الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010

طرابلس الشام للرفيق بدر الحاج

طرابلـس الشـام

جولة مصوّرة مع البطاقات البريدية
للرفيق بدر الحاج


صدر عن دار " كتب " مجلد عن " طرابلس الشام – جولة مصورة مع البطاقات البريدية " من اعداد الرفيق الاديب والكاتب بدر الحاج.
المجلد من الحجم الكبير، من 270 صفحة. الورق مصقول. الصور مختلفة الاحجام، مع شرح موجز عن كل منها.

سبق للرفيق بدر الحاج أن اصدر ما يلي:
- الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان، قراءة في مذكرات ايلياهو ساسون وايلياهو ايلات، دار مصباح الفكر، بيروت 1982.
- photographies anciennes de la Mecque et de Medine, 1880-1947, Institut du – Monde Arabe, Paris 2005
- L’Orient des photographes Armeniens,Edition Cercle d’Art, Paris, 2007
- المملكة العربية السعودية: صور من الماضي 1939 – 1861، فوليوز المحدودة، لندن – 1989، الطبعة الانكليزية رادنغ 1997.
- دمشق: صور من الماضي 1918 – 1840، فيولوز المحدودة، لندن 2001، الطبعة الفرنسية – باريس 2001.
- سلسلة الاعمال المجهولة: الدكتور خليل سعاده، رياض نجيب الريس للكتب والنشر – لندن 1989.

المقدمة التي توّج بها الرفيق بدر الحاج مجلده

هي طرابلس – الشام، أول مدينة يقع عليها ناظري من قريتي التي تبعد عنها بالسيارة ما يقارب نصف ساعة، قصدتها لأول مرة برفقة والدي الذي كان يتوجه إليها يومياً للعمل في تجارة الزيتون وصناعة الصابون في متجر سعيد سعيفان الواقع في حي الزاهرية.

كان ذلك في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، حينذاك وعدني الوالد باصطحابي إلى المدينة ومشاهدة فيلم سينمائي شرط أن أحصل على علامات مدرسية جيدة. بالنسبة إلي كان ذلك العرض مجرد حلم ... وتحقق الوعد.
أذكر أنه قبل وصولنا إلى المدخل الجنوبي للمدينة في منطقة البحصاص، تمهّل سائق السيارة التي تقلّنا، وبادر بسؤال سائقي السيارات المتجهة نحو قضاء الكورة: هل هناك أية دوريات لقوات الدرك في المنطقة ؟ والسبب انَّ هذه الدوريات كانت تقوم بتسجيل محاضر بحق أصحاب السيارات العمومية التي كان ركابها يتجاوزون الخمسة أشخاص. هذه الحادثة لا تزال محفورة في ذاكرتي، إذ لأول مرة أرى الخوف من عسكر السلطة في أعين أصحاب السيارات العمومية البسطاء.

كانت طرابلس في عام 1915 على حد تعبير الموظفان العثمانيان محمد بهجت ورفيق تميمي: " أبهى بلدة على ساحل سوريا وإنها معرض فخم للبدائع والمحاسن ". وحتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي كانت بساتين الحمضيات والبرتقال بروائحها الرائعة وأشجار الزيتون القديمة تغطي المساحة ما بين البحصاص وساحة عبد الحميد كرامي. فقط بعض المباني المتفرقة التي لا تتجاوز عددها أصابع اليد كانت تنتشر في تلك المساحة.

ولا تزال مطبوعة في ذاكرتي مشاهد رأيتها للمرة الأولى. فمن جو القرية الهائ الى الصخب والتزاحم في ساحة التل حيث العديد من السيارات والطنابر التي تجرها البغال أو الاحصنة ناقلة الركاب، بعضهم من النساء المتشحات بالازار الاسود، إلى الحمالين وباعة عصير البرتقال والعرقسوس ينادون على الزبائن، الى ماسحي الأحذية المنتشرين بالقرب من مقهى فهيم حيث لاعبو طاولة النرد يدخنون النراجيل، الى المصور الذي يقف في ساحة السرايا القديمة التي ازيلت الآن وأمامه آلة التصوير المستندة إلى قوائم خشبية مرتفعة، يعلوها صندوق خشبي مغطى بقماش أسود مع فتحة العدسة منتظراً الزبائن القادمين لإنجاز المعاملات الرسمية في السراي لإلتقاط صورهم، وكان معظمهم من الأرياف الشمالية.

طرابلس تلك تبدلت اليوم. خسر الطرابلسيون الكثير من المباني التراثية الجميلة والحقول الخضراء. ففي ساحة التل مثلاً هدمت السرايا العثمانية والقشلة ومسرح الانجا، وغاب المصورون الأرمن عنها. غابات المباني الإسمنتية إكتسحت تدريجياً الحدائق والبساتين. ومثل غالبية مدننا تعرضت للتشويه والتدمير التدريجي الزاحف لاغياً المساحات الخضراء. فالتخطيط العمراني العلمي غير موجود إلا على الورق، ولا قوانين تحمي البيئة والتجمع البشري. المال وأصحاب السلطة أقوى من كل القوانين والنظم في بلاد، القاسم المشترك ما بين متحداتها حتى الآن الجهل والتعصب المذهبي.

وازداد الوضع سوءاً بعد الفورة النفطية العربية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ولعب الرأسمال المتوحش القادم من بلاد الزيت الأسود دوراً رئيسياً في شراء السلطة واستعمالها للإنقضاض على ما تبقى من مبانٍ تراثية وآثار، ووصل بهم الأمر حتى الى تدمير الآثار المطمورة تحت الأرض بهدف تشييد المباني الجديدة ومضاعفة الثروة.

لا مجال هنا للاستفاضة في هذه المسألة التي تعانيها كل مدننا ومن بينها طرابلس. لكني أعتقد بأن أفضل توصيف لما كان ينتظر طرابلس من تبدل رئيسي في حياتها العمرانية هو ما جاء في تقرير اعدته سنة 1953 بعثة الأونيسكو برئاسة بول كولارت، والذي تضمن إقتراحات تفصيلية لتحسين المدينة والمحافظة على مواقعها الأثرية ... لكنها بقيت حبراً على ورق. إختتم كولارت تقريره بالنداء الآتي:
" إتخذنا وجهة نظر التي تقول أن مدينة طرابلس القديمة هي عمل فني، إذا ما خضعت للقليل من الترميم وإعادة التخطيط يمكنها أن تستعيد جماليتها الماضية وتحتل مكانها المناسب في المحيط المشرف للضواحي الجديدة. ونحن نأمل في أن السلطات المحلية والحكومة، بعد دراستهما لنتائج أبحاثنا، ستوافقان على رأينا هذا، وبالتالي تنجحان في تجاوز أية عراقيل عملية قد تنجم عن المصالح الخصوصية، وسيأتي يوم تتوافر فيه الفرصة والقناعة لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة ".

للأسف بقيت مقترحات وتمنيات بعثة الأونيسكو حبراً على ورق، وما كان بالامكان انجازه بقليل من الجهد في مطلع الخمسينات من القرن الماضي أصبح الآن صعباً للغاية ومكلفاً نظراً إلى التبدل الجذري الذي شهدته المدينة وإنتشار العمران العشوائي فيها في النصف الثاني من القرن العشرين.

جاءت فكرة هذا الكتاب لاستعادة مشاهد مصورة لطرابلس عبر البطاقات البريدية في عام 1986، عندما أصدر الصديق الراحل فؤاد دباس كتابه " بيروت ذاكرتنا ". إقترح عليَّ فؤاد بأن أبدأ العمل لإعداد كتاب مشابه عن طرابلس، وذلك كوني من منطقة شمال لبنان وأعرف إلى حد ما المدينة. وبالفعل باشرنا سوية العمل على إحصاء البطاقات البريدية المتعلقة بطرابلس والتي تضمنها مجموعته ومجموعتي المصورتان. لكن لم يكن العدد يتجاوز السبعين بطاقة على ما أذكر، بعضها مشاهد متكررة. وعلى الرغم من ذلك عملت على تحديد مواقع بعض الاحياء والشوارع والابنية، على أمل أن نواصل معاً العمل على استقصاء أماكن تواجد المزيد من البطاقات عند التجار وفي المزادات المختصة.

وإلى جانب البحث عن المزيد من البطاقات الطرابلسية، قمت بجمع معلومات وملاحظات عن طرابلس مستقاة بمعظمها من كتبٍ تاريخية ونصوصٍ لبعض الرحالة الأوروبيين.

توقفت عن العمل في هذا الكتاب بعد وفاة فؤاد المفاجئة في بيروت سنة 2001. وبرحيله، توقف مصدر إمدادي بالبطاقات البريدية التي كان فؤاد يقتنيها من السوق الفرنسية. ومن ناحية اخرى إنهمكت في العمل اليومي الذي إستهلك معظم الوقت. لكن مع ذلك كنت اقوم في اوقات الفراغ المتاحة لي بالاعداد لتحقيق ونشر مخطوطة كلوديوس غالن ويلهاوس ( Claudius Galen Wheelhouse ) عن رحلته عبر البحر المتوسط والتقاطه أولى الصور الفوتوغرافية لمصر وسورية خلال 1850 – 1849 .

عمدت الى نفض الغبار عن هذا المشـروع بعد ان اقتنيت تدريجياً المزيد من البطاقات الطرابلسـية، كما اسـتعنت بعدد من البطاقات تكرّم الصديق سامي طوبيا ( بيت شـباب، جبل لبنان ) بتأمينها لي من مجموعته الخاصة. لكن رغم ذلك فإن البطاقات البريدية عن مدينة طرابلـس قليلـة من حيث الكميـة اذا ما قورنت بمثيلاتها التي صدرت عن بيروت أو دمشـق أو القدس.

وأعتقد أن ذلك يعود إلى كون طرابلس مدينة نائية بالنسبة الى السيّاح ورجال الاعمال الغربيين الذين كانوا يقصدون سورية. فمن كان يقصد طرابلس في مطلع القرن العشرين كان عليه أن يستقل الباخرة من بيروت، أو أن يسلك الدرب البري الطويل بواسطة عربات الديليجانس التي تجرها الخيول أو البغال. فالطريق ما بين بيروت وطرابلس لم ينجز قبل سنة 1910. وواقع الأمر أنّ طرابلس لم تكن مقصداً رئيسياً للسياح إنما كانت معبراًَ للوصول إلى الأرز أو العودة منه، وهو كان هدفاً للعديد من الرحالة والسيّاح والفنانين الغربيين خلال القرن التاسع عشر بشكل خاص. وكانت قلعة طرابلس فقط هي الموقع الوحيد الذي أثار إهتمام السيّاح والرحالة، نظراً إلى علاقة هذا الموقع بالمرحلة الصليبية في سورية.

للأسف لم استطع من خلال البطاقات المنشورة في هذا الكتاب توثيق جميع المواقع الرئيسية التراثية في المدينة، وذلك إما لأنّ عدسة المصور لم تلتقط صوراً لتلك المواقع أو لأنني لم أعثر على المزيد من البطاقات. لكن على أية حال فإنّ ما نشر يعكس إلى حد كبير بعض الجوانب من الحياة العمرانية والإجتماعية الطرابلسية كما كانت عليه في النصف الاول من القرن العشرين.

إنّ جميع البطاقات المنشورة هنا قد تمّ إقتناؤها من معارض أو دور المزادات الأوروبية. وهي ظلت محفوظة في الخارج رغم مرور كل هذه السنوات، في حين أنه من الصعوبة بمكان – للأسف – العثور على بطاقات بريدية قديمة أو صور شمسية في بلادنا. فالإهمال والجهل والنزعات الأهلية والتغييرات السياسية العنيفة أدت الى إغلاق معظم الاستديوهات التي أنتجت هذه البطاقات وإتلاف ما فيها من أرشيف مصور سواء كان على الورق أو الزجاج.

أيضاً أود أن اشير إلى أنّ هذا الكتاب ليس بحثاً تاريخياً عن طرابلس، فهذا الموضوع جرى التطرق إليه والاستفاضة فيه من قبل العديد من المؤرخين. لكن ما قمت به هو مجرد عرض مصور بواسطة البطاقات القديمة لمواقع شهدت تغييراً جذرياً، وبعضها زال كلياً من الوجود. كما أود التأكيد على أنني لم أعتمد على الصور الفوتوغرفية في هذا الكتاب رغم توفرها لأن لهذا الموضوع بحثاً آخر مختلفاً آمل أن تسعفني الظروف في المستقبل لإنجازه.

إعتمدت في تقسيم هذا الكتاب إلى مناطق ومواقع سواء في طرابلس أو الميناء إستناداً إلى ما توفر لي من بطاقات. وعلى سبيل المثال، أفردت لكلّ من القلعة وساحة التل والميناء ومجرى نهر أبو علي وطرق المواصلات والمنتزهات وغيرها قسماً خاصاً، وقدمت لكل قسم باختصار شديد بعض من المعلومات التاريخية المتعلقة به.

وقبيل إنجاز هذا النص بصيغته النهائية، إنهمك السيّد وّضاح جمعة بالمساهمة معي في تحديد دقيق للمواقع المصورة في هذه البطاقات، وذلك من خلال لقاءاته بالعديد من ابناء طرابلس والميناء الذين يتذكرون معالم المدينة كما كانت عليه. وبفضله وبفضل الطرابلسيين المجهولين جاءت المعلومات أكثر دقة.

إن تواريخ البطاقات المنشـورة في هذا الكتاب هي تقريبية، فقد اعتمدت في تحديدها إما على الفترة التي نشط فيهـا المصوّر، أو على أسلوب الطباعة التي تميّزت به مرحلة زمنية محدودة. فعلى سبيل المثال إن البطاقات التي اصدرها ميشال دافيد ظهرت في العقدين الاولين من القرن العشرين، في حين أن الأخوة صرافيان باشروا بإصدار البطاقات البريدية في العقد الاول من القرن العشرين، وظهرت البطاقات المشتركة بينهم وبين استديو وليم صبحية في طرابلس في العقد الثاني من القرن الماضي. أما فوتوسبور فقد بدأ بإصدار البطاقات التي تميزت بطباعتها الفائقة الجودة في عقد الثلاثينات.
وعلى الرغم من ذلك، فمن المحتمل أن تكون قد وقعت بعض الاخطاء في تقدير التواريخ، لذلك اقتضى التنويه.
تمَّ إعداد هذا الكتاب في فترة كانت طرابلس تنزف الدم وتدمَّر فيها المنازل والمخازن وترتفع أسوار الحقد بين ابنائها نتيجة التعصب والجهل والفكر الظلامي المذهبي واستغلال حالة الفقر المدقع لمواطنين سدت في وجوههم سبل الحياة الكريمة.

إنّ مقارنة سريعة بين جريمة نحر الذات والاقتتال العبثي وبين إنتفاضة أهل المدينة في كانون الاول 1923 ضد مشاريع سلخها عن سورية من قبل روبير دوكاي نائب المندوب السامي الفرنسي غورو، والتي تمت مواجهتها بالقوة، أو بين ما جرى في حزيران 1926 عندما عمد الفرنسيون من بوارجهم الحربية الى قصف المدينة والقرى المحيطة بها، واعتقال القادة الوطنيين المطالبين بالوحدة السورية، تظهر لنا بوضوح كيف إنحدر وضع المدينة إلى الحضيض حيث ضاعت بوصلة الكفاح التي كانت تاريخياً بمثابة الرئة الاقتصادية والمرفأ الطبيعي لحمص وحماه والداخل السوري.

إن المفاعيل السلبية لسياسة السلخ هذه ضربت تطور المدينة الاقتصادية في الصميم، يضاف الى ذلك الاهمال المتعمد من قبل التحالف المذهبي الحاكم في بيروت طيلة عهود ما يسمى بالاستقلال (!) والذي هو في واقع الامر الاستقلال عن سورية فقط، تماماً كما حدده غورو في خطابه يوم 22 ايلول 1920 على درج قصر الصنوبر في بيروت معلناً استقلال لبنان الكبير بعد خمسة أسابيع فقط على إنجازه مجزرة ميسلون. تفاخر غورو بالاستقلال عن سورية الذي دفع ثمنه دماً، على حد تعبيره، الجنود الفرنسيون ( معظمهم من السنغاليين الفقراء ).

أخيراً آمل أن يكون هذا الكتاب قد أسهم في توثيق مرئي ولو جزئي وغير متكامل لمدينة تميزت كسائر مدن الساحل السوري بالانماط المعمارية الجميلة. فعلى رغم التبدل الجذري الذي تعرضت له، فإن هذه الصور تشهد على واقع وأماكن أصبحت مجرد ذكريات حفظتها لنا عدسات المصورين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق