سـعيـد تقـي الـدين
فـي الحزب السـوري القـومي الاجتمـاعي
القسم الرابع والأخير مما اخترناه عن الرفيق الاديب سعيد تقي الدين من كتاب الاديبة ادفيك جريديني شيبوب.
بعد عودة سعيد الى لبنان، ورغم انتخابه رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة، وانهماكه في بناء النادي وتحرير مجلة
" الكلية "، يبدو انه ظل يحس بشيء من القلق وعدم الاكتفاء، وبضرورة تركيز جهوده الفردية في هيئة او منظمة قوية. ويقول سعيد عن الفترة التي سبقت انضمامه الى الحزب:
" لقد انفقت بعد عودتي من المهجر، ما يقرب من سنوات اربع ادرس الناس " . . وأنه استعرض المنظمات والاحزاب، من عروبية ولبنانية واشتراكية، حتى اهتدى الى العقيدة القومية الاجتماعية.
وعن ظروف تعرفه الى الحزب، يروي لنا سعيد انه كان في عام 1949، قد باشر وضع مسرحية " المليون الضائع "، وانها ظلت بين يديه نحو سنتين، يقرأها فيحس انها " تعرض مشكلة ولا تحلها " . . الى ان جاءته رسالة من سجين(1) هو من اعضاء الحزب يقول له فيها: قرأت مقدمة كتابك " غابة الكافور "، وفيها تقول: " ان اكبر همي في الحياة ان اقنع امي اني لم اعد طفلاً. وزاد السجين معلقاً: " ليس من الصعب على المرء ان يقنع امه انه لم يعد طفلاً، بل الصعوبة العظمى هي ان يقنع امته انه صار رجلاً " (2).
ويقول سعيد: ان هذه الرسالة اوحت اليه بتغيير موضوع المسرحية " المليون الضائع " الى " المنبوذ " . . . " وكان ان استحالت حياتي من جهود فردية مبعثرة الى نظامية نشاط في مؤسسة ".
والذي نعرفه، ان سعيداً، بعد عودته الى لبنان، كان ينشر في الصحف اقاصيص ومقالات و " رفات جناح ". وكذلك كان يدعى الى إلقاء خطب في مناسبات مدرسية او سواها، وكان يتطرق، في معظمها، الى معالجة الافات التي تفتك بالمجتمع اللبناني من اقطاعية وطائفية وفردية، وجبن وميوعة واتكالية، وهي المواضيع ذاتها التي عني بها في مسرحياته واقاصيصه السابقة. ويبدو ان مقالاته وخطبه، حتى وكتبه، لفتت اهتمام بعض المسؤولين في الحزب. من ذلك ما يخبرنا به سعيد، من ان عبد الله قبرصي اتصل به وأطلعه على مبادىء الحزب، وان هذه المبادئ لاقت تجاوباً حاراً في نفسه، فمضى يدرسها ويدرس استعداداته الخاصة بشأنها.
قبل ان ينتظم سعيد في الحزب، يخبرنا انه اراد ان يتثبت من امور ثلاثة: " اولها ان الحزب لا يحاول هدم لبنان "، والامر الثاني " ان لا يكون العنف من بعض اساليبكم "، وثالثاً، " ان لا اؤمر بكتابة شيء، او بالكف عن كتابة شيء ".
ولدى اطمئنانه الى اجوبة عبد الله قبرصي، يخبرنا سعيد بانه اعلن انتظامه في الحزب ببيان وزعته جريدة " الاحد " على الصحف، احدث ضجة كبرى في الاوساط اللبنانية: السياسية والاجتماعية، وتصدى له الكثيرون، منددين بالدوافع التي حدت به الى اتخاذ الخطوة. لكن سعيد قابلهم برباطة جأش، مؤكداً انه اصبح من الحزب في نقطة اللارجوع، وكان الشاهد على قسمه حسن الطويل.
حصل تحويل جذري في كتابات سعيد تقي الدين، بعد دخوله الحزب، ويلاحظ ان انتاجه تطعم بالعقيدة القومية الاجتماعية، وتناول في معظمه الدفاع عن مبادئ الحزب وايضاح فضائله والرد على التهم التي الصقت به، وهي مجموعة ضخمة من المقالات، معظمها نشر في : " الاحد "، " صدى لبنان "، " النهار "، " وكل شيء "(5) .
ويلاحظ ان سعيداً، بعد انتظامه في الحزب، ظل يعمل ويناضل على جبهات عدة، حتى اذا تنحى عن رئاسة جمعية المتخرجين، وما رافقها من نشاط، سواء نحو انجاز بناء النادي، او نحو تحرير " الكلية "، تحوّل بكامل زخمه الى النشاط الحزبي، فعين عام 1953 منفذاً لفرع بيروت، ثم عميداً للاذاعة. ويخبرنا بعض أمناء الحزب الذين رافقوه في تلك الحقبة، انه بحكم نفوذه ومسؤولياته الحزبية الاعلامية، فضلاً عن طبيعته المندفعة، اعطى انتاجاً غزيراً متواصلاً، ولا سيما بعد مقتل عدنان المالكي عام 1955، ومحاولة تصفية الحزب في دمشق، وتزايد الضغط عليه، وانه لم يتوقف عن الكتابة والرد على التهم الموجهة اليه والى الحزب، وشرح الملابسات ودعم آرائه بالحجج. وكان ينسق انتاجه بنفسه ويعيده للطبع، فصدر له بين عامي 1953 و1956 ستة كتب، وهي حسب تسلسل صدورها:
1- " المنبوذ "، عام 1953 – مسرحية في فصل واحد.
2- " ربيع الخريف "، عام 1954 – مجموعة اقاصيص و" رفات جناح ".
3- " سيداتي سادتي "، عام 1955 – مجموعة خطب القيت بين عامي 1948 – 1954 .
4- " تبلغوا وبلغوا "، عام 1955 – مقالات عن الحزب السوري القومي الاجتماعي.
5- " غبار البحيرة "، عام 1956 – مجموعة مقالات منوعة.
6- " غداً نقفل المدينة "، عام 1956 – مجموعة مقالات ومذكرات.
كان واضحاً للذين عرفوا سعيداً في تلك المرحلة من حياته، انه كان، كلما تقدم حزبياً، تراجع مادياً وصحياً(6). فالثروة التي كان قد جناها في الفلبين تبخرت باسرع مما قدر لها، وموارده التجارية من شركة المقاولات التي انشأها مع صديقه المهندس ميشال سماحة انقطعت حال اعتناقه الحزب، ولم يبق لسعيد من مورد منظم ينفق منه على بيته وعائلته.
وعلى الصعيد الشخصي الخاص، تخبرنا ابنته ديانا، ان اباها، مني، بعد عودته الى لبنان، بخيبة أمل، ازدادت تفاقماً بعد دخوله الحزب، واصطدامه بالواقع، فهو المثالي كان يشلح مثاليته على اهله واصحابه، حتى اذا تبيّن له خلاف ذلك، ثار غضبه . . . ونتيجة لتلك الخيبة، تقول ديانا، عمد أبوها الى مجموعة الرسائل التي بعثها الى اهله من الفلبين فمزقها جميعاً.
يبدو لنا ان سعيداً، في غمرة ذلك الصراع: العاطفي، النفسي، المادي، اهمل صحته وكان يكثر التدخين والسهر ويرهق نفسه عملاً متواصلاً وعيشاً لا نظامياً، بل فوضوياً، فانهارت صحته وانعطب قلبه. وبدأ واضحاً للذين رافقوه في تلك الحقبة، ان حياته من جهة ثانية اضحت في خطر، بعد ان طالبت به حكومة دمشق (7)، فاذا هو حذر، يحتاط للطوارئ، لا ينام ليلتين تحت سقف واحد، خصوصاً بعد اغتيال صديقه غسان جديد، ثم بعد نشوب الثورة صيف 1958، وتأزم الوضع أكثر فأكثر, وهكذا يبدو، ان حياة سعيد، وما يحف بها من اخطار، اصبحت ضرباً من الانتحار، فقرر الابتعاد عن لبنان، ريثما تعود الاوضاع الى حالتها الطبيعية الاولى . .
هجرته الثانية الى المكسيك وكولومبيا، وموته:
في 09 ايلول 1958، استقل سعيد الطائرة الى المكسيك (8)، حيث للحزب منفذية نشيطة . . وربما خطر لسعيد، بأن وقته وظروفه هناك، قد يكونان مهيئين للانتاج . . يجب ان يسجل خواطره عن صيف الدم.
كانت اول محطة نزل بها روما، حيث اجتمع بزوجته وابنته(9)، وابحر في 11 ايلول الى نيويورك، وهناك امضى اسبوعين اجتمع خلالهما ببعض الاصحاب القدامى، منهم جو سلامة وهشام شرابي وجوزف توماس اخو زوجته. ثم استأنف سعيد سفره، بحراً، الى المكسيك، حيث كان في استقباله لدى وصوله عدد من القوميين الاجتماعيين والاصدقاء، منهم الكولونيل الاميركي تشارلز اوسبون، والتاجر الصناعي نجيب دبغي.
يخبرنا السيد اميل دبغي، ان اخاه نجيباً، استضاف سعيداً صديق صباه، الاسابيع الاولى من وصوله الى المكسيك، ومهّد له سبل التعرف الى الاوساط التجارية، لكن الحظ لم يحالفه، ويبدو ان مناخ المكسيك لم يلائمه، بدليل ما اطلعتنا عليه ديانا، من ان اباها اصيب بفالج نصفي، في الجانب الايمن من جسمه، واضطر، نزولاً عند رغبة الاطباء، للانتقال الى كولمبيا.
في اوائل ايلول عام 1959 سافر سعيد الى بارانكيا في كولمبيا، ومكث في الفندق يدرس الاوضاع ويستشير اصدقاءه هناك. وعلى ضوء استشاراته ودراساته، قرر التوجه الى جزيرة سان اندرس (10).
تخبرنا باسمة ابو انطون (11)، ان سعيداً استرد بعض عافيته في جزيرة سان اندرس، وانه اسس تجارة بالاشتراك مع انطونيو الشيخ. ونظراً لسعة اختباراته التجارية ولوفرة معلوماته عنها، مضى يخابر البيوتات الصناعية والشركات التجارية في اميركا والمانيا وانكلترا، وفرنسا، فتدفقت عليه العروض المغرية والنماذج والمساطر من الاقمشة والبضائع على انواعها. وانه لو امهله القدر عاماً واحداً، لجنى من تجارته ثروة طائلة، لكن نوبة قلبية قضت عليه، وهو يستحم في البحر، في 15 شباط 1960 فقرأ عليه الفاتحة شيخ مسلم من البقاع، ودفن في مقبرة البروتستانت، ولم يزد عدد الذين شيعوا جثمانه عن العشرين شخصاً.
عام وخمسة أشهر أمضاها سعيد، بعد مغادرته بيروت، في سباق مع الموت، يمارس الاعمال التجارية ويحبر الصفحات مستعجلاً تسجيل افكاره وخواطره ومذكراته ولم يكن يخاف عليه بأن الخطر يهدده بين ساعة وساعة، لكنه كان جباراً مكابراً، لم يعترف بالوهن حتى وهو يتعثر في مشيته، ولم ينقطع عن الكتابة، فأعطى الواناً من الادب الانساني والاجتماعي والسياسي.
بعد وفاة سعيد تقي الدين صدر له كتابان:
1- " رياح في شراعي "، عام 1960 - مجموعة مقالات كتبت قبل سفره الى المكسيك عام 1958.
2- " انا والتنين "، عام 1961 - مجموعة مقالات كتبت في المكسيك وكولومبيا.
لقد كان لموت سعيد تقي الدين وقع مؤلم في المحافل الادبية: اللبنانية والعربية والمهجرية جميعاً، فنعته الصحف الموالية منها والمعارضة. وقبل مرور عام على وفاته، تشكلت لجنة لاحياء " اسبوع سعيد تقي الدين "، في الصحافة والاذاعة والتلفزيون، على ان يختتم الاسبوع في 12 شباط 1961، بحفلة خطابية في قاعة الاونسكو، يتكلم فيها : سعيد عقل، فؤاد صروف، جبران حايك، عبد الله سعاده، عبد الله العلايلي، امين نخلة، وخليل تقي الدين. وتعزف ديانا على البيانو.
وفي 10 شباط 1961، ازيح الستار في نادي خريجي الجامعة، عن لوحة تذكارية لسعيد تقي الدين، وقد تكلم رئيس الجمعية يومذاك، الدكتور فريد حداد. وفي رسالة منه ترجع الى التاريخ نفسه، يطالب رئيس الجمعية بأن يرصد مبلغ خمسة وعشرين الف ليرة لبنانية، كمنحة جامعية باسم سعيد تقي الدين.
1- السجين المذكور هو شاعر الزجل عجاج المهتار صاحب " مطعم البيت "، في شارع جان دارك. وفي حديث خاص معه في 19/02/1969، اطلعنا على رسالة جوابية بعثها اليه سعيد في حينه تقع في ثماني صفحات.
2- راجع " تبلغوا وبلغوا "، صفحة 133.
3- هو محام ومسؤول كبير في الحزب يومذاك.
4- راجع نص البيان في " تبلغوا وبلغوا "، صفحة 9، وهو بعنوان: " حين استجبت للنفير ".
5- من احاديث خاصة في 17/02/1969، مع جورج عبد المسيح، وكذلك في 07/05/1969، مع الدكتور منير خوري، الشاعر محمد يوسف حمود، وعجاج المهتار، من امناء الحزب وكبار مسؤوليه في تلك الحقبة. وقد افادنا هؤلاء ان بعض مقالات سعيد الحزبية، كانت تنشر بدون توقيعه، غير ان معظمها ضم الى مجموعاته لدى صدورها تباعاً.
6- من احاديث خاصة، في 20/12/1968، مع ام سعيد، وميشال سماحة، والدكتور فريد حداد وفي 07/05/1969، مع عجاج المهتار، محمد يوسف حمود، واسعد المقدم المدير الاداري للمجلس الوطني لانماء السياحة، وكان ملازماً لسعيد في الحزب.
7- من احاديث خاصة في 07/05/1969، مع منير خوري، عجاج المهتار ومحمد يوسف حمود من امناء الحزب عهدذاك، ان سعيد تقي الدين، اتهم عام 1956، بالاشتراك مع الضابط السوري الجنسية غسان جديد، بتدبير محاولة انقلاب في الشام، وانهما، نتيجة محاكمة عسكرية استمرت في دمشق نحو ستة أشهر، حكما بالاعدام، غيابياً، واصبح عرضة للملاحقة والاغتيال.
8- من احاديث خاصة في 15/02/1969، مع ديانا، واسعد المقدم الذي ودعه في مطار بيروت، بأن من بين اصدقاء سعيد الذين مهدوا له سبيل السفر الآمن، الجنرال فؤاد شهاب قائد الجيش يومذاك.
9- من احاديث خاصة في 20/02/1969، مع بياتريس وديانا تقي الدين، ان سعيداً سفرهما الى ايطاليا في 15/05/1958، حيث كانت ديانا تتابع دروسها الموسيقية في اكاديمية كيجاتا، وتحيي حفلات خاصة.
10- من حديث خاص في 17/02/1969، مع باسمة ابو انطون التي كانت قد سبقت سعيداً الى سان اندرس، ان سكان الجزيرة كانوا عبيداً، وقد دخلها البيض عام 1959، على اثر اعلانها مرفأ حرا.
11- من حديث معها في 17/02/1969، وقد التقت باسمة سعيداً في بارانكيا (كولومبيا) وهي يومذاك عروس صديقه انطون ابو انطون، وبعد ذلك عرفته في جزيرة سان اندرس طوال مدة اقامته هناك، الاشهر الاربعة الاخيرة من حياته.
من رفات جناحه "الرجل الكبير لا ينتهي بمأتم". وقد صح ذلك. فالرفيق سعيد تقي الدين لم ينته بوفاته في 15 شباط 1960 انما هو بقي حياً، ليس في حزبه فقط، انما في عالم الأدب، اذ يكفي ان نعلم ان عشرات الكتب صدرت عن الانتاج الادبي الوفير للرفيق سعيد، ومنها الكثير مما اهتم باصداره الرفيق "السعيد تقي الديني" جان دايه، لندرك مدى حضور ذلك العملاق في حزبه وفي مجتمعه.
وبعد غد، يجتمع أبناء بلدته بعقلين والقوميون الاجتماعيون، في ساحة "سعيد تقي الدين" في بعقلين ليشهدوا على رفع الستار عن اللوحة التي أقيمت، ويستمعوا بشغف الى كلمات تفيه بعض حقه، وتذكّر الدولة أن من العار عليها ان كاتباً بحجم سعيد تقي الدين لم يُطلق اسمه على أحد شوارع عاصمتها، ولم يُقام له تمثال، كما الدول التي تحترم الكبار من فنانيها وأدبائها وشعرائها.
غداً تقول بعقلين للدولة اللبنانية، ها أنا فعلت، فمتى تفعلين انتِ؟!.
فشكراً لبلدية بعقلين، وشكراً للأمين الراحل، الرائع قومياً اجتماعياً، أمل ابراهيم الذي أبى الا يكون لرفيقه الأديب الكبير، حضوره في مسقط رأسه.
الخميس، 30 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق