الدكتـور محمـود شـريح :
كيف تعرفتُ على الحزب السوري القومي الاجتماعي
في بحثه القيّم بعنوان " خليل حاوي وانطون سعاده " الذي صدر للكاتب الدكتور محمود شريح عن دار " نلسن " عام 1995، يورد الدكتور محمود شريح في الفصل الاول عن معرفته الاولى بالحزب السوري القومي الاجتماعي.
فيه كما في فصول أخرى من الكتاب، معلومات جيدة تعني كل مهتم بتاريخ العمل الحزبي. ننشر معظم ما جاء في الفصل المذكور.
فجر 01/01/1962 أفقت على هدير مصفّحات، وكانت والدتي سبقتني إلى الشرفة لتستطلع الأمر ثم همست " لندخل "، ولكنّي نظرت الى الطريق العام فإذا بمصفّحات وسيّارات عسكرية تتجه ببطء الى مخيّم برج البراجنة حيث اكبر تجمّع للفلسطينيين في بيروت وضواحيها، فما أن طلع الصباح حتى اعتقل من اهله جمعٌ غفير ينتمون الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، فيما بقيت المصفحات والسيارات العسكرية عند مدخل المخيم الرئيسي والجنود يدققون في هويات الخارجين منه والداخلين إليه. بعد ظهر ذلك اليوم نفسه ذهبتُ مع امي إلى مناحة محمد راغب ( قبلاوي ) وكان تِرباً لوالدي وعلى صلة به منذ ايام مسقطهما قرية ترشيحا في الجليل الاعلى. كانت النسوة تنتحبن بهدوء وحذر، ووري محمد راغب الثرى في جنازة بسيطة شارك فيها عددٌ قليل من صحبه، فالرعب كان مسيطراً على برج البراجنة إثر فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها القوميون على نظام فؤاد شهاب ليلة 31/12/1961، وكان محمد راغب، مسؤول الحزب في برج البراجنة، سهر مع والدي في منزلنا حتى ساعة متأخرة من الليلة نفسها، وكان منتصف ليلة 31/12/1961 سـاعة الصفر لبدء الانقلاب، وليس من دليل على انه كان على علم بالانقلاب. امّا والدي فكان ابداً كتوماً ولا برهان لدي انه كان منتسـباً الى الحزب، ولكن بدا في احيان كثيرة انّه متعاطف مع اعضائه، لا سيّما ممن كانوا من عائلته منخرطين في صفوف الحزب وهم كثر. اعتقل محمد راغب إذن مع غيره من القوميين في برج البراجنة وقضى في اليوم نفسه، إما تحت التعذيب او باغتياله إثر اعتقاله عند دوار الغبيري، كما روى البعض. دُفن دون جَلَبة او ضجّة بأمر من السُلطة.
آنذاك كان في برج البراجنة قومي آخر يحاط بهالة من الاحترام والتقدير لم يعتقل اذ كان وفى قسطه للعلى، هو احمد عكاشة (1) الذي دخل السجن إثر الثورة القومية الاجتماعية الاولى التي اعلنها سعاده في تموز 1949، وصدرَ بحقه حكمٌ قاسٍ ( 15 عاماً، امضى منها ثمانية ثم اخلى سبيله كميل شمعون بعد تحالف الحزب معه ). في رسالة احمد عكاشة (19/04/1993)
من صيدا التي نزح اليها إثر حرب المخيمات أنّه وقَعَ على كُتَيّب صغير بعنوان سعاده والمسألة الفلسطينية في عام 1948، ومع خروجه من فلسطين، فقرأه مع اترابه عثمان وحسني الصالح ومحمد راغب ثم تمّ لقاء بين هؤلاء وعدد من قادة الحزب منهم كميل جدع (2) في منطقة المريجة قرب برج البراجنة، ثم انه اقسم يمين الحزب مع بعض اهل ترشيحا يذكر منهم سعيد دكار وهاني راغب ( قبلاوي ). يرى أحمد عكاشة أنّ وصول جورج عبد المسيح في عام 1936 الى بيرزيت قرب رام الله ليدّرس في كليتها ساهم الى ضم عددٍ لا بأس به الى الحزب، منهم ( الامين ) مصطفى ارشيد ( من جنين ) وكميل جدع ومحمد شلبي ( من حيفا ) ومحمد جميل يونس ( من عكا )(3) شارك عكاشة فعلياً في ثورة تمّوز بصورة عسكرية وكان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره، فاعتقل، فيما اعدم سعاده وستة آخرون، ثلاثة منهم من الجليل: اثنان من حيفا ( محمد شلبي واديب جدع ) وواحدٌ منهم من طبرية ( عباس حمّاد ).
وكان يزور والدي بين حين وآخر صالح سوداح أحد قدامى الحزب ومنفّذيه(4). كتب الي يقول انه لم يلتق بسعاده وإن كان شاهدهُ في شارع باروت في حلب يمشي قبالة فندق " بارون " فيما اصطف على جانبي الشارع شبّان يؤدون التحية للزعيم.
يقول صالح سوداح ( ابو سعاده ) إنّه لم يكن انتمى الى الحزب بعد حين شاهد الزعيم، فأكمل سيره الى مخيّم النيرب الذي لجأ اليه إثر نكبة عام 1948، لكنه يقول في رسالة له من دبي في ( 24/06/1994 ) إنّه كان شاهد في عام 1946 كتاب سعاده " نشوء الامم " معروضاً في واجهة مكتبة عكا "، لكن لم يلمس اي نشاط قومي في مسقطه ترشيحا قبل النكبة، ثم تشاء الصدف ان يصل صالح الى بيروت مساء 07/07/1949 ويعلم من ابناء بلدته انّ سعاده اعلن الثورة وأن بعضهم " متوارون عن الانظار لأنهم اعضاء في الحزب ". في صباح اليوم التالي كان في ساحة البرج في بيروت فسمع باعة الصحف ينادون " اعدام انطون سعاده " فاشترى صحيفة وقرأ فيها أن " سعاده تراخى وضعف وألقى بالتّبعة على الاخرين وانكر رفاقه " ويضيف صالح : " ولدى عودتي الى برج البراجنة حاولت ان اواجه قريباً دافع عن سعاده والحزب بالامس، فاجأني بالتساؤل قبل ان يرى الجريدة التي اتأبّط : اهي التلغراف ؟ ولما اجبت نعم قال لا تصدقها فهي موالية للحكومة وتكذب ! ويوم 09/07/1949 اشتريت " كل شيء " وقرأت فيها مقالاً بقلم محمد بعلبكي وتقريراً مفصلاً عن المحاكمة وكانت مناقضة لما اوردته التلغراف على خط مستقيم، مما جعلني اتأمل الامر مليّاً، وكانت هذه بداية رحلة الالف ميل. و" الانتماء الرسمي الى الحزب " تأخر حتى عام 1950 وتمّ في حلب، وما زلت عضواً عاملاً احضر الاجتماعات والمؤتمرات، وأنا اليوم اعمقُ ايماناً بقدرة العقيدة القومية الاحتماعية على تحقيق نهضة شاملة في بلادنا ". في الرسالة نفسها يذكر سوداح أن اوّل ترشحاني انتمى رسمياً الى الحزب في اواخر الثلاثينيات هو جمال حميد آغا. أمّا انشط اهل بلدة ترشيحا حزبياً إثر النكبة عام 1948 فكان عثمان فؤاد قاسم. ويؤكد سوداح ان عدداً لا بأس به من اهالي ترشيحا كانوا يعتنقون مبادئ الحزب قبل سقوط فلسطين ومنهم كان يترددّ على بيروت لأغراض حزبيّة. فيما يتعلق بحاوي يقول سوداح إنّه لم يلتق به ابداً لكنه اعجب بشعره " ايّما إعجاب " وإن سبب توقف حاوي عن النشاط الحزبي خلافه مع جورج عبد المسيح ( اول رئيس للحزب بعد استشهاد سعاده )، " ولا استغرب ذلك إذ لا بدّ لمن يتعامل مع عبد المسيح ان يتحلى بصبر ايّوب ".
على هذا النحو اذن كانت معرفتي الاولى بالحزب، اي من خلال علاقة والدي بأترابه القوميين، ولكنها كانت معرفة غير معمقة اذ كنت دون سن الرشد، ثم كان ان ارسلني اهلي الى الانترناشونال كولدج فلاحظت انّ عدداً لا بأس به من الطلبة يتحدثون عن سعاده والحزب، وكان نذلك بين عامي 1967 و1971، وحاول صديقي اديب فرحة اقناعي بالانضمام اليه لكن قد سبق السيف العزل اذ انجرفت في بداية العام 1969 الى تيار سياسي آخر، وفي الجامعة الاميركية ( 1971 – 1975 ) لاحظت ان القوميين كانوا على مستوى راقٍ من التنظيم وسعة المعرفة، اذكر منهم الآن يوسف شويري واليسار ابو جودة ونجيب صعب واليسار نبالي وقيصر رزق الله ووسيم جريج ورجا خولي والشهيد نقولا عبد الله سعاده، وعرفت ان عدداً لا يستهان به من الاساتذة في الجامعة نفسها كانوا اعضاء سابقين في الحزب او موالين له، من مثل نفحت نصر وفؤاد حدّاد وايلي سالم والمرحوم طوني كساب وصالح سعيد آغا وحليم بركات ومنير خوري ومنير بشّور والياس سروجي وطريف الخالدي وانطون غطّاس كرم وغيرهم، لكن كان شائعاً بين صفوف الطلبة ان استاذ مادة النقد الادبي في الدائرة العربية الشاعر خليل حاوي هو من قدامى المنفذين في الحزب، وكنت معجباً بشعره واحفظ بعضه عن ظهر قلب. أمّا ما شدّني الى شخصية سعاده وفكره فصديقان هما هشام شرابي في كتابه " الجمر والرماد " عام 1978 ويوسف سلامة في كتابه " حدثني ي . س . قال " عام 1988، فيرى الاول تجربته في الحزب وعلاقته بسعاده باسلوب حميم وذاكرة متقدة، فيما يقص الثاني بنفس شعري وجوّ تأريخي حادثة الجميزة الشهيرة وخروجه مع شرابي وصحبه برفقة الزعيم من مطبعة الحزب قبل احراقها وتوجههم الى منزل سعاده في رأس بيروت ثم لجوء سعاده سراً في الليلة نفسها الى دمشق. ورواية شرابي وسلامة لحادثة الجميزة لا غنى عنها لدارس تاريخ الحزب وآخر يوم لمؤسسه في بيروت، متى استثنينا يوم احضاره قسراً من دمشق إثر انكفاء الثورة القومية الاجتماعية وإعدامه في اقل من 24 ساعة. قرأت " حدثني ي . س. " قال إثر صدوره وكنت آنذاك في فيينّا، فطربت لصراحة واضعه، لا سيّما حين يأتي على سرد قصة زجه في سجن الرمل مع غيره من القوميين باسلوب نقدي ساخر يعيد الى الاذهان فن المقامة وحديث المويلحي في كتابه الذائع الصيت، ووجدت نفسي معجباً بسعاده واتباعه، فعدت الى قراءة " الجمر والرماد "، وعندئذ قلت لا بدّ من قراءة ما كتبه سعاده، فكتبت الى صديقتي رندة انطون، وكانت آنذاك تعدّ اطروحة الدكتوراه في جامعة " يورك "، طالباً منها مدّي بما لديها من كتب سعاده، فبعثت اليّ اولاً بمؤلف مراحل المسألة الفلسطينية، ووجدت ان مضمونه على قسط عالٍ من الدقّة والجرأة في آن، ثم طيّرت الي رندة الصراع الفكري في الادب السوري، وهنا كانت المفاجأة، فمادة الكتاب عامّة هي ما سمعتُه من حاوي وانا اختلف الى محاضراته في النقد الادبي، مع اضافة جديدة الى ذلك تمثّلت في تبني حاوي للفكر النقدي الكانطي والمذهب المعتزلي في آن.
ثم كان لا بدّ لي من قراءة كتاب سعاده في النقد الادبي الذي عقد فصوله كافة في دراسة شعر رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي )، اعني جنون الخلود، وفي هذا الشعر الادبي وقعت على حداثة نقدية رائدة، ناهيك عن سعة علم مؤلفه في الادب المقارن. الكتاب هجومٌ شرسٌ على القروي وقصيده، ولكنّه في آن دراسة نفسية الشعب السوري وانجازاته الحضارية، وفي هذا المؤلَّف بالذات عثرت على روابط الفكر والروح بين حاوي وسعاده. ورث حاوي عن سعاده الكثير من الآراء والافكار، وكان سعاده من قبلُ " استوعب تجربة الادباء والسياسيين والمفكرين السوريّين في اواخر القرن الماضي ومطلع القرن الجاري، وتجاوزهم بدرسه درساً منظماً لمعنى الامّة وعوامل نموِّها، فالزم الاشكال معانيها وأسس القضية القومية لسوريا على العلوم الاجتماعية المتقدمة " ( من تقديم بدر الحاج لكتاب نواف حردان " سعاده في المهجر "، الجزء الاول، البرازيل: عام 1921 – 1930، بيروت دار فكر للابحاث والنشر، صيف عام 1989ن ص 12 ).
ومن المفاصل الاساسية التي يلتقي عندها حاوي وسعاده اهتمامهما بجبران، فأطروحة حاوي في كيمبردج كانت عن موقع جبران الحضاري. اما سعاده، الذي عاصر حبران أكثر من ربع قرن، وقرأ نتاجه، فرأى فيه " الشفق الذي يسبق الانوار الساطعة، انوار النهضة القومية الاجتماعية " ( من تقديم بدر الحاج لمؤلف نواف حردان السابق ذكره ص 15 ). واذا كان حاوي وضع جبران في اطاره الحضاري فإن عدداً لا بأس به من المفكرين وضعوا سعاده في اطاره الحضاري ووجدوا فيه الوريث الشرعي للفكر النهضوي، وفي رأيي انه لم يأت حتّى الآن وبعد حوالي نصف قرن على غيابه من يماثله في عمق الفهم وجرأة الرأي وثبات الموقف. احببتُ سعاده بصورة شخصية لكثرة ما سمعته عنه من هشام شرابي ويوسف سلامة، وآمل أن اكون قد وفقت في تبيان اثر سعاده على حاوي ورواية تجربة الشاعر في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
*
1- من مناضلي الحزب . . مقيم حالياً في اقليم الخروب.
2- من اوائل الرفقاء في حيفا، تولى مسؤوليات حزبية فيها، وفي مركز الحزب بعد انتقاله الى خارج الارض المحتلة، منها منفذ عام ورئيس مكتب عبر الحدود.
3- المعلومات التي اوردها الرفيق عكاشة ليست دقيقة لجهة ان عبد المسيح اثناء تدريسه في بيرزيت ساهم في ضم الرفقاء المذكورين منه الى الحزب.
4- محامِ معروف، تولى مسؤوليات حزبية محلية ومركزية منها عضو المجلس الاعلى، رئيس المحكمة الحزبية، رئيس مجلس العمد، عميداً للداخلية.
الخميس، 30 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق