقة في عقوده وقببه.
السرايا:
مجموعة أبنية عامة شيدت خلال العامين 208 – 207 م متناسقة ومتلاحمة تحتوي على كتابات يونانية ، منها اثنتان بعد انتشار المسيحية تعريبهما »إله واحد ومسيحه الذي يمنح العون « تعلوها زهرتان تحيطان بقرصٍ فيه صليب. والثانية
» هذه العتبة وضعت أيام الأسقف « . . .
الأبنية المسيحية
كنيسة جوليانوس » الكاتدرائية « : بازيليكية الطراز. أطلق عليها الآثاريون صفة »الكاتدرائية « وهي أكبر الكنائس في سورية الشمالية بعد كنيسة مار سمعان العمودي. كانت معبداً وثنياً وبدأ تشييدها في خواتيم القرن الرابع الميلادي. تتجه الكاتدرائية نحو الشرق وبقيت أكثر من قرن ونصف القرن الكنيسة الوحيدة في المدينة باتت الآن مهدمة وبداخلها الأنقاض والأحجار وعلى أطرافها، وبقي قائماً منها حالياً جدران الواجهة الغربية من دون أجزائها العليا، وركائز الحنية .
ترتفع جدران القسم الشرقي من الكاتدرائية إلى علو مترين، كما بقيت أسس وأبواب الحائطين الجنوبي والشمالي وقنطرة واقعة بين السوق الشمالية ومعبد مار مارون الضريحي الملاصق حيث بقيت فيه الحنية المقصّبة من أحجار تعود إلى الفترة الرومانية والناووس الذي دفن فيه مارون الناسك .
يبلغ طولها 42 م وعرضها 22,50 م. لها حنية نصف دائرية فيها 3 نوافذ مقوّسة الأعتاب، وتتضمن قدس الأقداس تحاذيه داران مربعتان، واحدة إلى الشمال هي دار الشمامسة والثانية إلى الجنوب هي دار الشهداء، ويوجد باب بين كل من الدارين المحاذيتين للحنية والسوق المقابلة ولا يوجد باب بين الحنية وأي من الدارين. قال عنها باتلر» الكنيسة الكبرى في براد أدعوها كاتدرائية لأنها أكبر كنيسة في القسم الجبلي من شمال سورية باستثناء كنيسة سمعان في قلعة سمعان . «
وصف باتلر الكنيسة بالتفصيل، واتفق تشالنكو معه في الوصف وهو يعيد تاريخ بنائها إلى 399 - 402 م ويؤكد أن المعبد الملاصق لها بني ليكون مدفناً لكاهن مكرّم، وأن الناووس الموجود فيه هو لهذه الغاية. كما سمّاها تشالنكو بكنيسة المهندس جوليانوس. وقد وجدت في السوق الوسطى منها بين الركام قرب الباب الغربي كتابة يونانية على عتبة مزخرفة تعريبها
» لخلاص . . عام 450 في شهر بانموس. أيها الرب أعِن. المجد للآب والابن والروح القدس آمين .«
يبعد المذبح عن حائط الحنية 1,85 م، مائدته حجرية تقوم على 5 أعمدة صغيرة، أربعة منها في الزوايا وواحد في الوسط، ولا تزال بلاطة المذبح موجودة في الحنية وتظهر فيها الثقوب الخمسة المخصصة لقوائم مائدته.
ينقسم صحن الكنيسة إلى 3 أسواق، حسب النموذج البازليكي، يفصل بينها صفّان من القناطر يتألف كل واحد منهما من 9 قناطر، عرض كل واحدة منها 4 أمتار، فوق 8 أعمدة. وتنتهي السوق الوسطى ببيت الأقداس، ويوجد في حائط السوق الوسطى 18 نافذة من كل جهة، ويتوسط السوق )بيما( مبنية من أصل البناء بطول 8 أمتار، تتموضع قبالة القنطرتين
الخامسة والسادسة انطلاقاً من جهة الشرق مكان الحنية، وطرف البيما الغربي نصف دائري. ولها 3 أبواب من جهة الجنوب. يتقدم كل باب رواق صغير مربع، كما إن لها 3 مداخل من جهة الغرب، وفي الواجهة الغربية فوق المدخل الأوسط مشرقية مثلثة القناطر ولها درابزون.
كنيسة جوليانوس- مخطط الواجهة
مخطط كنيسة جوليانوس وتوابعها المعبد الضريحي- مدفن مار مارون 32 في دِيَـر مَـر مَـرون وللكنيسة بابان من جهة الشمال يتقدمهما رواقان مربعان. وبين السوق الشمالية والمعبد قنطرة مرتفعة.
أما البيما فقد اكتشفها جان لاسوس وتشالنكو وهي من أصل البناء بطول ثمانية أمتار، تتوسط السوق الوسطى قبالة القنطرتين الخامسة والسادسة انطلاقاً من جهة الحنية، وهي على شكل نصف دائرة. تبرّع سكان براد المسيحيين لتشييد الكاتدرائية، ما يدلّ على دخول المسيحية إليها قبل وقت من العام 399 م، وفيها 13 كتابة يونانية، 9منها فوق أقفال القناطر وواحدة في رواق الواجهة الغربية وواحدة في فسيفساء أرضية المعبد الملحق حيث دفن مار مار مارون تذكر فيها أسماء المتبرعين، وحُفر اسم المهندسين جوليانوس ودانيال في الكتابات » حفر هذه الكتابة المهندس جوليانوس وأخوه دانيال ) 447 لأنطاكية أي 399 م ( . . المهندس وفاء لنذر عملوا « . وهناك كتابة فوق القنطرة بين السوق الشمالية والمعبد الملاصق لها. كان في الكنيسة رواق من 9 قناطر على 8 أعمدة أمام الواجهة الغربية، أما أمام الواجهة الجنوبية فكان يوجد رواق عرضه 14 متراً، له من الجهة الجنوبية 19 قنطرة على 20عموداً . وكان يوجد من الجهة الغربية 6 قناطر على 5 أعمدة، كما بُنيت عدة غرف شرق الكاتدرائية، ويحيط بالرواق الجنوبي والباحة الشرقية للكاتدرائية وغرفها سور ضخم له مدخلان من الجهة الجنوبية.
زخرفتها: يتميز المدخل الأوسط للكاتدرائية بزخرفة ملفتة حيث تبرز البراويز من الخطوط النافرة المستقيمة التي تزيّن
عتبته وأطرافه. وهناك إفريز نافر يقوم على كرسيين فوق العتبة وعقد مسطح فوق عتبة مدخل الكنيسة الذي تعدُّ زخرفته من بدايات الفن المسيحي الذي حاكى تقليد الهياكل الكلاسيكية الغريكو- رومانية. ويقع عقد مسطح فوق عتبته لتخفيف الضغط عنها، وهذه خاصية وحلٌّ معماري ذكي وعملاني.
أما قواعد الأعمدة في قناطر أسواق الكنيسة فهي كلاسيكية ونحتت التيجان بشكل مبتكر حيث يأخذ قسمها الأعلى شكل سلّة ذات خطوط عمودية، وعلى قسمها الأسفل أوراق عمودية، وتظهر سلسلة من بيض مع أسهم على رؤوس الركائز المتصدرة الحنية وفي أعمدة مشرقية الواجهة الغربية.
المَعْبَدْ الضَرِيحي الملحق: بعد حوالي ثماني سنوات على بناء كنيسة جوليانوس قام أهالي براد ببناء معبد ضريحي على شكل كنيسة صغيرة وأضيف إلى الكاتدرائية، شمال دار الشمامسة، وضعوا فيه جثمان مار مارون. ومن المؤكد معمارياً وهندسياً أن المعبد بني بعد تشييد الكاتدرائية. والمدفن الضريحي كنيسة صغيرة مربعة وحيدة السوق ذات حنية بنيت
من حجارة هيكل وثني يبلغ قطر كل حجر 1,10 م. تحاذي الحنية أيضا داران كما جرت العادة في الكنائس.
تنفتح السوق الشمالية على غرفة مستطيلة فيها ناووس حجري وتضم الغرفة الجنوبية الملاصقة لحنية المعبد صندوقاً للذخائر، وللمعبد بابان واحد لجهة الغرب والآخر للشمال ينفتحان على الشارع. أما القنطرة بين السوق الشمالية والمعبد فواسعة مستديرة كان عليها كتابة يونانية تقول »صنع على نفقتهم «وأرضيته مزينة بفسيفساء كان عليها كتابة يونانية وإلى شماله ناووس حجري دفن فيه مار مارون .
وصف باتلر المعبد/المدفن قائلاً «المعبد الصغير المفتوح على الكنيسة من الجهة الشمالية مثير للاهتمام، فالمدخل بينه وبين السوق الشمالية قنطرة واسعة وجميلة ولا تزال سليمة تماماً، والمعبد ذاته كنيسة مصغرة، له حنية بإزائها الغرفتان المعهودتان )ذخائر الشهداء والأواني الكنسية. ( مدخل الواحدة قنطرة والأخرى باب، ويغلّف الكل حائط مستقيم من الجهة الشرقية، وهذا القسم من المعبد لا يزال سليماً بكامله بما في ذلك القبة. بقيّة حيطان المعبد متهدمة بأكثريتها . . ويبدو أن المعبد أضيف بعد أن اكتملت الكنيسة الكبيرة .
وتابع “ أضيف المعبد على ما يبدو في القرن الخامس ولم يكن بكل تأكيد للمعمودية، لكن يجوز أنه كان معبداً تذكارياً، وربما معبداً مدفنياً، إذ وجد فيه صندوق حجري مكسور )ناووس( .
بني المعبد ليضم جسد كاهن أو ناسكٍ أو قديس لأنهم كانوا يضعون جثامينهم في نواويس حجرية، ولا يدفنوهم مباشرة في الأرض، وقد اعتاد الأهالي وسكان المنطقة تكريم جثمان مار مارون كما يقول تيودوريطس بمهرجان شعبي.
الكنيسة الشمالية:
تقع قرب كاتدرائية جوليانوس وتعود إلى القرن السادس الميلادي، وهي وحيدة السوق، وتعدّ من أكبر الكنائس من هذا النوع حيث يبلغ طولها 14,80 م وعرضها 7,80 م. بيت الأقداس مربع تحيط به غرفتان مربعتان تنفتحان بباب على السوق المقابلة لها، ولا تربطهما أبواب ببيت الأقداس.
يتقدم الواجهة الجنوبية للكنيسة رواق قائم فوق أعمدة له 6 قناطر ولها بابان واحد من جهة الغرب والآخر من جهة الشمال أمام كل منهما رواق بعمودين ولها بابان من الجنوب، وفي حيطانها الخارجية نوافذ مرتفعة.
يحيط إفريز نافر بأعلى البناء، وإطارات النوافذ مزينة ببراويز حلزونية متواصلة بين الفتحات، يتوسطها فوق عتبة الباب الغربي من الحائط الجنوبي قرص كبير داخله صليب، فيما يلتف البرواز المحيط بالنافذة الغربية على نفسه عند الزوايا الأربع بشكل يشبه عقدة الحبل. وبقية زخارف الكنيسة محفورة.
الكنيسة الجنوبية الغربية:
بازيليكية الطراز، بنيت عام 561 م، أكثر زخرفة من كاتدرائية جوليانوس وأقل اتساعاً ولا تزال حالتها مقبولة حيث بقيت جدران الحنية والداران المحاذيتان لها والحائط الجنوبي وثلثا قناطرها الداخلية والجدران التي تعلوها. يبلغ طولها 25 م وعرضها 15,50 م، وتنقسم إلى 3 أقسام من دون أعمدة تفصل بينها بل ركائز ضخمة وعدد قناطرها في كل صف 3، ترتكز على ركيزتين ضخمتين حجريتين. وزينت ركائز القناطر عند قواعدها ومن مكان ارتفاع العقد ببراويز نافرة .
بيت الأقداس مقابل السوق الوسطى وهو ذو حنية ينخفض قوسها الأمامي ويعلوها حائط بثلاث نوافذ. وبإزاء الحنية غرفتان بطابقين، وتنفتح كل من داري قدس الأقداس بباب على السوق المقابلة لها، ويوجد باب يربط دار الشمامسة والحنية، فيما دار الشهداء من جهة الجنوب ترتبط بباب مع الشارع .
الدير الشمالي:
يعود إلى القرن السادس كان يقع قرب المدفن الروماني والحمام وقد زال نهائياً .
الدير الجنوبي )قصر براد : (
يعدُّ هندسياً من أجمل الأديار في سورية الشمالية ويعود إلى القرن السادس أيضاً. يقع على تلة في الجنوب الغربي من براد، متوسط الحجم ومدخله الرئيسي من الطرف الجنوبي الشرقي، له باب مزدوج، وهناك بناء سليم 7,70 م 6,70 × م كان مسكنا للرهبان وأمامه رواق .
كنيسة الدير:
هي مصلى رهباني بسوق واحدة لا تزال سليمة بالكامل ويبلغ طولها 5،88 م 8,40 × م. لها بابان واحد من جهة الجنوب يتقدمه رواق بعمودين ومقدمة الرواق متوَّجة في أعلاها بمثلث رسم عليه الجهاز الخشبي الذي يمد على السطح القرميدي. ولها باب من جهة الغرب، ولا تزال صفوف من الأعمدة والجدران التي كانت تشكل الرواق الذي ترتكز عليه بعض الغرف موجودة، وفي طرفها الشرقي غرفة واحدة وفي طرفها الجنوبي ناووس حجري كبير.
عمود الناسك: هناك عمود لناسك في جنوب غرب مساكن الرهبان تناثرت أجزاء منه في المكان، يوجد قربه مدفن جماعي
5,60 م 3,60 × م .كما توجد غرف للرهبان قرب الدير الذي سلم بأغلبه فيما تضررت الغرف. ومعاصر وأحواض للزيت وأحجار رحى ضخمة .
البرج: يضم الدير برجا يبلغ ارتفاعه 10 أمتار يعود للقرن السادس، كان الرهبان يرصدون منه الحقول ويدعون إلى مواقيت الصلاة .
***
توقف باتلر كثيرا عند الهندسة والزخرف في كنائس سورية الشمالية محاولاً استكناه هذا الجمال الذي يحمل بين طيّاته الطابع المحلي فقال: يمكن القول إن نهضة في الفن والهندسة أحدثها هؤلاء المهندسون السوريون في القرنين الخامس والسادس، مظهرين درجة بارزة من الاستقلال تجاه أي تأثير من عاصمة السلطة البيزنطية، هذا الطراز المستقل والناشئ نما وتطور حتى انكسر فجأة في أوائل القرن السابع .
ويتابع عن هوية الهندسة والفن المعماري في المنطقة ذاتها قائلاً :مع فاتحة القرن الرابع ظهرت في هندسة سورية الشمالية عناصر جديدة ليست يونانية ولا رومانية إذا حكمنا عليها على ضوء القواعد السائدة في المراكز السياسية في الشرق والغرب. هذه العناصر الغريبة والبارزة لا تشي بانحطاط بل على العكس تفتح طفرة جديدة زاهية ازدهرت طيلة ثلاثة قرون كطراز جديد. هذه العناصر الغريبة على ما يبدو مظهر لتأثير شرقي يتبدّى أيضا في الكتابات السريانية الممتزجة في هذه المنطقة بالكتابات اليونانية. ومن دون ريب فإن شعب هذه البلاد معظمه من الآراميين، فالفن المحلي الذي لم يترك له المجال للظهور خلال النفوذ اليوناني والروماني والذي طغى عليه لبرهة التيار الكلاسيكي في الفن، أثبت حضوره حالما بدأ الفن الكلاسيكي بالتضاؤل وعندما بدأ عنفوان العنصر المحلي يتملك المشاعر في حقول أخرى أيضا. هذا التأكيد للوطنية الآرامية الذي عززه بدون ريب وصول الكنيسة فجأة إلى سدّة السلطة حال دون انحطاط الهندسة في سورية الشمالية . . . والهندسة الكلاسيكية التي لقحها بحياة جديدة وصهرها في قوالب جديدة شعب بثَّ فيه العنفوان الوطني إلهاماً جديداً، تجدد شبابها في الهندسة المسيحية التي شملت الجبال شرق أنطاكية .
تبدو براد عاصمة محلّية بالمعنى الحقيقي للكلمة جراء انتشار الأبنية العامة والفخمة والحمام والضريح والسوق التجاري والنادي والمعاصر ودقة التنظيم المدني، كما تبدو مجمّعاً دينياً مسيحياً كبيراً، فبالإضافة إلى ضريح مار مارون انتشرت فيها كتابات كثيرة تذكر قديسين آخرين وأخرى مدنية منها كتابة يونانية فوق عتبة باب تعريبها»حظاً سعيداً«، اوربيكوس واندرونيكوس وماركوس أبناء لونجينوس بنوا هذا في السنة 256 )لأنطاكية وتوافق 208 - 207 للميلاد( . انطونيوس وسوباتروس الأخوان عمّرا وهما من سكان كفر نبو، وكاسندروس من رازيثا، وزابينوس من كفر . . . ليكن تذكاراً لسوباتروس الذي وضعالحجر في مكانه ». يلاحظ هنا أيضاً ارتباط كفر نبو ببراد.
وعلى الأبنية التي كانت تشكل السرايا توجد كتابتان من الفترة المسيحية »إله واحد ومسيحه الذي يمنح العون لثيودوتس وبيته « و »هذه العتبة وضعت في أيام الأسقف. . . . » ونقش فوق عتبة مبنى « .
وضعت هذه العتبة في مكانها بإشراف قوزما المهندس وسرجانوس المخلوق من جديد )صار مسيحياً بالعماد( في العام 544 ) لأنطاكية الموافق 496 م(، الدورة الرابعة في شهر لوس في 12 منه. أيها الرب أعِن . . . وأيضا بإشراف رومانس ويوحنا واوسطاثيوس وسرجيوس الذين كتبوا هذا وسمعان المهندس« .
ونقش فوق عتبة بيت قرب الكنيسة الشمالية رسم الصليب وكتابة »هذا ينتصر «، وقرب كاتدرائية جوليانوس نقش على عتبة» كن معافى وقوياً أنت وأسرتك« ، وفوق عتبة أخرى في أقصى جنوب شرق المدينة نقش »يسوع المسيح ابن الله مخلصنا الوحيد .
وعلى مدخل بيت جنوب براد يعود إلى أحد سكانها وكان يدعى يوحنا وله صفة الوكيل وجدت كتابة تشير إلى القديسين والشهداء المسيحيين المكرّمين في براد وتعريبها» أيها الرب المسيح اشمل بحمايتك هذا البيت + ...مار يوحنا . مار ضومط . مار جرجس . مار كريستوفوروس . وأوفيميا وكورس وفيلوثيوس + مع جميع الشهداء ويوحنا وحوشب ابنه وتوما. يا رب احفظ يوحنا الوكيل . «
أما يوحنا المذكور أولاً فهو المعمدان، وضومط استشهد في قورش خلال اضطهاد يوليانوس، ومار جرجس القديس الشهير في سورية والمشرق، والقديسة أوفيميا كانت تكرّم في خلقيدونية والرها ومار كريستوفوروس كان يكرّم في خلقيدونية أولا. فيما يعدّ كورس وفيلوثيوس ويوحنا من القديسين المكرّمين في مصر. أما مار توما الرسول فكان مكرّما في الرها. ويظن أن لهؤلاء الشهداء ذخائر في براد، فيما مجرد تكريمهم فيها دليل على عمق التأثير المسيحي على سكانها.
في براد دفن مار مارون وبات له عيد حيث كان الناس يزورون ضريحه بشكل احتفالي كما يقول تيودوريطس، قبل أن يبدأ تلامذته انطلاقتهم من سورية الشمالية التي كانت تسمى سورية الأولى إلى سورية الثانية أو الطيبة في دير رهبان بيت مارون ويعبرون إلى لبنان وجباله عبر الساحل أو عبر وادي العاصي. وفي جميع الأحوال ما زالت قرى كثيرة تحمل أسماءها السريانية القديمة التي انتقلت إلى لبنان، مع العلم أنه رغم انتقال ماريوحنا مارون إلى لبنان في القرن السابع الميلادي ومعه هامة مار مارون، فإن الموارنة ظلوا ينتخبون بطريركهم في ديرهم الشهير في سورية الثانية حتى القرن العاشر.
الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق