السبت، 11 ديسمبر 2010

الرفيق الشاعر حنينة ضاهر ، من يذكرها ؟


الرفــيـقـــة الشــــاعـــرة حنــيـنـــه ضـــاهــــر ، مـــــن يــذكــــرهـــــا ؟

الأمين لبيب ناصيف


بتاريخ 31/03/2005 نشرتُ في "الديار" سيرة موجزة عن الشاعرة الشعبية المعروفة الرفيقة حنينة ضاهر ، أشرت فيها الى إهتمام عدد من الاوفياء في جمع آثارها الشعرية الغنية في ديوان ، أو أكثر ربما.
هذا الديوان أبصر النور وسيقدم للمهتمين من أدباء وشعراء ومثقفين ، وأوفياء للشاعرة الرفيقة ضاهر ، وذلك في قصر الاونيسكو يوم 7 كانون الاول ، الساعة السادسة مساءً.
الديوان من الحجم الكبير ومن 540 صفحة ، وهذه هي السيرة التي كنت نشرتها في "الديار".

حسناً فعل الدكتوران عصام حوراني وربيعة أبي فاضل عندما كتبا عن الشاعرة الرفيقة حنينه ضاهر ، وكتب غيرهما .
وحسناً تهتم السيدة الفاضلة راغدة جابر مع عدد من الأوفياء منهم الدكتور جورج زكي الحاج والمربي الرفيق أنيس أبو رافع لجمع إنتاج الشاعرة حنينه بهدف إصداره في ديوان أو أكثر ، وإلى هذا تتفقدها وترعاها وتهتم بشؤونها كأفضل ما تكون الابنة تجاه والدتها ، ولا قرابة بينهن ، إلا قرابة الفكر والانتماء.
ولا شك أن من واجب وزارة الثقافة في لبنان ومعها الهيئات الثقافية ، والجمعيات النسائية، والمثقفات والمثقفون الاهتمام برائدة الزجل في لبنان التي عرفتها المنابر ومجلات الأدب الشعبي طويلاً حتى إذا جُنّ لبنان ما يزيد على الخمسة عشر عاماً ، وتقدم بها العمر ، تناساها الكثيرون ، لولا قلة تعتبر الوفاء قيمة ، وتحيا فضائل باتت عند الكثيرين بالية .
أكتب عنها وأنا لا أعرفها ، بل أعرف عنها منذ أن كانت " البيدر " مجلة رائدة للأدب الشعبي ، وكانت حنينه ضاهر إلى جانب صاحبها ، أمير الزجل الرفيق وليم صعب ، تصدح شعراً ، وتقارع الرجال في حقل أعتبر حكراً لهم ، فإذا بها تؤكد أن المرأة قادرة على كل شيء، وأنها ليست إلا الوجه الآخر من الرجل ، ومعه تؤلف قطعة النقد المعدنية – المجتمع .
فمن هي حنينه ضاهر ؟
• في آب عام 1918 (1) ، رأت النور في " خلة خازن " قرب العيشية – منطقة جزين – حيث كان يعمل والدها الشاعر الشعبي نعمة الله ضاهر (2) وكيلاً لأملاك السيد سليم علم الدين (والد نجيب علم الدين ، مؤسس شركة طيران الشرق الأوسط ورئيس مجلس إدارتها).
• انتقلت من " خلة خازن " إلى قرية " زحلتي " في منطقة جزين أيضاً ، مسقط رأس أمها علما جبور التي كان والدها فارس وجدها جبور فارس جبور من شعراء الأدب الشعبي (3).
لذا نشأت في منزل يهوى الشعر ، إن لجهة والدها الشاعر ، الذي كان يحتفظ بمكتبة غنية ومتنوعة ، أو والدتها التي أخذت عن والدها الشاعر فارس تذوق الشعر ، وإن لم تقرضه .
• في أواخر الثلاثينات انتقلت برفقة شقيقها بديع (4) إلى بيروت ، وفيها انكبت على القراءة " ومن أجل إنماء هذه الروح المنطلقة في دنيا الشعر ، راحت تقرأ بكل عناية وشغف . اشتركت في عدة مكتبات في بيروت فاستعارت مئات الكتب وهي الفتاة الصغيرة الناشئة . لقد عاشت في صومعة الأدب والشعر . تملك إرادة صلبة . وكم من المرات حوّلت أموالاً قليلة قدمها لها أخوها من أجل شراء حذاء أو ثوب ، إلى شراء كتاب تصرف الساعات الطويلة من الليل لكي تنتهي وإياه مع دقائق الفجر . وكم كانت ترافق أخاها إلى عرس قريب ، فتجلس في مكان تستطيع فيه أن تلتقط ما يقال من حداء أو زجل أو زلاغيط . فكانوا يطلبون من هذه الصغيرة وبإلحاح أن تشترك مع القوالين في إلقاء أبيات ترتجلها على الفور وبلا استعداد " (5) .
• بدأت تنشر قصائدها في مجلة " الأدب الشعبي " لصاحبها الشاعر ميشال قهوجي . كان ذلك في أوائل الخمسينات . ثم راحت تكتب فيها وفي مجلتي " الشحرور " و " صوت الجبل " إلى أن التقت صاحب " البيدر " الشاعر الرفيق وليم صعب (6) فطلب منها أن تلتحق بأسرة تحرير المجلة وتتولى سكرتيرية التحرير . تمّ ذلك عام 1952 واستمرت في " البيدر " محررة وشاعرة وسكرتيرة تحرير حتى العام 1976 عندما تعرضت مكاتب " البيدر " الكائنة في جوار سينما " غومون بالاس " طريق الشام – وسط بيروت ، إلى النهب والدمار بفعل الحرب المجنونة .
• انتقلت الشاعرة ضاهر للكتابة في جريدة " الأنوار " ابتداء من العام 1979 واستمرت تنشر مقالاتها الأسبوعية حتى عام 1993 (7) ومن كتاباتها تاريخ الزجل منذ بداياته في الأندلس حتى عصرنا الحاضر ، " فتكلمت عن نشأة هذا الأدب الشعبي عند ابن قزمان الأندلسي (سنة 1160 م) وكان شاعراً زجالاً ، من أهل قرطبة ، ويعتبر إمام عصره في هذا الفن الجديد من الأدب ، وبحثت في الزجل عند جبرائيل ابن القلاعي (1450 – 1516 م) وحنانيا المنير (1757 – 1820) الراهب الباسيلي الشويري " (8) .

إنتاجها
ـــــــ
أصدرت الشاعرة الرفيقة حنينه ضاهر ديوانين من الشعر الشعبي :
- " كوخ وقلم " طبع عام 1952 وقدم له الأديب جوزف باسيلا .
- " إيمان " عام 1956 وكتب المقدمة الشاعر الرفيق وليم صعب وفيها يقول : " تدفق الشعر القومي الرائع على قلم الشاعرة ، ولسانها ، كتابة وارتجالاً ، من البيان الرفيع الساحر الذي رقصت له المنابر (9) .
ولها مخطوط " زورق بلا شراع " يحتوي على عيون شعرها ، إنما احترق بعد أن كانت جمعته وجهزته للطبع (10) .
قالت الشاعرة ضاهر عن ديوانها الأول وقد صدر قبل التزامها العقائدي ، أنه " شعر طفولي " وأهدته إلى كل من يتذوق الزجل اللبناني . أما ديوانها " إيمان " فقد حمل قصائدها القومية بعد التزامها بالحزب السوري القومي الاجتماعي .
انتماؤها إلى الحزب
ـــــــــــــــــ

يقول الدكتور ربيعة أبي فاضل في كتابه " أثر أنطون سعاده في أدباء عصره " ، سألت حنينه ضاهر ( في 8/7/1997 ) ما مدى تأثير سعاده في شعرك وحياتك ، أجابت :
" عندما اطلعت على مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي ودرسته دراسة كافية ، وجدت نفسي تلقائياً منتمية إليه .
" أما تأثير فكر سعاده في حياتي ، شعراً وممارسة ، فكان ما يشبه الانقلاب أو الخلق من جديد ، إذ حررني من السلبية والانطواء واليأس ، وشحنني نفسياً ، وشعرياً بطاقة كبيرة من العنفوان والتحدي والبطولة والقدرة على الاستقلالية في الحياة ، بلا خوف وبلا عقد . علمني الاعتماد على النفس . علمني حب التضحية ، علمني قدسية العمل ، علمني الثقة بالنفس والاعتزاز بكرامتي . علمني المحبة لا الحب . فكر سعاده هو الشمولية بكل شؤون الحياة . هو الحصانة للكلمة الشعرية من الانزلاق إلى الميوعة والرخص والتهريج . هو الارتفاع بالقصد إلى مستوى الألوهة والارتقاء بالفكرة ، أية كانت ، إلى قمة النبل ، وبالعاطفة إلى مرتبة القداسة، من حيث التهذيب والانضباط – هو المصدر أو الإطار الذي لن تحتاج وأنت في داخله إلى أي شيء من الخارج . "

" البيدر " في حياة الشاعرة ضاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــ

عندما نذكر " البيدر " التي كان لها الدور الرائد الأول للأدب الشعبي ، وصاحبها أمير الزجل الشاعر الرفيق وليم صعب ، لا يمكن إلا أن نذكر معهما الشاعرة الرفيقة حنينه ضاهر التي كان لها حضورها الثابت المستمر، ليس فقط ، كشاعرة وكاتبة وسكرتيرة تحرير ، إنما أيضاً لأنها كانت " تواصل النهار بالليل ، وهي منكبة على إخراج المجلة بالحلة القشيبة ، ترافقها من المكتب إلى المطبعة فالتوزيع . ولقد قامت برحلة صحفية من أجل النهوض بالمجلة في الأوساط الاغترابية فزارت مدناً كثيرة في أميركا الجنوبية وأفريقيا ما بين عامي 1964 و 1967 " (11) .
بدوره ، يورد الدكتور ربيعة أبي فاضل بعضاً من أسماء البلدان التي زارتها فيقول في كتابه " اثر أنطون سعاده في أدباء عصره " (ص 332) " زارت حنينه أفريقيا كلها ، والبرازيل، والأرجنتين وفنزويلا وكندا والولايات المتحدة وجمايكا وترينيداد وغيرها ، ملقية قصائد الحنين والوطنية والحماسة " .

نماذج من شعرها
ـــــــــــــــ

نحنا حماة الأرز ما منرضى الدخيل
يسرح جيوشو في وطـن أجدادنـا
عنا وطن ما منقبلو يبقـى ذليـل
منفـدي لأجلـو مالنـا وأولادنـا
* * *
وتنادي الشاعرة مواطنيها ،
يا مواطني ، لا تمد أيدك للغريب ، وتغمض عيونك عـن الخـيّ الحبيب
جاهد معي تانوحّد الربع الخصيب ، ونشوف جيش الحق عالبُطل انتصر !

وقالت من قصيدة لها بعنوان (سلاح الواجب)

... ما بتغزّل بسحر الطبيعـة قبـل مـا حدود أمتنا الوسيعة
ترجـع لقواعدهـا المنيعـة وتوقف حصن في وجه الأعادي !
أنا فيي الهـوى الخانع قهرتو ، وكياني ، بمجتمع قومي صهرتو !
أنا شعري الغني الصافي شهرتو سلاح الواجب ، وجندي رسالـة
أنا شعري عبد خدمة بلادي

تقول في مقدمة كتابها (إيمان) الصادر سنة 1956
أنا آمنت ببلادي ، وتناهـى إيمانـي بنهضتهـا وعلاهـا ،
بعزم رجالها ، ويقظة نساها لعزتهـا ، ورفعـة مستواهـا ،
بتربتها ، بغلتها ، بسخاهـا ، بقمرها ، بشمسها الحلوة ، بسماها
برسالة خطها الفادي ومضاها بدماتو ، وعلى (شكرو) طواها

قالت في قصيدة ألقتها في بلدة كفرمتى في أواسط الخمسينات
يا أمتـي ، يـا نور مصباح الهدى ، يا قبلـة الأنظار ، يا مهد الوحي
بلاد المفاخـر والبطولـة والفـدى ، فينا افرحي ودمعاتك الحمر امسحي
وخلي الصدى ينقل عن شموخك صدى ، والعنفـوان قـدام عـزك يستحي
يا أمتي لا تختشي سهـام الـردى ، تيهي ، وعلى كتاف النجوم تمرجحي
طالمـا اسمـك بتاريـخ الفــدا من دمنا مسجل أثر ما بينمحي !
* * *

وبعد ، نحن لا نحكي عن " كل " الشاعرة الرفيقة حنينه ضاهر . نحيل لمن يريد أن يعرف عنها اكثر إلى دراستيّ الدكتورين عصام حوراني وربيعة أبي فاضل ، وإلى مجموعتها الشعرية التي ننتظر بشوق صدورها ، إنما نحن نلقي ضوءاً على شاعرة رائدة في الأدب الشعبي كان لها حضورها الطاغي في الخمسينات والستينات ، ونرى من الواجب أن نذكر المعنيين بها ، وان نوجه لها كلمة تقدير وحب كبير ، ونقول أن الذين قرأوا لكِ ، وقرأوا عنك ، وعرفوا مسيرتك الحزبية والشعرية ، يذكرونك دائماً باعتزاز ويوجهون لك التحية التي طالما كنتِ ترددينها في الوطن والمهاجر : تحيا سورية يا رفيقة حنينه ، بوركت وحييت .

هوامـش
ــــــــــ

(1) تورد بطاقة هويتها أنها من مواليد 1928 ، إنما يفيد أقرباؤها وعارفوها أنها من مواليد عام 1918 .
(2) من مواليد بلدة سنيّا قرب زحلتي .
(3) يقول الأديب المؤرخ جرجي باز عن جدها جبور فارس جبور أن " الجزينيين كانوا يتناقلون أشعاره " .
أنظر كتاب د. ربيعة أبي فاضل : " أثر أنطون سعاده في أدباء عصره " ، ص 339 .
(4) سيم كاهناً باسم الأب إبراهيم .
(5) د. عصام حوراني : " حنينه ضاهر رائدة الزجل في لبنان " .
(6) المصدر السابق .
(7) المصدر السابق .
(8) المصدر السابق .
(9) د. ربيعة أبي فاضل ، من كتابه " أثر أنطون سعاده في أدباء عصره ، ص. 334 .
(10) المصدر السابق ، ص. 332 .
(11) د. عصام حوراني : " حنينه ضاهر رائدة الزجل في لبنان " .
• يوم سألها الأديب عجاج نويهض عن الحب في حياتها كان جوابها : ما أحببت أن أكـون غير راهبة للفن . كانت راهبة الفن ، وراهبة الحزب معاً . وقد أطلق عليها فعلاً " شاعرة الحزب " فالشعر والحزب ملآ حياتها .
( د. ربيعة أبي فاضل من كتابه " أثر سعاده في أدباء عصره " ) .
• قال فيها الرفيق إبراهيم حبيب طنوس ( أراشا – البرازيل ) وهو كاتب وأديب : " حنينه فلتة خارقة ، بل رمز لعبقرية أمتنا التاريخية لأنها ، بمواضيعها ، وتعاليمها ورشاقة ألفاظها ، وصفاء معانيها ، وصدق مقصدها ، تدخل إلى نفس القارئ تواً ، وتفجّر في عقله أنوار اليقين والإيمان ، وتخلق فيها روحاً جديدة ، روح الثقة بالأمة ، وبقواها المخزونة الخارقة ".
( مجلة " البيدر " العدد 38 ، أول كانون أول 1954 ) .
• " مهذبة المعاني ، رصينة المواضيع ، اجتماعية ، أخلاقية ، شعبية ، وطنية ، قومية ، يتناقل الجزينيون أشعار جدها جبور فارس جبور ، باشرت النظم حديثة العمر في السابعة ، وهي تكاد لا تحسن اللفظ صحيحاً ،
حنينه بنت الذكـا والفكـر العقل فيها سـاد عاقلبا
تنظم قصائد تستحق الذكر ونصحها الهام من ربّا
( الأديب المؤرخ جرجي باز المعروف بـ " نصير المرأة " ) .
• كانت حنينه ضاهر ، إلى جانب وليم صعب ، مدرسة زجلية مستقلة ، هي مدرسة الالتزام السياسي ، الذي حمّل الشعر مهمات وطنية ، وأبعاداً قومية ، ورأى إلى غنى ما هو إنساني ، وروحي ، وثقافي ، متخذاً غناه ، ومعنى وجوده ، من الكيان القومي أو من الروح الذي يكوّنه متحد الأمة " .
( د. ربيعة أبي فاضل في كتابه " أثر سعاده في أدباء عصره " ) .
***

الرفيق فايز حلاوي

اصــدارات:
يومـيات مناضـل
للرفيـق فايز حـلاوي

الرفيق فايز حلاوي مناضل قومي اجتماعي، شارك في الثورة الانقلابية، أسر، واذ خرج بعد سنتين تابع عمله الحزبي ونشاطه المتفاني، في الوطن، وفي افريقيا اذ اضطر للمغادرة إليها، ثم في الوطن مجدداً. وهو ما زال على التزامه وايمانه ونشاطه، رغم تقدمه بالسن. مؤخراً أصدر الرفيق فايز حلاوي مذكراته بعنوان "يوميات مناضل".
مقدمة الكتاب للناشر الرفيق غسان الخالدي، قال:

لم يسقط الفارس عن صهوة جواده، إنما ترجل ليتابع الرحلة، رحلة الحياة والعمل والتضحية.
.... واذا أعاد سيفه إلى غمده، وسهمه إلى قرابه، فلأنه لم يترك المعركة، ولم يغادر الساحة، فقط تغير السلاح، وكذلك الهدف.
... فايز حلاوي، من جديد يمتشق قلمه بدل الرمح فلقد قاوم كثيراً وجُرح، وبكى غربة، وتعذب مسجوناً، وتأوه وجداناً، وتعب سفراً.. وها هي الجراح والغربات والاوجاع بادية عليه تتمشى في حبره، وتنزف من نمط حياته.
... عرفته الغربات، فعاش الصراع الطويل مع الغد، معاتباً الامس، واقفاً بتحدي الشجاع امام الملمات، كاسحاً من قاموسه الفشل، متطلعاً إلى غدٍ أفضل، وإلى سكينة تشلحه عند آفاق لا نهاية لها، في أعماقها يكمن الهدوء، وفي رياحها ينجلي غبار السنين، وترتاح الأعصاب، من ماضي آكل نصف العمر...
الرفيق فايز حلاوي، بعد هدأة الروح وإلتقاط الانفاس شرّع قلمه على الامس، متأبطاً غرباته، مسترجعاً عذاباته، واقفاً في وجه الرياح يلملم بقايا سنينه الماضية، عاضاً على جراحه، تملأه هموم الماضي وتسترده الصعاب عبر عقود فعلت ما فعلته في روحه، ملماً بكل عذابات الامس، وكأنه لم يستكن لحظة في حياته.
... ذلك هو دأب الكبار، يسترجعون أحزانهم، عندما تدب الأيام دبيبها ذكرى يأنس إليها الحاضر، ويحنو عليها الآن، كبارنا تسبقهم اعمالهم، يستبدلون السيف بالقلم، والمسدس بالريشة والرصاصة بالكلمة الصادقة التي نوافذها وفاءً يطل بشوق على الامس . .
. . مذكرات فايز حلاوي ثمرة عشرات السنين من العمل الدؤوب . . خمرة معتقة من قلب صبر وعانى وتغلب على جمر المحن عجنته التجارب بمواقفها، احيته المعاناة المرّة آلاف المرات، لم ينل منه اليأس، فبقي واقفاً كالمارد متفائلاً بفجرٍ جديد يغسل وجه هذه الامة . .
مذكراته منه، من حوله، من اهله، من طفولة عرف كيف يتقلب في سنينها وفياً قانعاً بالعيش الكريم، عرف الشارع، وعرف السجن وذاق مرّ العذاب . .
مذكراته باسلوبها السهل، كتبت بالدم والالم والاهانات، فجاءت ملحمة دامية موجعة لواحد من ابناء الحياة، الذين ما عرفوا الاستسلام ولا الخنوع ولا احناء الرأس في اشد الظروف واحلك الايام . .
مذكراته تحمل من طيبة وفائه، ومن مواقف النبل عزها . . ايام السجن والعسكر والمخابرات والقمع والتحقيق، وقف موقف البطل الذي لا يهاب الظلم ولا تبدله الاحقاد ولا تنال منه الاوجاع . . مذكرات حنونة هي لابن النهضة السورية القومية الاجتماعية.
. . ويكفي دار ومكتبة التراث الادبي فخراً، انها تنشر مذكرات فايزحلاوي، فهو احد تلامذة سعاده، وكفى.

(*): الكتاب من الحجم الصغير و 120 صفحة.

معري اميون الشاعر الكفيف حنا نقولا سعاده

معـرّي أمـيـون الشـاعـر الـكفـيف
حـنـا نـقـولا سـعـاده



بتاريخ 30/03/2010 نشرنا عن الشاعر الكفيف حنا نقولا سعاده (معرّي أميون)، نقلاً عن الكتاب الذي كانت أصدرته ابنته الدكتوره مي عبد الله سعاده بعنوان "غريب ما يرى"، وأوردنا ما جاء في جريدة "الأنوار" بتاريخ 29/03/2010 عن التكريم الذي نظمته جامعة سيدة اللويزة - برسا (الكورة) بالتعاون مع الحركة الاجتماعية اللبنانية لكل من الأديب الرفيق فؤاد سليمان، "معرّي أميون" الشاعر حنا نقولا سعاده، الأمين عبد الله قبرصي والدكتور الشاعر والأديب علي شلق.
أشكر الرفيق سليم ايلي سالم من بطرام الذي قدم لي نسخة عن كتيب كان أصدره عام 2002 تلميذ الشاعر حنا سعاده، المهاجر خليل النبوت إلى "النابغة الكفيف المقدسي، معرّي أميون، شاعر أميون الملهم ومعلم شباب الكورة الخالد"، وفيه إلى كتابات قيّمة عن الشاعر الكفيف قصائد عديدة، اخترنا منها التالي:

الأعـمـى


هـو الـحي الـذي يـحكي الـجمادا ويُشـجـي فـي مصـيـبـته الفـوءادا
هو الاعـمى الـذي يشكـو ظـلامـا عـلـيـه دام يـشــتـد اشـتـدادا
ويـطـلـب الـنـهـار فـلا يـراه ولـيـل عـمــاه يــزداد ازديـادا
هـو الـمكفـوف لـم تـر مقـلتـاه ضـياء الشـمـس يـتـقـد اتـقـادا
هـو المـحـفوف دومـاً فـي سـواد ولـم يـدر البـيـاض ولا الـســوادا
هو الأعـمى الذي قـد ظـل يسـعـى ولـم يبـلغ مـن الـدنـيـا الـمـرادا
ولـم يـعـرف مـن الألـوان لـونـاً ولا نـظـر الـطـبـيـعـة والـبـلادا
ولـم يشـهـد طـريـقاً سـار فـيـه وقـد ضـل الطـريق ومـا اسـتـفـادا
ومنـها:
كفـيف الـمقـلتـيـن هـداك ربـي أضـعـت بـفـقد عينـيك الرشـادا
فـفـي العـينـين مصـباح لعـقـل يـرى العـقل الصحـيح بـه السـدادا
وفـي الـعيـنـين مـرآة لـقـلـب يـرى القـلب الـحكـيم بـه انتقـادا
وفـي العـينـين افصـح تـرجـمان عـن الـسـر الـخـفـي لـمن أرادا
ومنـها:
ضـريـر الـمقلتـين دهـاه دهـري بـما أبـكى لـه الصخـر الـجـمادا
فـلـم يُـدِرِ الـيـراع بـراحـتيـه ولا شــام الـربـيـع ولا الـعـهادا
ولـم يـر فـي الـحياة سـوى سواد كـأن حــيـاتـه لـبسـت حـدادا
ولـم يـحفـظه مـن حـجر تـوق ولا ملـكـت عـصـاه لـه القـيادا



تحـية الـنبـي المـخـتـار

ألقاها في الجامع الكبير المنصوري في طرابلس يوم عيد مولد النبي العربي الكريم:

قُـلْ للـكليم وللـمسيـح الفـادي ولصـاحب العـيد النـبي الـهادي
انـا نـجل ثـلاثة الـدنـيا وهـل مـن رابـع لـثـلاثـة الافـراد
انـا كـما تبـغـون صـرنا أخـوة نـحيا لـحب مـواطـن وبـلاد
نـتشاطر الأكدار إن عـرضت كمـا نتـقاسـم الأفـراح فـي الأعـياد
إخـوانـنا الاسـلام يهنـئـكم بـنا عـيـد أتـى باليـمن والإسعـاد
يـا يـوم ميـلاد النـبـي مـحـمد أعـظم بشـهرة صـاحب العـيد!
اذكرتـنا عـهد النـبـوة والـهـدى والـوحـي والتنـزيـل والارشـاد
يـا أفصـح الـمتكلـمين بضـادهـا رحـماك قد كسدت عذارى الضـاد!
جـددت سوق عكـاظ بعد ذهـابـها فغـدت تـرى بـمـساجد العباد
ومنـها:
ما حيـلة الكـتاب فـي إيـقاظ مـن رقـدوا بغـفـلتهم طـويـل رقـاد
ما حـيلة الشـعراء والـخطـباء فـي تـحرير من لزمـوا جـمود جـماد
شقـيت بـلاد الأنبـياء بـجـهلهـا وعـدت عـليـها للـزمـان عـواد
يا مـهبط الـوحي الكريـم ومـصـد ر العـلم القديـم وقبـلة القـصـاد
أنـى خـبا ذاك الضـياء وبـدلـت بـالـمخـزيات مفـاخر الأجـداد
أعـزز عـلـي بأن أراك خـليقـة بـالـذل بـعد العـز والأمـجـاد
ومنـها:
فالـدين بالـمعروف يأمـر مثلـما ينـهـي الورى عـن منـكر وعـناد
ما قـال فـي حب القريب مسالـما حتــى دعـا فضلاً لـحب أعـادي
ومنـها:
صونـوا حـما الفصحى وشدوا أزرها خـاب الألـى يرمـوننـا بـفـساد
بقـيت بقـاء كـتابـكـم وبقـيتم بـالـسـعـد والاقـبـال للآبـاد





مثـلي لمثـلـك بالإخـلاص معـروف

أرسلها إلى قرينته الفاضلة أستاذتي الغالية "ملكة" وكانت وقتئذ تدير مدرسة الإناث في "بينو" عكار وقد تلاعب فيها ما شاء، وشاء بيانه وحذقه:
مثـلي لـمثلك بالإخـلاص معـروف وبالإخـا والوفـا والصـدق موصـوف!
لا يعـتري حـبنا يا أخـت شـائـبة ولا يـدانـيـه تـقـريـع وتعـنيـف
كنا جـميعاً كـما شـاء الصـفاء لنا وقلـبنا بالـنـهى والعـلم مـشغـوف
تا لله ما بـلـغ الواشـون غـايتـهم منـا ولا فـاتـنا حـزم وتثـقـيـف
ملـنا لدرس أصول الصرف إذ سلمـت منـا الفـعال وعـنا الغـش مصـروف
بـدت مـحـبتنا في الصـرف خاليـة مـما يغـيـر اعـلال وتـضـعيـف
أما بـدرس فنـون النـحو فارتفـعت عـن خـفضه وعلـيها الفـضل معطوف
رمـنا الثـبات عـلى حـب فوافقنـا قـلبان عنـدهـما التدليـس مـحذوف
كـذا ليـصف إخـاء النـاس قاطـبة دومـا والا فـعنـدي الـحب تكـليف
حـال الفـراق على التوديع علـمنـي نظـم القريـض ودمع العـين مـذروف
نـوى دعـانا لنـسيان الاخـاء جفـا وبيـننا حـفظ ذاك العـهد مـألـوف
سيـضرب النـاس في إخلاصـنا مثـلاً لا ينتسـى وجـميل الـذكر مـخلوف
عـاداتنا الصـدق في قـول وفي عـمل وقـولـنـا ببـقاء الـود مـعـروف
دومـي مـليكـة بعد البـعد حافـظة عهـدا علـيه فـؤاد الـحر موقـوف!

الرفيق المحامي والاعلامي عفيف صعب

الـرفـيق المحامـي والاعـلامي
عـفيـف صـعـب


بتاريخ 03/08/2010 نشرنا عن وفاة الرفيق المحامي والإعلامي عفيف صعب.
الحديث عن الرفيق عفيف، وعن الحضور المتقدم له في مدينة كابيماس، يطول: محامياً، وصاحب مدرسة وبرنامج إذاعي، ومهاجراً أوجد مساحة جيدة للحضور السوري، وساهم بفعالية في نشر التعاليم القومية الاجتماعية.
مستمراً على نشاطه إلى ان عاد نهائياً إلى الوطن، حيث أبى إلا ان يوارى الثرى حيث كانت ملاعب طفولته وشبابه.
جريدة "الانوار" كانت نشرت في عددها بتاريخ 19 آب 1988 هذا العرض عن الرفيق صعب، ثم كان لها حديث شامل بتاريخ 19/02/1994.
ننقل أدناه ما أوردته "الأنوار" بتاريخ 19 آب 1988:
المغترب المحامي عفيف صعب، أحد الوجوه اللبنانية المغتربة إلى فنزويلا، شق طريقه بنفسه، متكلاً على طموحاته التي حملها مع آماله الكبير، حين انتقل من بلدته الشويفات إلى فنزويلا، فعمل بكد ونشاط في الحقل التجاري، أرفقه بالعلم والارتقاء الثقافي.
أيام وسنوات تمر، تزيد قليلاً عن ثلاثين سنة في مغتربه ويأتي هذا الصيف إلى لبنان، ويقدم الحساب المعنوي والعلمي إلى أهله وأصدقائه.
فهو حائز على شهادة المحاماة من جامعة ولاية سوليا ويحضر دكتوراه دولة في الحقوق، يأمل الفوز بها في العام الحالي. لديه مكتبان للمحاماة الأول في مدينة ماراكيبو، والثاني في مدينة كابيماس وكلاهما في ولاية سوليا المشهورة بانتاج البترول. وهو أيضاً ترجمان محلف اما الدولة (عربي-اسباني).
إضافة إلى ذلك فقد أسس منذ أكثر من عشر سنوات معهد أدونيس (عربي-اسباني-انكليزي)مرخص له من وزارة التربية الفنزويلية، يتلقى العلوم فيه ثلاثماية تلميذ وتلميذة نصفهم أبناء الجالية العربية (لبنانيون-سوريون) ونصفهم الآخر فنزويليون، ولدى سؤاله عن مناهج التعليم باللغة العربية يقول الدكتور صعب: اننا نتبع مناهج وزارة التربية اللبنانية، والكتب تصلنا بواسطة السفالاة اللبنانيةوالسفارة السورية في كراكاس وكلها مجاناً.
ويساعد الدكتور صعب 15 معلماً ومصلحة بعضهم مغتربون والآخرون فنزويليون. ولما سألناه عن الغاية من فتح هذا المعهد والسير به في بلاد الاغتراب، اجاب صعب: قبل كل شيء غايتنا خلق شعور وطني (لبناني-عربي) لدى أبناء المغتربين، خاصة أولئك المولودون في فنزويلا ولا يعرفون شيئاً عن وطنهم ولغة الآباء والأجداد، وذلك من خلال تدريسهم اللغة والتاريخ والجغرافيا اللبنانية والعربية، مع التوجيه الوطني.
ويقول: لقد نجحت المهمة إجمالاً وأصبح التلاميذ يسألوننا أشياء عن مسقط رأس والد كل منهم، وأين تقع البلدات اللبنانية و العربية فنشرح لهم ذلك على الخريطة، وهذا شيء لم يكن وارداً في أذهانهم سابقاً. ويضيف: وقد أصبح هؤلاء في حسهم شعور نحو وطن الآباء والأجداد تواقون لزيارته.

بـرنـامـج اذاعـي
ونشاطات المغترب صعب لم تقف عند هذا الحد، فلديه أيضاً برنامج اذاعي باللغة الغ=عربية إضافة إلى اللغة الاسبانية وهو البرنامج الوحيد في كل فنزويلا، إذ ان الصعب يمتلك بطاقة رسمية من وزارة الاعلام الفنزويلية تجيز له البث الاذاعي، وقد اتخذت حكومة فنزويلا هذا التدبير بعدما كانت الامور في السابق تسير بغير تنظيم، ولم تعد تسمح لأي إذاعة على كل أراضيها بالبث من أي إذاعة خاصة أو رسمية إلا بتصريح رسمي والبرنامج يذاع من اذاعة راديو مارا في مدينة ما راكيبو ويتم التقاطه في معظم الاراضي الفنزويلية. ورغم ان البرنامج موجه الى المغتربين فإن الفنزويليين يستمعون إليه أيضاً، طبعاً من خلال البث باللغة الاسبانية.
والمغترب صعب يقدم برامجه الاذاعية منذ ثلاثين سنة، وأصبح مرجعاً إعلامياً يثق به المغتربون.
أما عن شؤون وشجون المغتربين فيقول صعب: إن معظم المغتربين في فنزويلا موحدو الكلمة والصف خاصة بالنسبة لقضايا الوطن. والطائفية لا وجود لها إلا مع قليلينجداً منهم، وأبناء الجالية يجتمعون باستمرار لبحث شؤون وشجون الوطن ويعمل هؤلاء لتأسيس ناد لبناني في ماراكايبو (3 ملاييننسمة) يجمع جميع المغتربين اللبنانيين وكل من يرغب من ابناء الجاليات العربية الاخرى شرط عدم الخوض في الشؤون الطائفية والسياسية اللبنانية والعربية.
ورداً على سؤال قال صعب: ان اكثر من ماية الف لبناني وعربي يحملون الجنسية الفنزويلية في أنحاء البلاد، وفي الرابع من كانون الاول المقبل سيدلون بأصواتهم في انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلسي الشيوخ والنواب والبلديات والتي تتم كلها على في يوم واحد.
والمرشحون يعتبرونهم مركز ثقل في نجاح أي مرشح، ومن اجل ذلك معظم المرشحين يتقربون منهم ويزورون نواديهم على امل الحصول على أصواتهم.
ويقول الدكتور صعب: ان معظم المغتربين متجهون لتأييد الرئيس الاسبق الفنزويلي السيد كارلوس اندريه بارز حيث ان له ماض جيد بالنسبة للمغتربين إبان حكمه منذ عشر سنوات.
ويضيف صعب: أن في جامعات فنزويلا خمسين الف طالب لبناني وعربي في جميع الحقول العلمية ولا تعجب ان وصلت يوماً إلى أي مدينة في فنزويلا ورأيت أسماء أطباء ومحامين ومهندسين واقتصاديين وصيادلة ترتفع في لوحات المستشفيات والور التي تعنى بالشؤون المذكورة.
وختم صعب بقوله: أملنا كمغتربين أن تنتهي الحرب اللبنانية، ليس العسكرية فحسب بل كل ما على الارض اللبنانية من حروب، وان يعاد إلى لبنان استقراره وهدوءه، وإذ ذاك يبدأ دور المغترب نحو الوطن الأم.

الاديب الرفيق جورج مصروعة

الأديـب الـرفـيـق جـورج مـصـروعـة

الأديب الرفيق جورج مصروعة أسم سطع في عالم التاريخ والصحافة والأدب والتربية والتعليم، وكان له حضوره المشع في كل هذه الحقول. كان موسوعة في رجل.
نأمل أن نتمكن أن نكتب عن الرفيق جورج مصروعة، فهو يستحق أن يكتب عنه الكثير، وأن يعرّف للجيل الجديد الذي قد يكون سمع به انما لا يعرف عن تميزه مربياً واديباً ومؤرخاً وصحافياً.
*
من مؤلفات الرفيق الاديب جورج مصروعة، نذكر:
 هنيبعل جزءان تاريخ
 ابن زيكار رواية تاريخية
 ضحيتان رواية اجتماعية
 استير استنهوب تحقيق تاريخي
 من فواجع التاريخ
 اميرة في لبنان
 رافضون
 انطباعات افريقية
وله كتب ومؤلفات عديدة مترجمة، وكتب كانت قيد الاصدار، ومئات من المقالات والدراسات التي يصح أن تجمع، تبوَّب، وتصدر في مجلدات.
كتاباه "ابن زيكار" و"ضحيتان" هما المؤلفان اللذان أغنيا المكتبة القومية الاجتماعية، وعرفهما كثيراً الوسط القومي الاجتماعي في اربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي، ويصح ان يعرف عنهما باستمرار وان يطلع عليهما بشغف واهتمام.
هنا نضيء على كل من الكتابين.
ضحيتـان
يحكي عن قصة شاب وفتاة من طائفتين مختلفتين، جمعهما الحب انما فرقت بينهما العادات البالية، فانفصلا في مأساة عبَّر عنها الاديب مصروعة باسلوب رائع شيَّق. يقول في مقدمة كتابه:
الموضوع حساس، كالجرح النازف الملتهب. مسالكه وعرةٌ كثيرةُ العقبات. معالجته أكثر من صعبة. انها مرهقة، توجب اللجوء الى الرّفق، واللباقة، ولطف الملامسة.
كتبت هذه الرواية في معتقل "المية ومية" عام 1942، إذ كان مدرسةً محاطةً بالاسلاك الشائكة، وأبراج المراقبة، والبنادق والرشّاشات، يعدّ المعتقلون فيه الأيام، ومصيرهم مبهم في أفقٍ غائم.
موضوع هذه الرواية مأساة اجتماعية تتكرر، عندنا، كلَّ يوم. أحدث ظهورها، للمرَّة الأولى، ضجةً استنكارٍ صاخبةً، ثم غدت مقبولة الى حدّ توزيعها على التلاميذ.

والتقدمة:
الى كلّ فتاةٍ في قلبها روحُ الحقّ، وإلى كل شابٍّ في تفكيره نورُ الحريّةِ.
*
ابـن زيكـار
رواية تاريخية، يضيء عليها الرفيق مصروعة في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه، وفيها يقول:
"ان الحقيقة التاريخية التي نود، في هذه العجالة، أن نوجه اليها الأنظار، هي أن الاغريق، يوم كانوا لا يزالون متأرجحين بين جاهليتهم البربرية وفجر حضارتهم، شرعوا يهاجمون الحضارة الفينيقية ويحاولون طمس معالمها لبناء مدنيتهم على انقاضها، وقد اذكت احقادهم تلك الحروب الطويلة الطاحنة التي دارت رحاها بينهم وبين المستعمرات الصيدونية أولاً، ثم بينهم وبين قرطاجة طيلة القرن الرابع ق.م. فلم يكتفوا بمجابهة اعدائهم في ساحات القتال، بل عمد كتابهم وخطباؤهم وشعراؤهم الى النميمة، والتحقير، والاقذاع في الشتائم يوجهونها الى الفينيقيين. ثم جاءت أوروبة تأخذ مدنيتها عن اثينة، فانتقلت اليها هذه الشتائم وهذا التحامل المغرض بصورة حقائق تاريخية ثابتة، حتى اصبحنا اليوم نلمس في معاجم الأوروبيين وابحاثهم التاريخية ما يشبه التعمد في محاولة طمس امجاد فينيقية وابراز مساوئها.
" فاذا كانت اوروبة تدافع عن المدنية الاغريقية لأنها مهد حضارتها، فقد اصبح من حق العالم العربي، بل من واجبه، ان يدافع عن الحضارة الفينيقية التي هي قطعة منه وتراث مجيد في تاريخه، وهي، في الوقت نفسه، أم المدنيات العالمية، وحاملة مشاعل العمران في اقاصي الأرض وآفاق البحار. ففي جلاء غوامض التاريخ اظهار حقنا والدفاع عن حقيقتنا. وهذا ما حاولنا معالجة ناحية منه في هذه الرواية".
أما في مقدمة الطبعة الثانية فيورد ما يلي:
لا استطيع أن أقرأ من هذا الكتاب سطراً دون أن تعود بي الذكريات الى الظروف التي رافقت تأليفه صفحة صفحة، وكلمة كلمة.
كان ذلك في معتقل"المية ومية" حيث سلخت ثلاث سنوات من عهد الشباب في نطاق من الأسلاك الشائكة وابراج المراقبة والبنادق المحشوة ناراً والرشاشات المتأهبة لرش رصاصها على كل من يضيق صدره فيحاول الانطلاق في رحاب الحرية.
كنا عصبة من القوميين، ارجلنا في الاوحال اللزجة المدلغنة، وانظارنا في ذروة السماء. تمّر بنا الأيام الغنية بالانوار والألوان ومباهج الارض والعشب والأشجار والأزهار، وتليها الأمسيات الحافلة بالروعة والابهة والجلال، فنقف حيال ما نرى واجمين، في عيوننا نهم لا يشبع، وفي أعماق نفوسنا صلاة لا تنتهي.
كانت صلاة فاتحتها نظرة صادقة الى حقيقتنا، وفصولها تصميم على مواصلة النضال الى النهاية، وخاتمتها... أما قلت انها لا تنتهي؟
أمام تلك المشاهد التي يتضاءل دونها الجلال كنا نشعر أننا كبار، نتدفق من حبسنا الضيق فنملأ الآفاق، ونحس أن كل ذرة وكل لون من تلك الجمالات هو لنا ومنا وفينا..
ويمر بنا "السجّان" الأزرق العينين، وفيه صلف وغرور، فنشذره بنظرة تنحط عليه من علٍ كأننا نقول له بصمت افصح من الفصاحة: "أنت تمر، وأسلاكك الشائكة يفنيها الصدأ، ورشاشك يأكلها السوس.. أما نحن وهذه الأرض، أرضنا السخية المعطاء، فسنبقى! وستبقى لنا هذه السماء، وهذا البحر، وجارته صيدون، وما في صيدون واختها صور من ذكريات يقف التاريخ لها اجلالاً واكباراً.
من هنا انبثقت فكرة "ابن زيكار"، ومن هنا انطلقت فكانت كتاباً.
ثم يضيف: "أن الحياة السائرة الى الاعالي قد مرّت بابن زيكار في صور، وبهنيبعل في قرطاجة، وها هي تنهض بنا قوية جبارة لتواصل سيرها الى المقام الذي ينبغي أن يكون لنا".
*
"ضحيتان" و"ابن زيكار" كتابان يصح أن يقرأهما أشبالنا وطلابنا ورفقاؤنا.
والرفيق الأديب المؤرخ جورج مصروعة اسم كبير يجب أن يُعرف.

الوطنية عند المعلم بطرس البستاني

الوطنـية عند المـعلم بطـرس البسـتاني
ومـضـامـينها الاجـتماعـية (*)

بقلم شحادة الغاوي
قبل الدخول في صلب الموضوع أود أن أوضح ما يلي:
لن أكتفي بمجرد تقديم معلومات عن المعلم بطرس البستاني معرفاً بأفكاره وأعماله الوطنية، بل سأتناول أيضاً الفائدة والعبرة التي يمكن استخراجها من تلك المعرفة "فالمعرفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر".
وسأفعل ذلك عن طريق عقد مقارنتين:
بين الظروف الوطنية والسياسية التي عمل فيها من جهة والظروف الوطنية والسياسية الحاضرة من جهة أخرى. ثم بين موقف البستاني في ظروفه وموقف ما تسميه الصحف اليوم بالقيادات الوطنية في الظروف الحاضرة.
إن المعلم بطرس البستاني عاش ما بين 1819 و 1883 وابتدأ إنتاجه العملي والفكري في الحقل الوطني عندما عين أستاذاً في مدرسة عين ورقة الشهيرة التي كان يتعلم فيها وكان عمره أقل من عشرين سنة، ثم في الجمعية السورية فالجمعية العلمية السورية ثم في جريدة نفير سورية ثم في المدرسة الوطنية التي أنشأها وأدارها، ثم في دائرة المعارف أول انسيكلوبيديا علمية في اللغة العربية والتي أصدر منها تسعة أجزاء قبل وفاته سنة 1883.
ولكنني أستطيع ان أقول أن زبدة أفكاره ومواقفه الوطنية وأشدها وضوحاً وقوة هي التي كانت رداً على فتنة الستين وبعد هذه الفتنة مباشرة. وإذا عرفنا ماذا ينطوي تحت اسم فتنة الستين عرفنا الظروف السياسية والإجتماعية والوطنية التي كانت سائدة يومذاك.
دعونا على لسان البستاني نفسه نتعرف على تلك الظروف.
يقول في العدد الثامن من جريدة نفير سورية ما يلي:
"ومن جال في مدن سورية وقراها وطاف في جبالها وسهولها وعلى الخصوص في الأماكن التي كانت مسرحاً للحروب والارتكابات لا يقع نظره إلا على مناظر مكدرة للغاية ولا يسمع إلا أصوات التذمر وعدم الإرتضاء وتعاسة الحال، ويحكم بأن هذه الحركة ربما تكون نتيجتها خلو البلاد من المال والرجال حتى يمسي أهلها في حالة المذلة والمسكنة ويصبح أكثرهم فقراء متسولين".
ويقول في العدد السادس ما يلي:
"إن الذين أكلهم حد السيف والذين قتلوا هدراً وغدراً وقصاصاً والذين ماتوا لسبب الرعبات والمخاوف ورداءة المعيشة والاطفال الذين ضحتهم شهوات الأردياء الخبثاء وذهبوا شهداء بربرية أقوام متوحشين، يبلغ عددهم نحو عشرين ألفاً. وكلما غابت شمس يزيد العدد وكلما أشرقت شمس ينتقل كثيرون من دفاتر الأحياء إلى سجلات الموتى. ويا ليت الخراب وصل إلى نهايته ووضع حد لهذه المصايب والخساير لكي نختم حسابها، ان أحوال المستقبل إلى الآن مظلمة، نعم مظلمة جداً، ولا نعلم متى يأت الوقت الذي تشرق فيه شمس الراحة في سوريا إشراقاً لا غياب بعده، نسأل الله أن ينظر باللطف والرحمة نحو هذه البلاد المنكودة الحظ".
وفي مكان آخر يقول: "إن الخسائر المادية مما أحرق من البيوت يقدر بمدخول سوريا من موسم الحرير في ثلاث سنين ونصف تقريباً على حساب ألفي قنطار سنوياً".
هذا ما يقوله المعلم بطرس البستاني، أما نحن فنقول بأن ظروفنا اليوم، في بعض جوانبها، هي مشابهة إلى حد كبير لتلك الظروف.
لكننا سنرى أن موقف البستاني وفكره الوطني في ظروفه يتقدم كثيراً بل يتفوق كثيراً جداً على موقف وفكر من تتصدر أقوالهم وأخبار مواقفهم عناوين صحف اليوم وأخبارها الرئيسية.
أولاً: لم تكن وطنيته شعاراً جذاباً ولا أدباً أو كلاماً جميلاً ولا دبلوماسية ولياقة تظهر بمظهر وطني جامع وتخفي ولاء فئوياً وموقعاً فئوياً طائفياً في معظم الأحيان.
المعلم بطرس لم يتكلم باسم طائفته ولم يدافع عن مصالح طائفته ولم يسع لتمثيل طائفته أو حتى منطقته المحدودة المتعددة الطوائف والمذاهب. لأنه من جهة كان يرى الدين والإيمان الديني أمراً داخلياً شخصياً وان أبناء طائفة معينة هم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ووطنياً يشتركون في ما يسميه "صوالح عامة" واحدة من أبناء وطنهم من الطوائف الأخرى، وبالتالي فإن مصلحتهم هي من مصلحة الكل الواحد، وغير صحيح أن مصلحة الكل هي مجموع مصالح الأجزاء، فلا أجزاء عنده بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي السياسي الوطني، بل وطن واحد ومجتمع واحد كما سنرى.
في سلسلة مقالاته في جريدته "نفير سورية"، هذه المقالات التي كان يسميها وطنيات، وهي إحدى عشرة وطنية، في هذه السلسلة لم يجد أي مبرر أو اي سبب للفتنة الطائفية غير قلة الدين وقلة الوعي وانعدام التمدن والإنصياع لأهل السوء والشر وإرادة الأجانب الذين لا يهمهم "نجاح الاهالي وتقدم البلاد" حسب تعبيره.
كان يوقع مقالاته باسم "محب الوطن" دون ذكر اسمه وكان يتوجه في مقالاته لهيئة اجتماعية واحدة (التعبير له) قائلاً: يا أبناء وطني أو يا أبناء الوطن.
إن من يقرأ مقالاته ونداءاته في نفير سورية لا يستطيع أن يكتشف أكاتبها درزي أم مسيحي ولا يستطيع أن يجد أي إشارة تفيد ان الكاتب يتعاطف مع هذه الفئة الطائفية أو تلك، فقط من محب الوطن، وإلى أبناء الوطن.
ولا ادري إذا كان توقيع من "محب الوطن"، دون ذكر الاسم الصريح بطرس، كان يقصد نزع أي احتمال لتأويل المسؤولين وتفسير كلامه تفسيراً فئوياً على أساس أن فلان من الطائفة الفلانية لا بد له أن ينحاز إلى طائفته ويدافع عنها.
ولا بد هنا، ومن اجل التأكيد على صحة ما قلته لحد الآن، من الاستشهاد بفقرات من مقالاته على صلة بهذه النقطة الاولى.
في الوطنية الخامسة يشنع في مبدأ صراع المصالح الطائفية بين أبناء الوطن الواحد ويقول:
"هذا المبدأ الحيواني الخبيث الموروث من البرابرة كثيراً ما رفع رأسه وهاج فأوقع البلاد في الخراب والوبال وبدد المال والعيال".
ويزيد: "ومن شأن هذا المبدأ الخبيث أن يتلون في كل دور بلون ومن أشنع هيئاته وأقبحها الهيئة التي ظهر بها في هذه السنين القريبة العهد التي أنتحل فيها ألقاباً قديمة مقدسة عند أهلها كنصراني ودرزي ثم مسلم ومسيحي...".
ولنقرأه في الوطنية التاسعة يقول قوله العميق الرقيق الرفيع الرائع التالي، محدداً شروط التمدن للسوريين:
"إنهم لا ينظرون في ما بعد إلى أخوتهم في الوطن من حيث المذهب والجنسية الدينية بل من حيث الاخوة الوطنية، وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الانسان وابن وطنه او بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين، لا يؤمل نجاحهما في أحدهما ولا فيهما جميعاً كما لا يخفى".
"يا أبناء الوطن إنكم تشربون من ماء واحدة وتشتمّون هواء واحداً ولغتكم التي تتكلمون بها وأرضكم التي تطأونها وصوالحكم وعاداتكم فهي واحدة".
ثانياً: لا تجد في كل كتابات وأعمال البستاني أثراً لمقولات التوازن والتعايش، هذه المقولات الرائزة في قاموسنا السياسي اليوم، أنه يتكلم عن مجتمع واحد بكل ما لكلمة مجتمع من معنى، وحدة البناء المادي والنفسي.
يتكلم عن مجتمع واحد أهم خصائصه التماذج والإختلاط بين مختلف عناصره. صحيح أنه لم يعقد بحثاً علمياً حول معنى المجتمع والامة ووحدة الحياة في دورتها الاقتصادية الاجتماعية ومبدأ التفاعل الاجتماعي على أرض الوطن والبيئة الطبيعية الواحدة، كما فعل سعاده في كتابه نشوء الامم مثلاً، ولكنه لم يفعل ذلك لأن ذلك لم يكن مشروعه المباشر وهو لم يكن يضع عقيدة أو فلسفة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل كما قلنا كان يكتب مقالات رداً على فتنة الستين، ومن هذه المقالات أمكننا استخراج ما يمكن تسميته المضامين الاجتماعية لفكرته الوطنية.
يقول في وطنيته السابعة: "ولعلمنا بأن نجاح أموركم يتوقف على الإختلاط والإمتزاج ونتيجة ذلك تكون الألفة والإتحاد، نأمل، مع ما يرد علينا من الإعتراضات والمناقضات أن شيئاً من الإلفة سينبت إن شاء الله تعالى مع الزروع وينمو بنموها".
إذا علمنا أن مئة وثلاثين سنة تفصل بين تبني مقولة التفاعل، أي الإختلاط والتمازج بتعبير البستاني، وبين مقولات التعايش والتوازن التي يرفعها أمراء الحرب الأهلية في بلادنا اليوم ومن جاراهم من المثقفين ثقافة سطحية ناقصة، وإذا عرفنا أن مقولة التفاعل الاجتماعي ووحدة الحياة والمصالح التي هي أصل وسبب وأساس كل صفات أخرى من وحدة العادات والتقاليد والثقافة وحتى اللغة، إذا عرفنا أن هذه المقولة يتبناها علم الإجتماع الحديث كمسلمة علمية لا جدال فيها، وإن مقولة التعايش هي خاصة بالقطعان وليس بالإنسان المتحضر، إذا عرفنا ذلك عرفنا كم هو متقدم المعلم بطرس البستاني وكم هو متفوق على من تفرضه عليكم الصحف اليوم كقادة رأي وقادة وطنيين يجملّون أنفسهم وسياساتهم ومواقعهم الطائفية بعبارات التعايش والتوازن وهم عاجزون وغير مؤهلين حتى لتحقيق هذا التعايش رغم فقر مضمونه وعدم قدرته على بناء مجتمع ودولة وتقدم.
ثالثاً: لم تكن قيم البستاني مطلقة دون تحديد وتعيين. ولم يكن عنده شعار الوطنية مطلقاً دون تحديد وتعيين. فالوطن عنده هو الوطن السوري، إنه سورية، وأبناء وطنه هم السوريون كلهم.
ففضلاً عن أنه يمكننا استخراج ذلك بشكل غير مباشر من كتاباته وعباراته كما سمعتم عندما استشهدت بالكثير منها فيما تقدم، فإنه بإمكاننا أن نجده يوضح ذلك تصريحاً بشكل مباشر. انه يقول مثلاً في الوطنية الرابعة ما يلي:
"سورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا.
وتتكرر عبارة أهالي سورية أبناء وطننا عدة مرات في مقالاته.
ان هذا الموضوع قد يكون غريباً اليوم عند البعض وقد يكون مادة جدال ونقاش بعد أن نفذت معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية وبعد إعلان قائد جيش الإحتلال الاجنبي الفرنسي الجنرال غورو "باسم حكومة فرنسا الحرة" قيام دولة لبنان الكبير ضمن حدود وضعت في حينها على الورق، وعندما جاءت فرق المساحة لتنفذها على الأرض تبين أن خط الحدود الجنوبي يمر في قلب قرية دير سريان وبالتحديد في أحد بيوتها فيضع المطبخ والصالون في لبنان وغرف النوم والحمام في فلسطين فقالوا إن حدود لبنان الجنوبية هي خط غير طبيعي يمتد من الناقورة إلى بانياس.
قد يكون غريباً اليوم أن نعرف أن البستاني واليازجي والمطران يوسف الدبس وبعدهم جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم وكلهم من جبل لبنان يقولون بأن سورية هي وطنهم وأن السوريين هم أبناء وطنهم.
قد يكون غريباً ذلك عند البعض بعدما صير إلى خلط علم الإجتماع والتاريخ والجغرافيا بالسياسة والمصالح السياسية الطائفية وبعدما شوّه معنى الوطن ليصبح مساوياً لمعنى الدولة، ومعنى المجتمع الطبيعي ليصبح مساوياً لمعنى المجتمع السياسي أما عند البستاني وسائر رواد النهضة الفكرية والوطنية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي فكانت الأمور تسمى بأسمائها الصحيحة ولم تكن الإرادة الاجنبية واليهودية قد نفذت فصولها في تقسيم وطننا وتغييب هويتنا الوطنية شرطاً مسبقاً ليمكنها السيطرة على أمورنا وإنشاء "دولة إسرائيل". عندما كان البستاني وغيره يقولون بأن سورية هي وطننا وأن السوريين هم أبناء وطننا لم يكن يوجد من يعترض على ذلك، الامر كان محسوماً ومسلماً به لأنه يتعلق بالهوية وبالذات الوطنية الغالية العزيزة قبل أن يشوهها تحالف الإرادة الأجنبية مع لعنة الطائفية المحلية.
واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان يمكن للبستاني أن يقول لو وجد في زمانه من يقول بوطنيات متعددة وقرارات وطنية متعددة ومستقلة لا عن شيء إلا عن بعضها في قلب الوطن الواحد وبين أبناء الوطن الواحد، واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان موقف البستاني من المطالبة بتحرير جزء من البلاد من الجزء الآخر من البلاد نفسها انطلاقاً من عاصمة دولة أجنبية احتلت بلادنا واستعمرتها واضطهدت أحرارها وساهمت في بذر بذور الفتنة الطائفية فيها.
رابعـاً: عـروبـة الـبستـانـي
كما كانت وطنية البستاني ثابتة واضحة قوية نقية غير خاضعة لمتغيرات السياسة والإرادة الاجنبية، كذلك كانت عروبته عروبة واقعية صحيحة وليس عروبة عاطفية ذات خلفية دينية.
إنه يميز بين عروبة قبل الإسلام التي يقصرها على أبناء الجزيرة العربية، وعروبة ما بعد الفتح الإسلامي التي حملت كثيراً من طابع وحضارة سورية والسوريين. في خطاب عنوانه آداب العرب، يقول المعلم بطرس البستاني:
"إن العرب قبل ظهور الإسلام أي في أيام الجاهلية كانوا قوماً أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا القليل منهم، والعلوم التي كانوا يتفاخرون بها هي علم لسانهم ولغتهم ونظم الإشعار وتأليف الخطب".
وهذا يفيد أن السوريين الذين كانوا يعملون القراءة والكتابة ويتقنون علوماً كثيرة ويتفوقون في الفلسفة والشرائع وفن الدولة وإنشاء الإمبراطوريات هم خارج معنى العرب قبل الإسلام، وإن كان العنصر العربي داخلاً في مزيجهم الدموي كما سنرى.
بعد ذلك يقول عن نفسه، وهو عاش بعد الإسلام بأكثر من ألف وثلاثمئة سنة بأن فيه دماً عربياً. في الوطنية الثامنة يقول أنه قد هاج الدم العربي فيه عندما كان يحدث رجلاً يطعن في الجنس العربي. وفي خطابه حول آداب العرب يقول:
"لا تهج أيها الدم العربي ولا تغتظ من الحق عندما تسمع واحداً مشتركاً فيك يبين لك حقيقة حالك...".
لقد نطق البستاني في هذا الموضوع بالحقيقة العلمية المجردة عن كل هوى سياسي أو عاطفي، فمن الناحية الدموية السوريون يتكونون من مزيج دموي سلالي وإن دخول العنصر العربي في هذا المزيج قبل وبعد الاسلام هو حقيقة قام عليها الدليل والملفت أن عروبة البستاني العلمية الواقعية لم تكن بديلاً عن وطنيته السورية.
خـامسـاً: فـصل الـدين عـن الدولـة عـند البستانـي
هنا يظهر المضمون الاجتماعي الحقوقي لوطنية البستاني بوضوح وقوة.
انظروا كيف يبدأ بمقارنة هذا الموضوع وكيف يسند دعوته إلى فصل الدين عن الدولة إلى مبدأ أساسي سابق وهو أن أبناء الوطن الواحد هم مجتمع واحد لهم حقوق مدنية وسياسية واحدة. يقول في الوطنية الرابعة:
"يا أبناء الوطن، ان لأهل الوطن حقوق على وطنهم كما للوطن حقوق على أهله. فبمقدار ما تكون تلك الحقوق مستوفية حقها يزيد التعلق بالوطن والرغبة واللذة في تأدية تلك الواجبات، ومن الحقوق التي على الوطن لبنيه الحرية في حقوقهم المدنية، ومما يزيد أبناء الوطن حباً لوطنهم الإشعار أن البلاد بلادهم، سعادتهم في عمارها وراحتها، وتعاستهم في خرابها وشقاوتها. ومما يزيدهم رغبة في نجاحه وخيره وغيرة على تقدمه أن تكون لهم يد في أعماله وتداخل في صوالحه".
ويتدرج في التمهيد لدعوة فصل الدين عن الدولة، وهو يسميها فصل السياسة عن الرياسة، يتدرج في ذلك ويعلن تصريحاً وتوضيحاً أنه ليس ضد الدين وان دعوته لا تحمل خلفية كفر أو تقليل من شأن الدين. فيقول في الوطنية السابعة:
"لا يخفى أن رجوع الإلفة لا بل وجودها وثباتها ونموها تتوقف على امور أخصّها ما يأتي وهو أولاً أديان حية منتبهة تنظر وتعلّم بنيها أن ينظروا إلى من يخالفهم أمر المذهب لا بعين الإحتقار والبغضة كما هو الواقع إلا في ما ندر بل بعين الإعتبار والمحبة كأعضاء عائلة واحدة أبوها الوطن وأمها الارض وخالقها واحد هو الله وجميع اعضائها من طين واحد قد تساووا في المصير".
بعد ذلك ينتقل لاول تصريح عن مبدأ فصل الدين عن الدولة فيقول:
"يظهر جلياً ما يلتحق بالناس والاديان نفسها من الاضرار من تعرضها لأمور السياسة ومزجها الامور الدينية بالأمور المدنية، وكم كان لهذا المزج الذي ينبغي ان يكون غير جائز ديانة ولا سياسة من اليد في الخراب الحالي".
وكأني بالبستاني كان حريصاً على ان لا يبقي مبدؤه شعاراً مطلقاً عرضة للتأويل فقد الحق قوله الآنف بقول أكثر تفصيلاً وطالب "بشرائع متفقة وتنظيمات غير ممتزجة بالشرائع المذهبية". وكأني به يقول بإزالة كافة الحواجز الحقوقية بين مختلف الطوائف والمذاهب وبمنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء.
بعد ذلك يستفيض وفي أماكن عديدة من مقالاته، بشرح مبدئه وإعطاء الحجج التي تجعله واجب التطبيق، ولعل أبلغ حجة هي التي لفظها في الوطنية العاشرة حيث يقول:
"وجوب وضع حاجز بين الرياسة أي السلطة الروحية والسياسة أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرياسة تتعلق ذاتاً وطبعاً بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والاحوال بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغيير والإصلاح حسب المكان والزمان والأحوال، ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين الممتازتين طبعاً والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما من شأنه أن يوقع خللاً بيّناً وضرراً واضحاً في الأحكام والاديان حتى لا نبالغ إذا قلنا أنه يستحيل معه وجود التمدن".
أخيراً لا بد من أن نلاحظ أن البستاني لم يتكف بإعلان أفكار ومبادئ بل أنه عمل لتطبيقها فعلياً، أما الطريقة التي توفرت له فهي إنشاء مدرسة أسماها المدرسة الوطنية التي استمر بها خمس عشرة سنة تخرج منها كثير من رواد النهضة على المبادئ ذاتها التي علّمها المعلم بطرس وطبقها في مدرسته. يقول الباحث جان دايه المتخصص في إنتاج رواد النهضة ان البستاني هو رائد من رواد النهضة، ويقول عنه أنه "ما انتهى من كتابة ونشر وطنياته في جريدته نفير سوريا حتى راح يعد العدة لإيجاد المؤسسة التي تنقل فكره العلماني القومي الحضاري من حيّز النظر إلى حيّز العمل وكان يمكن أن يكون الحزب هو المؤسسة المؤهلة لتنفيذ طموح البستاني ولكن البلاد كانت تابعة للسلطنة العثمانية وخاضعة لقوانينها التي تحظر قيام الاحزاب بقوة، عندئذ لم يجد المعلم البستاني أفضل من المدرسة إطاراً لخلق نخبة من الجيل الجديد وستاراً يحول دون إلغاء هذا المشروع الجليل والتنكيل بصاحبه".

مـلاحـظة: جميع النصوص الواردة بين أهلّة مأخوذة من وثائق للبستاني جمعها الأستاذ جان داية وضمنها كتابه "المعلم البستاني". الصادر عن منشورات مجلة فكر سنة 1981.

(*) نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ شحاده الغاوي خلال ندوة حول فكر ومواقف المعلم بطرس البستاني أقامها نادي النهضة الثقافي الاجتماعي في مدينة سدني – أوستراليا بتاريخ 26/06/1994.

السيدة وديعة قدورة خرطبيل: تاريخ من النضال في سبيل فلسطين

السـيدة وديـعة قـدورة خرطـبيل:
تـاريـخ مـن الـنـضـال فـي سـبيل فـلسـطيـن



كتاب السيدة وديعة قدورة خرطبيل: "بحثاً عن الأمل والوطن. ستون عاماً من كفاح احرزته في سبيل قضية فلسطين". كتاب يجب أن يقرأ. ليس لأن السيدة وديعة تقدم شرحاً مستفيضاً عن عائلة قدورة في بيروت، وبينهم شقيقها الأمين أديب، إنما لأن الكتاب غني بالمذكرات التي عاشتها السيدة خرطبيل، بدءأً من طولكرم وصولاً إلى تأسيسها، فترؤسها لفرع الإتحاد العربي النسائي الفلسطيني في لبنان. وفي هذا كانت تسير على خطى عمتها السيدة ابتهاج قدورة التي كانت رائدة من رائدات النهضة النسائية في لبنان والعالم العربي. لذا سننشر ما أوردته عنها، لفائدة الإطلاع على ما كانت عليه في حياتها الغنية بالحضور والعطاء.

مـحتـويـات الـكـتـاب

- الفصل الاول: بيروت- فلسطين.
- الفصل الثاني: نكبات خاصة.
- الفصل الثالث: فلسطين والمرأة.
- الفصل الرابع: أربعون يوماً في الأمم المتحدة.
- الغصل الخامس: القدس أبداً.
- الفصل السادس: سنوات النار والرماد.
- الفصل السابع: عراقيل ونشاط متقطع.
- الفصل الثامن: الحضور زمن الغياب.
- الفصل التاسع: إسعاد الطفولة المعذبة.
- خاتمة ووثائق: مصورة.

والمقدمة لرئيس مكتب منظمة التحرير في بيروت الكاتب شفيق الحوت.
عن شقيقها الامين أديب قدورة (منفذ عام بيروت، عميد الدفاع، رئيس المجلس الاعلى، نقيب الصيادلة)، تورد السيدة وديعة خرطبيل.

....وأصل إلى أخي أديب، فالذين عرفوه شاباً رياضياً أولاً، وصيدلياً ثانياً، ونقيباً للصيادلة لثلاث دورات وأميناً لسر اتحاد الصيادلة العرب، ورئيساً للمجلس الأعلى للحزب السوري القومي الإجتماعي، ونزيل سجون لمرات ومرات، لا يصدقون أنه الطفل الذي تأخر عن دخول المدرسة، تحت وطأة الربو الذي أصابه. فخلافاً لما درجنا عليه من الدخول في سن مبكرة إلى المدرسة، اضطر مرضه والدي لإتخاذ قرار بإبعاده عن بيروت ورطوبتها، وعليه تمَّ إرساله خارجها مع ممرضة لبعض الوقت، وعندما تحسنت حاله تمّ إدخاله إلى مدرسة الشيخ عباس القريبة من منزلنا القديم في "عالسور"، حيث كان انتظامه الدراسي متقطعاً. إلا أن تطور وضعه الصحي أدى إلى دخوله المدرسة ومنها إلى الجامعة الأميركية حيث نال إجازته في العام 1938 كأصغر طلاب دفعته، وخلال إلتحاقه في الأخيرة قرر التغلب على معاناته عبر الأنشطة الرياضية، ومارس السباحة والملاكمة وكرة السلة والتنس وتفوّق في العديد منها.
لكن الاهم في مسار شقيقي أديب كان انتماؤه للحزب السوري القومي الإجتماعي، الذي تعرف عليه طالباً في الجامعة الاميركية، أسوةً بسواه من الطلاب الذي كانت تتوزعهم الأفكار القومية آنذاك. ولعل انتسابه للحزب خلال فترة الدراسة طبع حياته إلى حد ما، إلا أن نشاطه الحزبي قد واكب تخرجه من الجامعة، إذ شغل مراكز هامة في الحزب، فكان عميداً للدفاع والخارجية ورئيساً للمجلس الأعلى للحزب، ومن خلال هذه المواقع مارس أدواراً سياسية في كل من لبنان وسوريا على حد سواء. فقد تعرف شقيقي أديب على مؤسس الحزب أنطون سعادة في مطلع الثلاثينات، وعين منفذاً عاماً لبيروت ولم يتجاوز في حينه الواحد والعشرين عاماً، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية وقامت سلطات الإنتداب بحملاتها القمعية على القوميين والشيوعيين، كان أديب من ضمن المستهدفين نظراً لموقعه الحساس في الهرم التنظيمي. وقد تعرض لدخول السجن خمس مرات، أولاها في العام 1939 عندما أمضى في سجن القلعة ثلاثة شهور ومثلها في سجن الرمل. وفي السجنين لم يكن أديب مجرد سجين حزبي، بل لعب دور الطبيب، ومن الذين طببهم فرج الله الحلو القيادي البارز في الحزب الشيوعي اللبناني. وقد تابع أخي نشاطه الحزبي رغم كل المصاعب والمتاعب التي جابهته إلا أنه قرر في النهاية تجميد نشاطه في إطار الحزب احتجاجاً منه على المؤامرة التي قام أحد زعماء الحزب في العام 1955 بتدبيرها واغتيال المرحوم العقيد عدنان المالكي، نائب رئيس أركان الجيش السوري، بدون علم قيادات الحزب. وزاد ابتعاده عن الحزب حين اندفع الحزب في تأييد الرئيس كميل شمعون، إذ اعتبر أن هذا الموقف يعتبر انسياقاً في قتال طائفي لمصلحة فرد مهما كان مركزه ولأن ذلك يتنافى مع فلسفة الحزب القائمة على العلمانية ولأن مصلحة الشعب تأتي قبل مصلحة أي فرد.
ولكن أخي أديب، خلال نشاطه الطويل في صفوف الحزب السوري القومي الإجتماعي دأب دوماً على التوفيق بين اتجاهات الحزب القومي والتيار العربي الشامل، ونظم لقاءات خلال حياة الزعيم أنطون سعادة، بين أخته الدكتورة زاهية قدورة وبينه وجرت بينهما نقاشات مطولة عالجت في العمق موضوع الإنتماء العربي، لأن أخي كان موقناً أن انتماء سوريا ومصيرها مرتبطان بالمصير العربي المشترك.





إبتهـاج قدورة: رائـدة العـمل الـنسائـي.

سأتوقف طويلاً، للحديث عن عمتي ابتهاج قدورة، التي كانت رائدة من رائدات النهضة النسائية في لبنان والعالم العربي، إلى الحد الذي كرست حياتها بتفانٍ رائع لقضية المرأة ورفع مكانتها اجتماعياً ووطنياً وتحصيل حقوقها المهدورة.
ولدت في بيروت العام 1893 إبان الحكم العثماني، وترعرعت ونمت مواهبها الفذة في رحاب مدرستها الاولى، وهي البيت الذي نشأت فيه، العامر بالثقافة والعلم. أما مدرستها الثانية فكانت المدرسة الاميركية للبنات A.S.G، والتي دخلتها برغم اعتراض وجهاء المسلمين آنذاك، واحتجاجهم على تعليم البنات المسلمات في المدارس التبشيرية كما ذكرت. وقد تابعت عمتي دراستها، وحافظت على رصانتها ورفعة أخلاقها، حتى اقتدت بها الكثيرات، وانتسبن إلى المدرسة الاميركية للبنات. ثم نالت على طراوة عودها، شهادتها النهائية عام 1909 بتفوق، وكانت خطيبة حفل التخرج، ألقت وهي مرتدية الحجاب خطاباً حول دور المرأة في الهيئة الإجتماعية، اعتبره بعض معاصريها بداية تاريخية لتحرير المرأة عملياً، إذ كانت من المتعلمات الأوائل اللواتي آلمهن جهل المرأة، إذ فكرت في وجوب تعليمها وتوعيتها، توصلاً إلى الخروج بها من ظلمة التخلف الآسر إلى نور التقدم والمساواة.
كان طموحها أبعد من المدرسة الأميركية للبنات، فأجالت النظر في ما يحيط بها، وفكرت في وسيلة تنمي ثقافتها، وتوفر لها دراسة أعلى تعوضها عن الدراسة الجامعية التي لم تسمح الأوضاع العامة آنذاك بولوج بابها، فعكفت على مكتبة والدها تنهل منها ما تشاء، واستعانت بعالم جليل فتفقهت بأمور الدنيا والدين، ثم استكملت على أيدي مدرسين تعلم اللغات فأجادت العربية والإنكليزية والفرنسية وكانت تخطب بها بطلاقة.
ولما رأت أن الحياة ضمن جدران البيت والتنعم برفاهية العيش لن يرويا طموحها، صممت على الخروج إلى ميدان الحياة العامة فأسست بالإشتراك مع عنبرة سلام وأمينة حمزة وعادلة بيهم ووداد محمصاني وشفيقة غريب سلام وسواهن، "جمعية يقظة الفتاة العربية" في شهر آذار/مارس العام 1914، وكان صغر سن الفتيات المندفعات إلى العمل الإجتماعي حال، حينذاك، دون حصولهن على رخصة لجمعيتهن فالتفتن إلى إحدى سيدات بيروت المعروفات، هي المرحومة نجلا بيهم التي استجابت لهن، وشملت جمعيتهن برئاستها ورعايتها، وعملت معهن بحماسة لا تعرف فتوراً.
باشرت الفتيات العمل، لكن فرحتهن بعملهن لم تكتمل، فالحرب العالمية الاولى التي نشبت في آب/ أغسطس من العام 1914، شتت شملهن، فتعثرت أعمال الجمعية رغم أن عدداً منهن جاهد مدة من الزمن. ومع اندلاع القتال، عمّ القمع وانتشرت المجاعة، وفرض جمال باشا السفاح القائد العام للجيش التركي الرابع، الاحكام العرفية، وأرخى العنان لغرائزه في الفتك والظلم والتنكيل بالوطنيين.
وبدا ان بيروت على عتبة انفجار. ولامتصاص الوضع أسس الأتراك في العام 1916 أربعة ملاجئ لإحتضان الصغار المشردين في الشوارع، بالتعاون مع نخبة من السيدات منهن: نجلاء بيهم، وعنبرة سلام، وثريا طبارة، وشفيقة غريب وعمتي ابتهاج قدورة. وحدث أن جاء جمال باشا إلى بيروت من عاليه وتفقد الملاجئ، ثم عاد إلى اجتماع حضره لفيف من السيدات والوجهاء والقادة العسكريين، حينذاك وقفت ابتهاج وألقت كلمة بالعربية أثارت دهشة القائد العثماني في تجرئها عدم إلقائها بالتركية. ثم دار بينه وبينها الحديث التالي كما تنقله فايزة سعد الدين في كتابها "السيدة ابتهاج قدورة رائدة النهضة النسائية في القرن العشرين".
* هل أنت من رعايا الدولة العثمانية؟
- نعم، سعادة الباشا.
* هل تعرفين اللغة التركية؟
- كلا.
* هل تجيدين لغات أخرى غير العربية؟
- نعم، الإنكليزية والفرنسية.
* كيف لا تعرفين اللغة التركية وأنت من رعايا الدولة العثمانية؟
استأذنت ابتهاج الباشا بسؤال تطرحه، فأذن لها بذلك فقالت: سعادتك مسلم فلماذا لا تعرف قرآنك؟
ذهل الحاضرون وخافوا، ومن بينهم أحمد مختار بيهم أحد أكبر وجهاء بيروت، لكن جمال باشا سرَّ بجوابها وسرعة بديهتها، فرّبت على كتفها قائلاً:
"آمل أن نلتقي في العام المقبل فأجدك تتحدثين التركية وتجدينني أتكلم العربية".
ومضت الايام، وأصيبت عمتي بمرض التيفوس أثناء عملها في ملاجئ الأطفال حتى كادت تفقد حياتها، لكنها، بعد ان استعادت قليلاً من صحتها، عاودت نشاطها وأسهمت في 23 تموز/يوليو من العام 1917 في تأسيس "نادي جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات" بالتعاون مع أمينة حمزة وعادلة بيهم ووداد محمصاني ووحيدة الخالدي وعنبرة سلام. وكان هذا النادي يهدف إلى رفع مستوى الفتيات ثقافياً واجتماعياً، وقد درج على إقامة الحقلات الشهرية التي يحضرها رجال ونساء ينتظمون في قاعة منفصلة، وقد أنشئت في النادي مكتبة للمطالعة، وظل عاملاً لمدة ثلاث سنوات، وربما كان أول ناد ثقافي نسائي في البلاد العربية.
على أن نشاط عمتي لم يتوقف يوماً عند مؤسسة واحدة، بل شمل أكثر من واحدة في وقت واحد، فقد اشتركت مع سلوى محمصاني وشفيقة سلام في "اللجنة النسائية لدار الأيتام الإسلامية"، ثم تسلمت عمادتها منذ العام 1920 إلى العام 1945، عندما أسست "رابطة الجمعيات النسائية الخيرية الإسلامية" لأحياء بيروت، ومارست نشاطها من خلال تشكيلها عشر جمعيات موزعة في أحياء العاصمة. وقد بذلت الرابطة، بتوجيه منها، جهودها لتخليص الأحياء العاملة فيها من التخلف الإجتماعي نتيجة الفقر والجهل والمرض، وعملت على رفع مستوى الأسرة بتوجيهها وتدريبها على حسن استثمار طاقاتها المهملة من أجل حياة فضلى.
وكانت كذلك، وبطلب وإلحاح من السيدة لور خوري زوجة رئيس الجمهورية بشارة الخوري حينذاك، صديقة "لجمعية الصليب الاحمر اللبناني" التي تأسست بفضل جهود المرأة اللبنانية في العام 1945.
* * *
وفي المجال الإقتصادي والإجتماعي، شاركت في تأسيس "جمعية النهضة النسائية" في بيروت العام 1924، بالتعاون مع والدتي خانم الحسامي والسيدات لبيبة ثابت، ونجلاء كفوري، وسلمى صايغ، وجوليا دمشقية، وسواهن. وكانت غاية هذه الجمعية زيادة تشغيل اليد العاملة وتشجيع الصناعة الوطنية. ومن أجل هذه الغاية، أقيمت المعارض، وارتدت السيدات الانسجة الوطنية، وسافر فريق من اللبنانيات إلى سوريا، حيث زرن المصانع واطلعن على كيفية الإنتاج، وطالبن باستبدال الأسماء الأجنبية على حواشي المنسوجات بأسماء المصانع العربية. وقد توقفت هذه الجمعية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم استأنفت بعدها أعمالها، ولا سيما في قرى الجنوب اللبناني، حيث افتتحت هناك المدارس لمحو الامية، وأنشأت بجانب كل مدرسة مركزاً لتعليم الخياطة والأشغال اليدوية.
في حفلة تكريمية أقيمت لإبتهاج قدورة بحضور رئيس الوزراء حينذاك الحاج حسين العويني وعدد من الوزراء والنواب والشخصيات السياسية والدبلوماسية العربية العام 1964، قالت المحامية لور مغيزل: "ابتهاج قدورة من اللواتي بعثن النهضة النسائية، ورعين حبوها وتلمساتها. ورافقن سعيها وتطوراتها، فإذا بها تتلبّس بالحركة النسائية، وإذا بالحركة النسائية تتجسّم فيها، حتى لم يعد بوسعك أن تميز بين الإثنين".(1)
ولقد رافقت عمتي الخطوات الاولى لتشكيل الحركة النسائية المستقلة، لتضم في العام 1921 معظم الجمعيات النسائية في لبنان، ثم يتحول هذا الكيان الإتحادي، في العام 1924، إلى هيئة مرخص لها رسمياً باسم "الإتحاد النسائي في سوريا ولبنان". بقي الإتحاد منذ تأسيسه الهيئة التي تزعمت ووجهت النهضة النسائية اللبنانية، وقد توالى على رئاسته، فضلاً عن عمتي ابتهاج عدد من السيدات اللبنانيات، منهن: إفلين بسترس، حنينة طرشا، لور ثابت، ونجلا صعب.
وقد وجهت في 7 تموز/ يوليو من العام 1938 كتاباً باسم سيدات العراق ولبنان وفلسطين، إلى الرائدة المصرية هدى هانم شعراوي تفوضها فيه الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني لدى الهيئات الدولية، أو لدى أية هيئة يمكنها أن تنصف القضية الفلسطينية وتؤمن لها الحل العادل. ثم وجهت كتاباً آخر إلى الرائدة شعراوي، باسم زعيمات الحركة الفلسطينية ورئيساتها، اللواتي التقين في منزلها العام 1944، اقترحت فيه عقد مؤتمر القاهرة لبحث قضية فلسطين.
بدأ الامر دعوة إلى اللقاء في المنزل، ثم تطورت الفكرة نحو عقد مؤتمر نسائي في لبنان، يخصص للموضوع الفلسطيني الذي كان ينذر بشرّ مستطير، وكان إلحاح الفكرة في محله بعد أن تبين أن عقد المؤتمر في دمشق قد يحرج الحكومة القائمة التي تضع في حسابها أنه لا بد وأن يتحول إلى مشاغبة على سلطات الإنتداب في فلسطين، ولتلافي احتمال مماثل في لبنان جرى استمزاح رئيس الحكومة الذي ارتأى ألا يتم الحصول على إذن رسمي، فنحن في موسم اصطياف، وسيدات البلدان المجاورة جئن مصطافات، "أعقدن حلقتكن، واطلعن بعد ذلك على الناس بمقررات لها صفة نتائج المؤتمر، وهذا يعني وضع الحكومة أمام الامر الواقع...." رغم إغراء مثل هذا الإتجاه، خاطبت ابتهاج الجمع خلال اللقاء في منزلها بالقول " أرى أن مؤتمراً ابن ساعته لا يأتينا بالنتائج التي نهدف إليها، إذ كل امرأة منتمية إلى جمعية نسائية في لبنان وسوريا ومصر والعراق تعرف مشكلة فلسطين، هدفنا هو إسماع الرجال صوتنا، هو استفزاز الرجل تجاه كارثة تستنفره إليها المرأة. وهذا لا يكون إلا في مؤتمر تسبقه الدعاية المنظمة ويحضره مراسلو الصحف الأجنبية وأصحاب الرأي من الرجال. وقد ارتأيت أن أكتب إلى الصديقة هدى هانم شعراوي رئيسة الإتحاد المصري. أن رغبتها لا تقل عن رغبتنا، ولو لم نكتب إليها لكتبت إلينا. لهذا أقول إن المؤتمر سيعقد في مصر هل توافقن يا ستات.
وافقت السيدات بالإجماع على الرأي السديد الوادع، رأي هذه اللبنانية التي إذا ما خطر في بال أحد أن يحصي ستات الستات "في الدنيا، فهي دون ما ريبة إحداهن".(2)
* * *
ثمة مجال آخر على المستوى القومي اتجه إليه نضال عمتي وهو اهتمامها بالقضية الفلسطينية، فقد أصبح الوضع في فلسطين لا يطاق بسبب السياسة الإستعمارية البريطانية والتآمر البريطاني الصهيوني، والإضطهاد الذي حلّ بشعب فلسطين، رجالاً ونساءً. وقد أدركت المرأة الفلسطينية أن عليها واجبات وطنية إلى جانب الرجل، ولذلك فقد طلب وفد من سيدات القدس العاملات في الحقل الإجتماعي برئاسة زليخة الشهابي إلى عمتي ابتهاج بحث موضوع فلسطين ودور المرأة في الأقطار العربية، فاقترحت أن يعقد مؤتمر عام لجميع السيدات العربيات بدعوة من الزعيمة هدى هانم شعراوي في القاهرة. وهكذا أرسلت عمتي هذا الطلب ونفذ بعقد المؤتمر العام في 12 تشرين الاول أكتوبر من سنة 1944 فحضرته أنا عن فلسطين، كوني رئيسة لإحدى الجمعيات النسائية في فلسطين. ولسوء الحظ لم تذهب عمتي إلى المؤتمر بسبب وعكة صحية ألمت بها. ولكنها أرسلت برقية وطلبت من أختي زاهية أن تحضره بمناسبة وجودها في القاهرة (تحضر أطروحة الدكتوراة) وكان الوفد اللبناني برئاسة السيدة روز شحفة، أما الرعاية وكلمة الإفتتاح فللملك فاروق.
أما عضوية الوفد اللبناني فكانت لكل من نجلاء كفوري، وإفلين تويني بسترس، ونازك عابد بيهم وحياة بيهم. وقد تحدثت في المؤتمر كلٌّ من كفوري وبسترس اللتين لم تشيرا في كلمتيهما إلى عمتي ابتهاج، مما أدى إلى انزعاجي واحتجاجي فسارعت السيدة كفوري إلى الإعتذار، لأن "هذا التجاهل لم يكن مقصوداً، وقيمة زعامة ابتهاج قدورة محفوظة ولا جدال حولها فهي رئيستنا ورائدتنا".
وفي اليوم التالي أقيم احتفال كبير في قاعة الإحتفالات التابعة لمقر الإتحاد النسائي المصري العام، بحضور حشد من شخصيات الحكومة المصرية والنواب والسفراء، واحتضنتني هدى هانم وأجلستني في الصف الامامي، وافتتحت كلمتها بتحية إلى الزعيمة ابتهاج قدورة صاحبة الفضل في عقد هذا الإجتماع، وأشادت بمناقبها ومآثرها. بعدها ألقت رئيسات الوفود النسائية العربية كلماتهن، وبصفتي رئيسة الإتحاد النسائي العربي الفلسطيني في طولكرم، ألقيت كلمة فلسطين وموضوعها، "نداء الأرض" نبهت فيها إلى ضرورة العمل بسرعة قبل ضياع الأرض الفلسطينية كلها.
دام الإتصال بين الرائدة ابتهاج قدورة وزعيمة النهضة العربية رئيسة الإتحاد النسائي العربي العام هدى هانم شعراوي سنوات طويلة، لتنسيق العمل النسائي العربي، وتطوير الحركة النسائية، وخدمة القضية الفلسطينية، وعندما توفيت هدى شعراوي في 17 تشرين الأول 1947، تمّ انتخاب ابتهاج قدورة خلفاً لها. وهذا أمر طبيعي باعتبار أن العلاقة بينهما هي التي أدت إلى قيام الإتحاد النسائي العربي العام، ويضم الإتحادات النسائية في جميع البلدان العربية ويعقد دوراته في مختلف عواصمها. وقد فازت عمتي بالتزكية لدى ترشحها في مؤتمر الإتحاد العربي العام الذي عقد في اليونيسكو العام 1948، وامتدت رئاستها اثني عشر عاماً على حقبتين، امتدت الاولى من العام 1949 إلى العام 1957 والثانية من العام 1962 إلى العام 1967. وقد اشتركت عمتي أيضاً في عدة محافل دولية نقلت خلالها صوت المرأة اللبنانية والعربية إلى أعلى المحافل.
ومن مآثرها فيها رفعها بتاريخ 26 أيار/ مايو من العام 1948، باسم الإتحاد النسائي العربي اللبناني، احتجاجاً شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية، بواسطة سفير بريطانيا في بيروت، على المأساة الأليمة التي يمثلها الساسة البريطانيون على المسرح السياسي في فلسطين العربية، حتى أصبحت ميداناً للفتنة وإراقة الدماء بدلاً من أن تكون ميداناً للأمن والسلام. ولكن نضالها لم يقتصر فقط على الدفاع عن حقوق المرأة بل تعداها إلى النطاق السياسي إذ سجلت العديد من المواقف الوطنية، ففي 8 تموز/يوليو من العام 1919، استقبلت في منزلها ببيروت لجنة كينغ- كراين الاميركية التي جاءت إلى بلاد الشام للوقوف على رغبة سكانها في الحكم الذي يريدونه لبلادهم التي انفصلت عن الدولة العثمانية، وقرأت عمتي أمام اللجنة بالنيابة عن زميلاتها: عنبرة سلام، وأمينة حمزة، وليلى وعادلة بيهم، مذكرة باللغة الإنكليزية عنوانها: "تمنيات المرأة العربية"، طالبت فيها ببرنامج دمشق الذي تضمن: طلب الإستقلال التام لسوريا بحدودها الطبيعية، ورفض أية حماية أو وصاية، ومنع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، كما طالبت في مذكرتها بحق سوريا في فرص التنمية والتطوير لتحتل مكانتها بين أمم العالم.(3) يقول Howard هاورد في بحثه "هذه هي المرة الاولى التي تطرح فيها المرأة اللبنانية قضيتها" لقد استحوذ الإعجاب على لجنة كينغ- كراين لذكاء ابتهاج قدورة "وطلاقة لسانها بالإنكليزية وحجتها وجرأتها ووقوفها على خفايا السياسة.. وكان اسم ابتهاج قدورة من أبرز الاسماء في خواطرها وأوراقها".(4)
وفي العام 1936، وبعد إطلاعها على نص المعاهدة الفرنسية – اللبنانية في الصحف، قدمت إلى رئيس الجمهورية إميل إده مذكرة تاريخية باسم الإتحاد النسائي في لبنان ورد فيها ما يلي:
قلتم يا فخامة الرئيس: لي الشرف أن أثبت لفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية أن الحكومة اللبنانية تضمن لجميع تابعيها، من دون تمييز، المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وأنا أتساءل هنا: "هل المرأة من أصل لبناني، وهل المولودة والمقيمة في لبنان تدعى تابعية لبنانية أم لا؟ فإذا كانت كذلك فقد نالت اعترافاً صريحاً من فخامتكم بمساواتها بالرجل في الحقوق المدنية والسياسية". فأجابها الرئيس إده على الفور بأن الدستور اللبناني ضمن لها الحق، إلا أن قانون الإنتخابات حصر الحقوق السياسية بالذكور دون الإناث.
وتابعت النضال، وتولت رفع العرائض كلما انعقد مجلس نيابي أو تألفت وزارة. ففي العام 1943 رفعت إلى المجلس النيابي عريضة باسم الإتحاد النسائي العربي اللبناني، طالبت فيها بالحقوق السياسية للمرأة اللبنانية، فتبناها عشرة نواب ثم قدموا عام 1944 اقتراحاً إلى المجلس بمنح المرأة حقوقها الإنتخابية والتمثيلية كاملة، لكن المجلس النيابي رفض هذا الاقتراح، فأعادت الكرة العام 1945 بطرح الموضوع بإلحاح، متأثرة بوثبة المرأة السورية التي نالت، ذلك العام بالذات، حقها أن تنتخب ممثلي الشعب في الندوة النيابية. ونتيجة للمثابرة، ولموقف الإتحاد النسائي وأصوات النساء في جميع مناطق لبنان، اقترحت اللجنة التشريعية في المجلس النيابي الإعتراف التدريجي بحقوق المرأة السياسية على أن يكون لها الحق بأن تنتخب ولا تُنتخب. قابلت النساء هذا الإقتراح بالإحتجاج الشديد، وقادت عمتي في 20 آذار/مارس 1951 مظاهرة كبيرة سارت فيها المتظاهرات نحو المجلس النيابي، حيث سلمت رئيسه مذكرة تضمنت احتجاج النساء على ذلك الإقتراح المبتور. بعدئذٍ منحت الحكومة اللبنانية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1952 المراة المتعلمة فقط حق الإنتخاب، إلا أن النساء رفضن القبول بهذا الشرط، إذ كيف يجوز للرجل الامي أن يمارس حقه الإنتخابي ولا يجوز للمرأة الامية؟!. ولهذا جدّت النساء في طلب المساواة، فوافق مجلس الوزراء في شباط/فبراير من العام 1953 على إعطاء المراة حق الإنتخاب. وفي العام نفسه، انتخبت عمتي وزميلتان لها، هما لور تابت والين ريحان، لعضوية المجلس البلدي لمدينة بيروت، فقطفت المرأة ثمار جهادها بهذه المبادرة الرسمية من الحكومة اللبنانية التي اعترفت بمساواة المرأة بالرجل.
إنني أخشى أن اكون أطلت في الكلام عن إبتهاج قدورة، إلا أني حاولت قدر الإمكان إبعاد العاطفة التي أحملها لها. واختصاراً لما يستحق أن تفرد له صفحات، وقد أفردها آخرون سواي، وأود أن أشير إلى أنها ترأست سنة 1961 وفد لبنان النسائي إلى المؤتمر الآفرو- آسيوي الذي عقد في القاهرة للبحث في قضيتي فلسطين والجزائر، وألقت كلمة عبرت فيها عن وجهة نظر المرأة اللبنانية الداعية إلى استمرار النضال حتى ينال القطران استقلالهما بجلاء الإستعمار الفرنسي والاحتلال الصهيوني، وقد شاركت في أعمال المؤتمر كرئيسة لوفد الإتحاد النسائي العربي، ثم توجهت بعئذٍ مع رئيسات الإتحادات النسائية الافرو- آسيوية لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر الذي استقبلنا بالترحاب مثنياً على جهودنا الخيرة.
وقد حضرت اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر المذكور، بوصفي رئيسة للوفد الفلسطيني، وانتخبت في الهيئة الإدارية التي تمثل آسيا وأفريقيا.
أختم بالقول إن عمتي توفيت في صيف العام 1967، بعد أن امضت عمرها في خدمة المرأة اللبنانية والعربية من دون تفكير في جزاء وحين علمت الاديبة المصرية أمينة السعيد بوفاتها قالت:
" لقد توارى بفقدها وجه من أكرم الوجوه العربية في تاريخنا الحديث، وبموتها ماتت هدى هانم شعراوي للمرة الثانية".
لقد كرّست عمتي حياتها للجهاد والخدمة العامة، ولم تتزوج قط، على الرغم من أنها كانت جميلة المحيا وثرية، وسيدة من الطراز الاول، أذكر أنه عندما أصبحنا في سن الزواج خاطبتنا قائلة:
"لا تفعلوا مثلما فعلت عمتكم ابتهاج، فأنا رفضت الزواج من أفضل الرجال، وكان ينبغي ألا أرفضه، ذلك كان خطأ، لا يكفي أن تتعلموا، وتحصلوا على الشهادات العالية، بل ينبغي أن تتزوجوا أيضاً. هذه هي سنة الحياة، والعلم والزواج يجب أن يتحققا معاً".

(1): الدكتورة فايزة سعد الدين: السيدة ابتهاج قدورة رائدة النهضة النسائية. مجلة تاريخ العرب والعالم: العدد 25. الجدير ذكره أن حفل التكريم أقيم في التاسع من آذار العام 1964.
(2): المصدر السابق ص 21 – 22.
(3): سلمى صايغ، صور ومذكرات ص 162.
(4): سلمى صايغ، صور ومذكرات ص 163.

الرفيق عيسى اليازجي في صفحات حياته

الـرفـيـق عيـسى الـيـازجـي
فـي صـفحات من حيـاتـه

الرفيق عيسى اليازجي، كاتب ومؤرخ صدر له على التوالي:
1- مآثر سورية في العصر الروماني- دار فكر للأباث والنشر- 1991.
2- سعادة والفكر السياسي- منشورات النهضة- 1994.
3- أضواء على فكر سعادة- بيسان للنشر والتوزيع- 1997.
4- آفاق الفكر السياسي، من سرجون حتى سعادة- بيسان للنشر والتوزيع- 1998.
5- دراسة تناولت المقاطعة العربية لإسرائيل والقوانين المضادة، بطلب من رئاسة مكتب جامعة الدول العربية في واشنطن دي سي – الدكتور كلوفيس مقصود.
6- المسيحية المتهودة في خدمة الصهيونية- 2004.
7- اعرف عدوّك: الصهيونية ثمرة اليهودية ونتاجها 13/12/2008.
8- الصهيونية الأنجلو – أميركية- 13/ 10/ 2008.
إلى ذلك هو مناضل قومي اجتماعي تولى مسؤوليات محلية وعايش أحداثاً حزبية عديدة، رغب أن يسطرها في كتاب صدر مؤخراً بعنوان " صفحات من حياتي".
الرفيق عيسى يقيم حالياً في اسبانيا، وقد سبق أن نشرنا عنه في أكثر من مناسبة، وتكلمنا عن مؤلفات قيمة أصدرها، وما زال منكباً على القراءة والكتابة في الفكر والتاريخ، ومهتماً بالكشف عن كنوز تاريخنا الحضاري.
من "صفحاته"، اخترنا تلك الصفحات للإطلاع، وفيها إضاءة على جزء من تاريخنا الحزبي الذي نأمل أن يهتم بتدوينه كل من رافق الحزب في معاركه ونضاله ونشوئه القومي.

انتسـابي للحـزب السـوري القـومي الاجتمـاعي
وتـاريـخ ولادتـي الـثـانـيـة


أفلح نسيبي المرحوم رجا اليازجي أن يقنعني بفساد الشيوعية كعقيدة، لأنها تدعو إلى حرب الطبقات الاجتماعية بينما يدعو الحزب السوري القومي إلى إلغاء الإقطاع وإقامة اللحمة الاجتماعية متمثلة بالوحدة القومية وإزالة التعصب الطائفي وسائر الأمراض التي يعانيها مجتمعنا، وأعطاني مبادئ الحزب، وكان رحمه الله يوضح لي ما خفي عليّ من مبادئه، كما حدثني عن سعادة وحربه على الانتداب الفرنسي وعملائه في سورية ودعوته إلى وحدة سورية قومية لسورية الطبيعية: الجمهورية الشامية ولبنان والأردن والعراق وفلسطين، وهكذا أقسمت اليمين الحزبية في حرج الصنوبر في البلدة بتاريخ 24/7/1946 وهو الموافق ذكرى تاريخ ميلادي، وأذكر أنني خاطبت القوميين بالقول:
" أشعر بعد انتسابي للحزب وأدائي القسم أنني أصبحت إنساناً جديداً، فقد مات فيّ الإنسان القديم وانعدمت فيّ الولاءات العائلية والطبقية والمذهبية وانتصر فيّ الولاء لأمتي ووطني سورية".
لم يمضِ أسبوعان على انتمائي للحزب حتى دعينا إلى اجتماع في حرج الصنوبر أيضاً، وإذا بثلة من الدرك تفاجئنا وتحاول التحقيق معنا وتنظيم ضبط يدعو إلى توقيفنا وإحالتنا إلى القضاء، ومنهم من أشهر السلاح علينا، وانتهى الأمر بوعدنا لهم أن لا نعود إلى الإجتماع إلا بموافقة مسبقة من مختار القرية الشيخ مراد اليازجي.
بدا لنا بوضوح أن الواشي ومدبر الفعلة هو المختار نفسه وذلك بسبب إنتماء ابنه يوسف وزوجة ابنه زكية الخضر إلى الحزب وخروجهما على سلطانه الأبوي.
كان منفذنا العام هو المرحوم يوسف المعماري المتقاعد من الجيش وناظر دفاعنا هو المرحوم حبيب أسعد اليازجي وهو متقاعد من الجيش أيضاً، وكان الحزب يدير (ثانوية النهضة) ويوليها جلّ اهتمامه، كانت مدرسة نموذجية درّس فيها على ما أظن المرحوم الرفيق السابق ميشيل أديب والرفيق الأمين والعميد السابق حيدر حاج اسماعيل.


زيـارة الزعـيـم إلى مدينـة الـلاذقـية:


في نيسان من عام 1948 زار الزعيم مدينة اللاذقية، وهي زيارة لا ولن أنساها على امتداد عمري مهما طال، نظراً للأحداث التي أحاطت بها ولتواجدي الدائم قربه وبرفقته والتعرف إلى شخصه ونظراً للحوادث البارزة التي رافقت تلك الزيارة والأحاديث التي تحدّث بها والآثار التي ترتّبت عليها....
لقد تعرفت على سعادة عن كثب، وأدركت بدون عناء تميّز هذه الشخصية وفرادتها فكراً وأخلاقاً وبلاغة وجاذبية.
ما أرغب في التحدث عنه وإبلاغه للقارئ، هو بعض الوقائع التي عشتها خلال هذه الزيارة، وعرّفتني بالمستوى الأخلاقي الرفيع الذي عليه سعادة، والتواضع الجّم الذي ملك علي نفسي وهزّ وجداني وتذكّرت قولاً قيل من مطرود من الحزب وهو (جبران مسوح): " أن بطون النساء ينبغي أن ترتاح مائة عام لتلد إنساناً بكبر سعادة وفكر سعادة وبطولة سعادة".
والقول بأن سعادة لم ينصفوه لا حياً ولا ميتاً، وتآمروا عليه حياً وميتاً هو بعض الحقيقة لا كلها، فقد تآمروا عليه حياً وميتاً، وأرادوا أن يتخلّصوا منه ليطمئنوا على مواقعهم السياسية التي بلغوها أفكاً وضلالاً على ظهر الشعب، فاستغلوا جهله واستغلوا المفاسد التي نخرت جلده حتى بلغت أعماق نفسه، وأشاعوا عليه الضلال ليضلّوا الشعب ويبعدوه عن قضيته، واستباحوا لأنفسهم الطائفية الخبيثة والمقيتة والبغيضة ليحاربوه بها، والإقطاع الفكري والسياسي والاجتماعي لينقصوا من عظيم عقيدته وريادته، فأرادوا ذلّه وأراد رفعتهم، كان النور والهداية التي أطفأوها بأحقادهم ومكرهم وخبثهم، فلم يتركوا حيلة إلا واحتالوا عليه بها، ولا مكراً إلا ومكروا عليه به، فما استطاعوا أن يبلغوا شسع نعله... كان صوته يملأ الأسماع ويجلجل في الآكام والوديان، فما استطاعوا أن يتمكنوا منه، وتآمرت عليه صهيون وعملاؤها من يهود الداخل، حتى أوقعوا به غدراً، فانتصر على كيدهم حتى في موته، وأعطى دمه زكياً طاهراً فداء لأمته وقضيتها، (فالدماء التي تجري في عروقنا ليست لنا، بل لأمتنا، نردّها للأمة متى كانت بحاجة للذود عنها والموت في سبيلها)....
هذه بعض الوقائع التي عشتها في هذه الزيارة التاريخية للاذقية، أرويها للقارئ ليطّلع عليها لتكون له ذخراّ وهداية:
كان الزعيم يزور حلب قبل توجّهه إلى اللاذقية، وكان منفذها آنذاك الأمين المرحوم نوري الخالدي، وكان من المقرر أن يحلّ طيلة فترة إقامته في اللاذقية في دار المرحوم عبد الغني أسرب أبي رفيقنا المرحوم عبد القادر، ناظر التدريب في منفذية اللاذقية، وأحد وجهاء اللاذقية المعروفين، وقائداً من قادة حزب الشعب فيها.
وفيما نحن نعّد لقدوم الزعيم، إذ بنا نفاجأ بزيارة وفد يمثل السيدين المرحومين عبد القادر شريتح رئيس الحزب الوطني، الكتلة الوطنية سابقاً في اللاذقية، والمرحوم أسعد آغا هارون المعروف بانحيازه إلى كتلة المرحوم خالد العظم في البرلمان الشامي.
عرض علينا وفد يمثل شريتح وهارون أن يمتنع الزعيم عن" الإقامة" في دار" عبد الغني إسرب" ويختار أي مكان آخر، وبالمقابل فإن شعب اللاذقية بقضّه وقضيضه سيسعى إلى لقائه واستقباله عند "مقص حلب"أي مفرق حلب، حسب اللغة العامة في اللاذقية.
لا أخفي القارئ أن العرض استهواني لدرجة أنني ذهلت عن نفسي، وتمثلت الزعيم في موكب تحفّ به الألوف من البشر والسيارة التي تقلّّه محمولة على الأكتاف... ولم أستفق من ذهولي إلا على صوت المرحوم الأمين عيسى سلامة يستحثني على وجوب القبول، إلا أنني رأيت أن مسؤوليتي لا تخوّلني أن أقرّر موقفاً بهذه الدرجة من الأهمية ويخصّ الزعيم وحده.... وتحدثت مع الأمين الخالدي وسألته عن الزعيم، فأفادني أن الزعيم موجود الآن في جسر الشغور وهو مدعوّ للغداء على مائدة رفيقنا الشامي (نجدة النجاري) وأعطاني رقم هاتفه.
موقف الزعيم كان واضحاً غاية الوضوح، قولوا للوفد: " إن الزعيم لا يحلُّ ضيفاً على السيد عبد الغني إسرب، بل على ابنه عبد القادر ناظر التدريب"، طبعاً هذا لم يقنع (شريتح) و (هارون) فقررا مقاطعة الزيارة.
وأتى الزعيم، وكان القوميون الاجتماعيون وأصدقاؤهم في لقائه، أما الجموع فقد احتشدت في الشوارع لرؤيته، كان يمثل ضمير الشعب ومصدر عزّته وارتقائه.... ونزل الزعيم من السيارة التي كانت تقلّه وسط عاصفة من التصفيق ترحيباً، وتعالت الأصوات بحياة سورية وحياة سعادة..... وفي البهو الفسيح الذي كان يغصّ بالقوميين وحلفائهم وأنصارهم، شقّ الزعيم الطريق وسط عاصفة من التصفيق والتهليل بحياته وحياة سورية....
كلمة الترحيب بالزعيم ألقاها المنفذ العام جميل مخلوف، تبعه الشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي ألقى قصيدة بمناسبة زيارة الزعيم لا أزال أحفظ منها هذين البيتين من الشعر:

زعـمـوا أنـك انـكـمـاش وفـي نفـسك للفيـض ألـف هـادٍ وهادي
كـل غـازٍ لا يُنْـهل الحق منـه هــو أقـصـوصـة الـرؤى والســواد
ثم وقف الزعيم ليلقي خطابه التاريخي، الذي أُعدُّه من أروع خطبه وأبلغها.
تحدّث عن النهضة ومفهوم الصراع ونظرته إلى الحياة والموت، وكأنه كان يتنبأ بمصيره الذي كان يعدّه له المتآمرون، يهود الداخل.
أما بشأن ما دعا إليه متزعّمو اللاذقية لمقاطعة استقبال الزعيم، فلم يكن مجدياً ومقنعاً للشعب، فقد غصَّ المكان على رحبه بالقوميين الاجتماعيين وأصدقائهم، كما غصّت الشوارع القريبة من المكان الذي حلَّ فيه، وبالألوف. كان من بينهم من أتى لسماع خطبته، ومنهم من أتى لرؤيته وقد سمع عنه الكثير، ومنهم من أتى ليرى عمّا إذا كان سعادة يلحِنُ في اللغة العربية، وعلى رأسهم، المرحوم إدوار مرقص عضو المجمع العلمي العربي وكان كهلاً في الثمانين من العمر، ومنهم من أتى إعجاباً به، وعلى رأسهم الشيخ (الحكيم) – لا أذكر اسمه الأول- صاحب جريدة (الصباح) اللاذقانية.
في اليوم التالي لوصول الزعيم عقدت هيئة المنفذية اجتماعاً، وقيّمت الاحتفال وقرّرت، وكان قرارها صائباً، أن تخصّص للزعيم غرفة في (الكازينو) فندق السياحة والاصطياف حالياً، مكاناً لاستقبال الوفود التي ترغب بالتعرف عليه ولقائه والتحدث معه وسؤاله بل واستيضاحه عن شؤون قومية وفكرية وسياسية وفنية وأدبية يريدون التعرّف بها من فمه وليس من أفواه آخرين.
ووافق الزعيم على قرار المنفذية، وهكذا أخذت الجموع البشرية تتوافد، ليس من اللاذقية، فقط بل من المدن والقرى التي تحيط بها والقريبة منها.
ودارت أحاديث، كم كان من المفيد تسجيلها نظراً لأهميتها وتنوّعها، وأذكر أن السيّد مظفر الياس، أخ رفيقنا سهيل، وجّه للزعيم سؤالاً عن (الموسيقى الشرقية) والتي يدعونها بالعربية وعن إمكانية تطويرها لتصبح موسيقى على مستوى عالمي.
إلتمعت عينا سعادة ببريق غريب، وقد سُرّ سروراً بالغاً بالسؤال، وسأل مظفّر إذا كان يعرف الموسيقى أو أنه موسيقي، ولما أجابه بالنفي، بدأ الزعيم يتحدث عن الموسيقى العالمية وكأنه يحاضر فيها، وسُمّرت العيون فيه وشخصت إليه، حتى الموسيقى فإنه العارف بها وبأسرارها ولغتها وتاريخها وتطورها وأساطيرها، ولم يشذ عما ذكره في قصته (عيد سيدة صيدنايا) وما قاله (سليم) بطل القصة بكيفية تطوير موسيقانا.
ثم سأل المرحوم الأمين عيسى سلامة عن قضية (فايز الصايغ) وما رافقها من إشكالات حزبية وفلسفية، وكان عيسى من المنحازين له والدّاعين لعدم طرده من الحزب، كان الزعيم على علم بموقفه، فلم يظهر أي انفعال أو ردود أفعال، بل أخذ يوضح لعيسى الامور التي فاته النظر فيها بجوانبها الدستورية والفلسفية وعدم تراجع صايغ عن موقفه وإصراره على نظرته أو بالأحرى التي نقلها عن فلسفة (الأنا الفردية) المتمثلة بأنبيائها (كير كيغارد) و (برد يايف).
لم يتوان سعادة عن إيضاح ما غَمُض، فسأل إذا كان يريد أن يستوضح عن شيء فلم يبد عيسى أي اعتراض بل وافق تمام الموافقة على قرار الزعيم بإعادة الوحدة الفكرية للحزب، فنصحه سعادة أن يدقِّق في الأمور قبل أن يحكم عليها، ولا يتخذ مواقف مسبقة متسرعة.
في اليوم التالي لوصول الزعيم دعاه المرحوم الأمين فؤاد الشوّاف لتناول طعام الفطور (الترويقة) في بيته، وكنت من جملة المدعوين.
لحظت أن سعادة يحجم عن استعمال السكر لتحلية الشاي والحليب ويستعمل بدلاً عنه العسل، وسألته عن السبب، فأفادني أن كبده ليس على ما يرام وأن الأطباء نصحوه باستعمال العسل عوضاً عن السكر.... ثم أخذ يتحدّث عن (واقعة) بدا لي واضحاً أنه على علم بها، وأن الرفيقة المرحومة إميلي حلبي هي التي نقلتها إليه.
ما استوقفني هو أن سعادة ذكر الأسماء واكتفى بسرد المهّم من الوقائع، وكان يتقصد الإيضاح للردّ على هؤلاء المفترين ( الموغلين) في الكذب والحقد والافتراء والأفك. وتفصيل الأمر أن المغترب (يوسف اليازجي) قدم إلى الوطن، وكان رئيساً لفرفة التجارة العربية – البرازيلية وتبرّع للجامعة السورية (الشامية) بمبلغ من المال باسم الجالية الشامية في البرازيل، كما تبرّع لمرمريتا بمولّد للكهرباء، بحيث أصبحت مرمريتا، البلدة الأولى في وادي النصارى، التي تنار بالكهرباء.
وما لفت انتباه المغترب (يوسف اليازجي) أن شباب العائلة بل شباب القرية في معظمهم قوميون اجتماعيون، مما لم يستسغه أو يتقبّله، فأخذ ينتهز الفرص لمهاجمة الزعيم شخصياً، من دون تناول مبادئ الحزب، مما يوحي بأنه كان لا يعلم شيئاً عنها، أو حتى كأنه ليس في هذا المستوى من العلم.
وحصل أن ذهبت مع المرحوم والدي للسلام عليه، فسألني عن دروسي، ثم عن اتجاهاتي السياسية، فأعلمته بأنني قومي اجتماعي، فقال لي مبتسماً أو بالأحرى متكلفاً الإبتسام: أتعلم أن أنطون سعادة كان على خلاف مع والده العلاّمة الدكتور خليل سعادة، وأن الأمر وصل به إلى حدّ أنه ضرب والده). عندها لم أحسّ إلا وأنا أهمّ بصفعه لولا تدخل الوالد وذهول الحضور، وكان من بينهم الرفيقة إميلي حلبي التي كانت تربطها بزوجته صلة القربى.... وبدا لي واضحاً أنها روت الحكاية بتفاصيلها لسعادة.
لقد حدثنا سعادة عن علاقته الحميمة بوالده والتصاقه به ومساعدته في جميع الشؤون والأعمال، العائلية منها والثقافية، ثم تناول ما هي عليه نفسية المغتربين وأحقادهم وتفرّقهم شيعاً وطوائف متحاربة، بينما اليهود يعملون لإقامة دولتهم على ترابنا القومي...
ويبدو لي أن الزعيم كان يلحظني ويلحظ كيف كنت ألتهم السيجارة تلو الأخرى، مما حدا به أن يقول لي: (رفيق يازجي لماذا تحرق صحتك بالدخان)، وشعرت أنه راغبٌ أن أتركها... وهكذا فعلت. ورميت السيجارة أرضاً، ولم أعد إليها إلا عندما بلغني نبأ إعدامه.
ثم سألني عن دراستي، فأجبته أنني أدرس الحقوق.... وأنني في السنة الثانية..... واستوضحني عن المواد التي ندرسها، فعدَدْتها له، وكان بينها (الحقوق الرومانية) فقال لي: (أتعلم يا رفيق يازجي شيئاً عن الدور السوري في صياغة هذه الحقوق وكمالها). قلت له: (ليس بالمستوى المطلوب). قال لي: (إذاً أطلب منك أن تعدّ لنا دراسة تتناول هذا الدور) ووعدته بأن أفعل، ولم أحقّق وعدي إلا بعد أربعين عاماً، بتأليفي كتاباً بعنوان (مآثر سورية في العصر الروماني) نُشِر فعلاً في دار" فكر للأبحاث والنشر".

الرفيق الراحل الشاعر عبد الكريم صبح

الـرفـيـق الـراحـل الشـاعـر
عـبد الـكريـم صـبـح

بتاريخ 2005/07/13 أوردت عمدة شؤون عبر الحدود النص التالي في نعي الرفيق الشاعر عبد الكريم صبح. قالت:
نعت منفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي في الساحل البرازيلي، وعصبة الأدب العربي في البرازيل، وفاة الشاعر والكاتب الرفيق عبد الكريم صبح.
ولد الرفيق عبد الكريم في قرية "بوردي" قرب نهر العاصي في محافظة حمص.
بعد أن تابع دراسته في ثانويات حمص وتخرج منها، غادر في العام 1951 إلى البرازيل وفيها عمل في التجارة المتنقلة والثابتة إلى أن استقر في مدينة سان باولو.
عمل مساعداً في تحرير بعض الصحف العربية الصادرة في سان باولو، وكلف بتأسيس وإصدار مجلة باسم "الاتحاد"، إلا أنه تخلى عنها بعد إصدار العدد الثالث منها لخلافه مع الممولين حول الكتابة الوطنية العربية والنهج القومي.
انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي على يد المؤرخ والروائي الأمين نواف حردان، وبمساعدته أصدر عام 1981 كتابه "المعجزات في مكارم الاخلاق" وأهداه إلى "المارد العملاق الذي يصارع الدهر والإمبريالية والصهيونية والقبلية والطائفية والانانية، إلى صانع الحضارات ومؤسس سنن الاخلاق ومنشئ الدساتير، إلى شعبي السوري الجبار، أهدي هذا الكتاب".
ثم صدر له عام 1988 ديوان شعري باسم "العواصف" كتب مقدمته، الامين نواف حردان.
أهدى الرفيق عبد الكريم صبح ديوانه إلى "الأحرار المخلصين والأبطال المناضلين من شعبي الكريم الاصيل،المتحررين من العنصرية والطائفية والعشائرية والفئوية".
ولأن مقدمة الأمين نواف تضيء بشكل شامل وصادق عما كان عليه صديقه ورفيقه الشاعر عبد الكريم صبح، ننشرها كما جاءت في ديوان "العواصف" :
هذا ديوان شعر، جديد لشاعر جديد، يطل علينا في هذا المهجر، ليقول لنا إن الادب ما زال بخير، وإنه لم "يفطم" ويتعقم، كما يحاول بعض المتشائمين أن يذيعوا، بل على العكس، ما زالت مواسمه طيبة غنية، سخية العطاء، صافية الرواء.
ديوان شعر جديد هو باكورة انتاج الشاعر عبد الكريم صبح.. القادم إلينا من ربوع الإلهام وفراديسه الظليلة المعطرة.. حيث كان يفكر ويتأمل ويشعر ويحلم ويطمح.. ثملاً بحب الادب الحقيقي.. مأخوذاً بنور المعرفة وقوتها.. مسحوراً بموسيقى الاهة الشعر وبوحها وهمسها.. وتألق الفن الرفيع الوضاح الرائع المياس المقدس.
عرفته منذ ثماني سنوات.. في مكتب جريدة الأنباء وهو في الخمسين من عمره، ولمست في حديثه طرافة وعطشاً للثقافة، وشوقاً للمطالعة، ومحبة للكتب تبلغ حد التقديس، كما عرفت بأنه "راوية " للشعر، يحفظ عن ظهر قلب ألوف الأبيات لشعراء قدامى ومعاصرين.
رأيت في نظراته البارقة عمقاً وذكاءً وقلقاً، وتلهفاً وتحفزاً للإقدام على أمر ما، فقلت له:
- إني أقرأ في نظراتك شعراً.
فابتسم بتواضع وتهذيب خجولاً متهيباً، ثم أجابني:
- إني أنظم بعض الابيات بين الوقت والآخر.
أجبته بأني افتح صدر "الأنباء" له لينشر ما يريد. وصح ظني إذ راح بين الوقت والآخر، يأتيني بقصيدة من نظمه فأنشرها له، وأشجعه وأنعشه، إلى أن صار كما هو عليه اليوم في ديوانه "العواصف" هذا.
وبعد، فماذا نقرأ في شعر عبد الكريم صبح، هذا الشاعر المتواضع الظريف، الذي بدأ النظم وهو في الخمسين من عمره؟ والذي نشأ نشأة دينية، وقرأ وحفظ الكثير من الشعر القديم، والشعر الديني، وظل متأثراً بهما، ولم يستطع حتى الآن أن ينزع عن شعره الجديد، مسحة الدين والقديم.
ماذا نقرا في شعره الجديد؟
إن شعر عبد الكريم صبح يذوب شعوراً رقيقاً وحنيناً طوراً عندما يذكر ربوع صباه، واهله وأحباءه، ويتفجر ثورة على القدر لبعده عن بلاده وما يلاقيه من عذاب ومرارة في ديار الغربة، هكذا:
تركـت الحـمى والأقـربين مغـامـراً وراء سـراب يـلـمـعـي مـعـذب
ثـلاثـون عـاماً بـين نـفي وغربـة أجـدّ وأشـقى فـي طمـوح ومطـلب
ومـا أدركـت كـفي ثـراء وراحـة وفارقـت أمـي والبشـاشـة مـن أبـي
وعيـشا كوجـه الأقحـوانة ضاحـكاً أطـارد فـيـه ربـربـاً بـعـد ربـرب
رعـى اللـه أيـام الصبـابـة والصـبا تقـضت سـريعـاً بين حمـص وادلـب
ويتألق كالأشعة الساطعة تارة، ويتراقص كالنسيمات المتهادية عندما يقع نظره على غادة جميلة شقراء، فيقول فيها:
مـاذا أقول بمـن أوصـافها اكتمـلت أقـول أبـدع فـي تـكوينـها القـدر؟
مليـحـة فـالجمـال الـحق ألبسـها ثـوباً لـه ملكـات الـحـسن تفـتقر
تكـاد من عـفة فيـها ومـن شـمـم تخـتال تيـها بـهـا الأثـواب والحـبر
هيـفـاء فاتـنة عـجـراء سـاحـرة من لحظـها أمراء الشـعر قـد سـكروا
ويدوي ويزأر قاصفاً عاصفاً "كالعواصف" الغاضبة حيناً، عندما يهاجم حصون الرجعية والتخلف ومعاقل الطائفية والجهل والفردية، هكذا:
فـي كـل نـاد ودكـان وجامعـة وجـامـع وجـمـاعـات وعـمّـال
وكـل حـي وحـانوت وحاضـرة صـوت الطـوائـف هـدّار كـشلال
ما رن فـي مـسمعي من كل ناحـية إلا صـداها البغـيض السـاقـط البـالي
يتـاجـرون بـأديـانٍ مـقـدسـة عنـها بـعيـدون بعـد المـاء عـن آل
كـم اتخـمت تاجراً لصـاً تـجارتها فـراح يكتـال ألـماسـا بـمـكـيال
كـم سـائل ملـحف تدمـي وقاحته يقـول في لهـجـة المسـتكبر العـالـي:
مـن أنـت من أين مـن أي الطـوائف مـن أي المـذاهـب غـال أنت أم قال؟
تعـطل السـمـع من تـكرار أسئـلة تسـود الـوجه فـي حـل وتـرحـال
إنـي تمـنيت لـو يجتاحـني صـمـم يحـرر السـمع مـن الـحـاف تسـآل
هكذا يتألق شعر عبد الكريم صبح ويرتسم أمامنا مثقلاً بالمعاني الكبيرة، حافلاً بالشعور القومي الخفّاق مندداً بالأمراض النفسية الخبيثة التي يشكو منها شعبنا هكذا:
حملـت فـي مهـجتي الفـيحاء ثـائرة وفـي ضمـيري وعقـلي والرؤى حـلـبا
ومـا أردت سـوى سـوريـتي بـدلاً ولا اتـخــذت أبــا إلا الأبـاء أبـا
ولا سـجـدت إلـى لات ولا صـنم أكـنت فـي وطـني أم كنـت مغـتـربا
ولا كـرهـت لأجـل الديـن طائفـة فـلتـعبد الـلـه أو فلتـعـبد النـصـبا
وبعد.. فأنا متفائل بشعر هذا الشاعر القوي العارضة.. الطويل النفس، الغزير الإنتاج.. الذي تدور في نفسه اليوم معركة شديدة بين القديم والجديد وأعتقد بأنه سيخرج من هذه المعركة ظافراً.. ويطل علينا مستقبلاً مرة أخرى.. متجدد الأسلوب والنهج والقوى.. متجدد الآمال والطموح.. خفاق الجناحين.. على عزم وتصميم غلابين.. وينطلق في طيرانه ويحلق ويحلق.. فيبلغ الاعالي.. ويتربع في مكانه هناك.. بين الشعراء النابغين المنتصرين.




مـن قصـائـده:

ســنــاء مـحـيدلـي

سـناء يا نغـمة الاحـرار فـي وطـني وقـبلة الـثورة الـحمراء فـي الـجبـل
رأيـت رسـمك في التـلفاز مبتـسمـا لـلـموت أحـلى من الصـهباء والأمـل
فـراح يوحـي لقـلبي خـير ملـحمـة غـراء تنـشد في الأعـياد مـن جـذل
نسـجت من شـعرها شـعرا وبينـهـما دنـيا مسـندسـة الروضـات والـحلل
ومضت مـن عـزمها العـملاق رائـعة عـذراء تياهـة كالنـصل فـي الأسـل
قـم صـل لله وارحـم روحـها سـحرا وبـعد ذلـك مهـما شئـت فيـها قل
تقمـصـت روح "زنّـوب" وثـورتـها فـي سـهل "أنطاكة " بالبـيض والذبل
ورافـقت نـفـس "أسمـاء" وعـزتـها "وزينـبا" بالفـدا بنـت الإمـام عـلي
كـأنـها بلـسان الـحـال قـائـلـة بالكـف، والصـدر، لا بالـشعر والزحل
تخـدر السـمع مـن تهـديـد قـادتـنا وانـتن القـول بالتـزوير، والـدجـل
خـمسون عامـا على التـقريب ضـائعة بيـن الوعـيد، وتـهـديد بلا عـمل
باعـوا "فلسطـين" والأخـلاق واتـفقوا علـى العـمالة بيـع الـشاة، والـجمل
يـثـرثـرون كثـيرا فـي منـابـرهـم بلا حـيـاء ووجـدان، بـلا مـلـل
تـزور اسـماعـنا عـنهـم واعـينـنا لأنـهم رمد فـي السمـع والـمقـل
واقبـلت وجنـود الـموت فـي يـدها لسحـق جيـش لئـيم الأصـل متكل
ودمـدمت بالـرزايا وهـي ضـاحـكة "كنيـزك" في سـمـاء الله مشـتعـل
فاجـفلوا عـند رؤيـاها ومـا قـدروا أيـن الفـرار مـن الثورة والاجـل؟!
رمـتـهـم بسـلاح لا عــلاج لـه بالـذعر والـخوف، والتدمير والشلل
ودمـرت ثكنـات الـجيش ماحـقـة اعـتى الـجيوش، باعتى البطش والسبل
لم ينـفع الـجيـش تحـصين واجـهزة ولا سـلاح اتـى من اجـرم الـدول
ما راعـها الـجند في "الفنطوم" مرتفـع فـوق الثـريا يـعد الـذر في الطـلل
لو قيـض الله عشـرا فـي شجـاعتـها مـن النـساء ذوات الأعـين النـجل
لم يبـق شـعب "ليهوى" في الوجـود ولا حـي بصهـيون مـن أنثـى ولا رجـل
مرت تقـود الـحـسان العـين باسـمة للخـلد بالنـار والصـاروخ والـكـلل
قدمـن أجسـادهن الـهيـف تضـحيـة كـما تـضحي كرام الـخـيل والابـل
نـذرت شـعري لربـات "الفـداء" ومـا وفـيتهن جلـيل الـمدح مـن قبـلـي
انـي سأنـظم فيـهن الـروائع بالاجـلال والـفـخـر، لا بالـهـزل والـغـزل
رداح قـومـي شقـيقـاتـي بنـات ابـي ارواحـهـن رفيـقـاتـي مـن الأزل
أقـول والـقـول لا يـجـدي بـأمـتنـا برغـم مصـدرها من قـمة الـملـل
دعـوا الـكراهـيـة الـحمـقاء نـائـمة فالـكره حـمر وجه الشـمس بالخجل
روحـوا اعبـدوا الله فـي تـوجـيه أمتـه وحـرروها مـن الأحـقاد والـزغـل
ووحـدوا الأمة الـكبـرى فكـم صنـعت مـن مصـلح ونبـي مرسـل وولـي
فـالطـائفـية مـن يـدعـو لـدولتـها لـم يرتفـع قدره في الـخلق عن جعل
* * *

أيــن آذار

انـا نبـاهـي اعـتزازا بـابـن آذار باقـي الشهـور وما بالفـخر مـن عـار
وقـال آذار فـي كبـر ودغـدغـة نيـسان نـيـسان أنّـي سيـد الـغـار
أصبحـتم خـولا من بـعد مـولـده بأولـي وزهـت فـي الـخلد أزهـاري
فاغتـاظ نيسـان مـن أقـوال صاحبه وراح مضـطربـا يـهـذي كـثرثـار
وقـام نيـسان يستقـصي بفـطـنـته آراء مـلـهـمـه الفـنـان أيــار
وصـاح تـموز بشـرا وهـو مسـتند عـلى حـزيـران فـي غنـج وأكـبار
وثــار آب وأيـلـول وجـارهـمـا تشـرين أولـه والآخــر الـجـاري
وبـات كانـون صـخّابـا كـتوأمــه عـلى شبـاط بعـزم الضيغم الـضاري
تـحـالـفـوا ضـد آذار ومهـجـته مـع كـلّ نجـم كبـير الحـجم سيـّار
فقـالت الشـمس ما شـأن الشهور فقد رأيـتـهـا بـيـن اقـبـال وادبــار
هـذا يصـفّـق كـبرا وهـو مغـتبـط وذاك غـيـرتـه أضـرى مـن الـنـار
صـراخـهـم مـلأ الآفـاق زمـجـرة تقسـّمـت بـيـن تـبـشـر وانـذار
وأرسـلت خـلف بسدر التّـم تسـألـه كحـارس لشـهـور الـدهــر أمّـار
ورافـق البـدر مـريــخ وزهـرتــه والمشتـري جنّ مثـل البائـع الـشاري
واحمّـر سخـطا وغيـظا بينـهم زحـل كـأنـه شـارب فـي بيـت خمـّـار
واهتّـزت الأرض فـي أرجـائها وربـت وانبـتت خـيـر نسـريـن وجـلنـار
والبـحـر أنـشـد بالأمـواج رائـعـة أكبـر وأعظـم بـه مـن منـشد قاري
واخـضوضلت في الربـى الأرزات من فرح واخـصوصب النـخل فـي زهـر وأثمار
والغـيد من أثـمن الياقـوت قـد لبـست فأصبـح الثـغر مـنـها ضـوء ديـنار
والشعـب يرقـص اجـلالا وتـكـرمـة فـي كـلّ حقـل بديـع الصنع مدرار
والشيـخ بالـغ فـي تـدويـر عـمـته والقـسّ ابـدع فـي تـلـفيف زنّـار
وانـدسّ بـيـنهــم قـوم زعـانـفـة أدنـى وأرذل من وجـدان سـمـسار
بعـمق آبـارهم كـانـت خـيانـتـهم لا در درك مــن مــلـك وآبـار
قد ألبـسوا الفاجـرات التـبر مـن شـره وصـاحب الـتاج مـن إيـمانه عار
والـشعـب مـات هـزالا لا معيـن لـه والتـبر يـجمع قنـطـار لقـنطـار
فـي كـلّ مـزرعـة تـاج ومـملكـة حيـكت ارائـكها مـن عـهر دولار
ومدعـي العـام كـان البـدر مسـتويـا عـلـى أريـكـة أضـواء وأنـوار
وصـار يصـغي لشـكوى الكون في أسف شـكوى الشهـور إلى مـولـود آذار
وصـاح صـائـحـهـم آذار ذلـلـنـا واسـتأثر المجـد مـبروكا مـن الباري
بالبـحر بالـعالـم المفضـال بالأسد الرئـ بال في صاحـب الـعرزال بـالـمار
فـي صاحب الوحـدة الكـبرى التي ربطت هضـاب سيـناء في أطـلال سنـجار
فصـاحت الشمـس تيها وهي ضاحكة مـا ذاك إلا الزعـيم المنـقـذ الـدار
نـذرت دفـئي ووجـداني لوحـدتـه وضـوء وجـهي واشـعاعي واكبـاري
فـجـاء حكـم ذكـاء قاطـعا ابـدا أعـظم بـجبّـارة تقـضـي لـجـبّار
* * *

قــم حــيّ آذار

قـم حـيّ آذار لا خـوفـا ولا حـذرا وقـل ملكـت الجـمال الطـلق مـحتكرا
وحـيّ مـولـوده مـن راح مـنفـردا يغـالـب الدهـر والاعـصـار والقـدرا
وغـاص فـي لـجج الأحـقاب مخـتبرا يستـخـرج الـحق والأضـواء والـدررا
وأيقـظ الشعـب مـن أعـماق نومتـه لـوحـدة تـمـلأ الأسـماع والبـصـرا
وقـام ينـهـض فـي أعـبـاء أمـتـه حيـث العـمالة فـيـه تـدعـم السـررا
وقـدّم الـروح قربـانـا لـمـوطـنه أكـبـر بـمـا قـدّم الـفادي إليـه قـرا
مضـى إلى الـموت تيّـاها ومبـتسـما يعانـق الـخلـد والـتاريـخ والـظـفرا
وقـال في لهـجـة الـحاني لـقاتـلـه شـكرا لمـن عـصب العيـنين مـعـتذرا
ومـات فـردا ليـحيا فـي ضـمائـرنا شعـبا قـويا أبّـي النـفـس مـزدهـرا
والـمرء شـيء بسيـط عـنـد مبـدأه إذا تعـالـى لـدى الأوطـان وانـتـشرا
وصـار دسـتوره كالـضـوء منبـلـجا وظّـل فـي مـقل الأجـيـال مـنتـصرا
وامـتدّ فـي الأرض مواجـا ومنـطلـقا يرافـق الشـمس والـجوزاء والـقـمرا
مـن قـوله الفـذ أن الأرض مصـهـرة تصـيغ شعـبا علـى اطـلالـها ظـهرا
فإنّ أطـلالنا السـمـراء قـد صـهرت الفـرس والتـرك والـرومـان والتـتـرا
وكـل مـن لم يكـن بالأرض مرتـبطا نـعـدّه جـاهـلا أو ملـحـدا كفـرا
انّ السـعادة فـي ذكـرى سعـادتـنـا ذكـرى الزعـيم الـذي للخـير قد فطرا
يا صـاحب المـجد والعـرزال شـعبك قد شلّـت به قـيـم الأخـلاق فـانفـجرا
أخ يــمـزّق اخــوانــا ووالــدة وأقـرباء لـه يـختـال مـفـتـخـرا
أمّـا المـذاهب أمسـت في عـداوتـها سـكرى تـحفّر في نيـرانـهـا سقـرا
قـد حـوّلوا الأمـّة الـكبرى إلى امـم ضعيـفة ليـس تعـطي الخـبز والثـمرا
وشـعـبها لـعصـابـات مـدمـّرة لم تبـق للـحبّ فـي سـاحاتـنا أثـرا
أضـف عـلى القـوم مـن آلائـي رو حـك والعـزم المـجيد رداء ينسخ الخطرا
لأن صهـيـون بالتـمزيـق صـائـلة وشعـبها لم يـكن فـي الغـير منصـهرا
هـي العـدوّ بلا ذنـب ولا سبــب لكـل شعـب أبـرّ الشـعب أو كـفرا
لا فـرق فـي دينـهم أو عنصـريتهـم مـن يعـبد الله أو مـن يعـبد الشـجرا
ما دام دستـورك الـراقـي بأنـفسـنا سنـسـتردّ بـه مـا جيـشنا خسـرا
وان تركنـاه طـيّ الـدرج منـطـويا سيصـبح الوطـن العـملاق منـدثـرا
لكـنّ حزبـك بالـمرصـاد منتـظـر جيـش العـدى بسـلاح يرهـب البشرا

الاخوان فليفل

الأخـوان فـليـفـل

معظمنا سمع بالأخوين فليفل. إنما القلّة منا، عرف عنهما نشأةً وانتاجاً موسيقياً. عن كتاب "بيروتنا" الذي كنا تحدثنا عنه في مرحلة سابقة، اخترنا التالي:

ولد الأخوان محمد وأحمد سليم فليفل أوائل القرن العشرين في محلة الأشرفية. ختما القرآن الكريم في كتّاب الشيخ مصباح دعبول الكائن في حي آل بيضون قرب جامع الأشرفية. ثم انتقلا إلى مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية فالمدارس السلطانية وحوض الولاية.
منحهما الله تعالى موهبة فنية ورثا جزءاً منها عن والديهما، وتعهداها بالعلم والتدريب والمراس. كان والدهما يتمتع بحس موسيقي فطري وشعور بالكرامة العربية، اشترى سيرة عنترة وطلب من أبنيه قراءتها له إعجاباً منه ببطولات العرب وأمجادهم. وعندما انتقل إلى السكن في محلة البسطة الفوقا، كان يتوجه إلى دكان زين لبيع الألبان في تلك المحلة، ويأخذ معه وعاءً خاصاً، ويقف منتظراً دوره وهو يردد:

لَبنـك لَبنـك يـا لبـان
طيـب لَبنـك يـا لبـان

وكان ديب صبرا، جد محمد وأحمد لأمهما، يتمتع بصوت جميل ويتولى الأذان وفرقة الإنشاد الديني في الجامع العمري الكبير، يصطحب معه حفيده محمد فليفل لحضور حفلة الإنشاد وسماع القصائد.
هذا الإستعداد الفني دفع الشقيقين فليفل إلى دراسة الموسيقى، فتابع محمد دراستها في دار المعلمين التركية، فيما كان أحمد يدرس البيانو والنوتة. وكانا يحضران مع والديهما حفلات موسيقية، كانت تؤديها فرقة موسيقى المتصرفية التي تأتي إلى بيروت، وتعزف في منشية المتحف وفي حديقة رستم باشا بإشراف ضابط إيطالي.
استدعي محمد خلال الحرب الأولى إلى المدرسة الحربية في استانبول، فوجدها فرصة سانحة لمتابعة دراسة الموسيقى في معهد الفنون التركية. فيما كانت فكرة تكوين فرقة موسيقية قد اختمرت في ذهن أحمد في بيروت، الذي كان قد تعرفَّ على عدد من الشباب الملمين بالموسيقى، وما أن عاد محمد من استانبول حتى باشرا بشراء الآلات وأسسا فرقة من ستة وعشرين شاباً، كانا يجمعانهم في حديقة بيتهما في البسطة، يعزفون الأناشيد والألحان الشائعة، ثم أخذت الفرقة تعزف للمدارس والجمعيات وفي الأعياد الشعبية، وعرفت باسم " موسيقى الأفراح الوطنية".
وفي عام 1942، وفي عهد الرئيسين ألفرد نقاش وسامي الصلح، اتصل العميد سليمان نوفل بالأخوين فليفل من أجل تأسيس فرقة موسيقى عسكرية، فصدر المرسوم رقم 6439 تاريخ 1/ 10/ 1942 بتأسيس موسيقى الدرك.
اشتهر الأخوان فليفل بأنهما لحنا أكثر من ألف قصيدة في موضوعات وطنية وقومية واجتماعية وتربوية، لشعراء وأدباء من مختلف أرجاء العالم العربي. مثل الأخطل الصغير(بشارة الخوري) وعمر فروخ وفخري البارودي وجورج غريب وابراهيم طوقان ومحمد يوسف حمود (الأمين في الحزب السوري القومي الاجتماعي) وشبلي الملاط وعمر أبو ريشة وسعيد عقل وعبد الرحيم قليلات وغيرهم.
ولم يفرّقا بين دين وآخر، بل كانا رسل سلام ومحبة وخير للمجتمع، لحنا قصائد بمدح النبي محمد(ص) والمسيح عليه السّلام والعذراء مريم.
تعرَّض الأخوان فليفل إلى معارك عنيفة مع سلطات الإنتداب. فقد وضعا لحناً يتغنّى بالوطن الأكبر، فطردا من وظيفتهما، ثم أعيدا إليها بعد تدخل الشيخ محمد الجسر وجبران التويني والرئيس شارل دباس. وفي سنة 1939 لحّنا نشيد العلى للعرب من نظم الشاعر المصري عبد الحميد زيدان، فهددتهما حكومة الإنتداب بالكف عن تلحين مثل هذه الأناشيد تحت طائلة النفي إلى معتقل المية ومية ورحّلت الشاعر المذكور.
كان أول نشيد لحّناه في العشرينات من نظم مختار التنير:
سـوريـا يـا ذات المـجـد والعـزة فـي ماضـي العـهد
إن كنـت لنـا أهـنى مهـد فـثـراك لنـا أهـنـى لحـد
ولحّنا نشيد الشهداء الذي نظّمه الشاعر الشهيد عمر حمد:
نـحـن أبـنـاء الألـى شـادوا مـجـداً وعـلا
نسـل قحـطـان فأصـلا لـيـس نـرضـى الأسـر
وكان الشاعر عبد الرحيم قليلات من أول من شجع الأخوين فليفل ونظّم لهما عدة قصائد وأناشيد منها نشيد المدارس:
تـعـهـدي دروسـنــا وبـيـضـي طـروسـنـا
وهـذبـي نـفـوسـنـا وروضــي الــبــدن
وأناشيد: المرشدات، ويا حياة المجد، والكشاف.
وعرّفهما عبد الرحيم قليلات على الشاعر ابراهيم طوقان فلحّنا له نشيد موطني:
موطـني الـجـلال والجـمـال والـسناء والـبـهاء فـي ربـاك
والـحيـاة والنـجـاة والهنـاء والــرجـاء فــي هــواك
يــا رعــاك يــا رعــاك
ولحّنا نشيد يا تراب الوطن للأخطل الصغير، ونالا الدرجة الاولى للحن نشيد الشجرة الذي نظّمه الشاعر (الأمين) محمد يوسف حمود وأصبح شائعاً:
جـنـة فـي وطـنـي مـن صـبـاح الـزمـن
تـمـلأ الأرض اخضـراراً والسـمـات افتـراراً
بـالشـجر يتعـالى فـي الـهـوا والثـمـر يـتـلالى كـالضـيا
مـا أحـب الشـجرا
يمنـح الدنـيـا شبـابـاً أخضـرا
وربـيـعـاً أنـورا
وثـمـاراً سـكـرا
وخـيـالاً
وتعرّفا إلى فخري البارودي فلحنا له عدة اناشيد شاعت في العالم العربي كله، منها:
بـلاد العـرب أوطـانـي مـن الشـام لبـغـدان
ومـن نجـد إلـى يـمـن إلـى مصـر فتـطـوان
ونشيد:
أنـت سـوريـا بـلادي أنـت عنـوان الفـخـامة
كـل مـن يأتيـك يومـاً طـعامـاً يلـقـى حمـامـه
كما لحنا للجامعة العربية نشيداً من نظم محمد المجذوب (مصر) اعتمد رسمياً:
أشـرق الفـجر فسـيروا فـي الضـياء ودعـا الـحـق فهـبوا للـنـداء
إنــه وحـي السـمـاء إنــه صــوت الآبـاء
* * *
لم يفز اللحن الذي وضعاه للنشيد الوطني اللبناني، ولكن كان الفوز لهما في تلحين النشيد الوطني السوري (حماة الديار) الذي نظمه خليل مردم بك.
يروى أن نشيدين ولحنين نجحا في التصفية النهائية أمام اللجنة التي تألفت لإختيار النشيد الوطني اللبناني. أولهما جاء فيه:
اسرجوا الخيول، واقرعوا الطبول، واقحموا السهول، واحرسوا الجبل.
من تأليف شاعر لبناني من بلدة شحيم في الشوف، جبل لبنان، هو عبد الحليم الحجار، لحنه فليفل اخوان. والثاني "كلنا للوطن" من تأليف شاعر لبناني من بلدة الباروك في الشوف، جبل لبنان هو رشيد نخلة لحنه وديع صبرا.
استبعد النشيد الأول واعتمد الثاني. وقيل في حينه إن اللجنة، وكان الإنتداب في أول عهده، لم تستمرئ قرع الطبول وإسراج الخيول للدفاع عن الوطن والإحتلال مازال حديثاً، وفضلت النشيد الثاني لأن إيقاعه مشابه، بل يكاد يطابق لحن المارسلياز، نشيد فرنسا الوطني.
* * *
وضع الأخوان فليفل للجيش اللبناني عدة مارشات ومعزوفات للطبول والأبواق والتشريفات والثكنات، حلّت محل الألحان الفرنسية.
ارتبط اسم فليفل بالألحان الوطنية والقومية في لبنان والعالم العربي، منها:

يـا تـراب الـوطـن


يـا تـراب الـوطـن ومـقــام الــجـدود
هـا نـحـن جـيـنا لمـا دُعـينا إلـى الخـلود
* * *
نصـدُّ عـنّا كـل بـاغٍ عـنـيد نفتـح للـمجـد طريقـاً جـديـد
صـفاً فصـفاً لـلعُـلى لا نحيـد ولا نــعــود ، ولا نــعــود
إلا وبـنـد الـحـق فـوق الـبنـود
الـلازمـة: يـا تـراب الـوطـن.....
* * *

الفـخـر فـي بـلادنـا

الفـخر في بـلادنـا والعـزُّ باتحـادنا وعـن ذرى أطـوادنـا والأرز لا تـسلْ
حـبـذا لُبـنـان جنّـَة الخـلـود مـهـبـط الـبـيان تُـربـة الجـدود
يـا بَـنِـي الأوطـان عُـصـْبـةَ الأُسـودْ
إذا دعـا داعـي الحمـى يثير فينـا الهممـا وسـالـت الأرض دمـا وروّع الجبـل
الـلازمــة
أسـرجـوا الخيـول، واقـرعـوا الطبـول واقحموا السهـول واحرسـوا الجبـل

إلا أن ما لم يشر إليه كتاب "بيروتنا" هو أن "الأخوان فليفل" كانا وراء تلحين نشيد "المقاومة" للأمين الشاعر محمد يوسف حمود:
نـشيـد الـمـقـاومـة

للتـراب وللسـما
دمـي وروحـي، فَهُـما
مِـنهُـمـا إليـهِـمَـا
فـي الصـعاب يا شبـاب
من غـيرنا يلـتاع مـن؟ إذا بكـت عين الوطـن!
مقـاومـه! مـقاومـه!
بالـنار لا مـسالمـة!

إنـي فـتى المقـاومـة! لا صـمـت لا مسـاومـه
فـي منـطق القـنابـل! أنـقـضُّ، مــا الـزلازل؟
بـالـحـق، فـالـبركـان بـات اسـمـه لـبـنـان!
يـفـجِّـر الـحـمـم بـالـعـزِّ فـي الـقـمـم!
الــلازمــة
بـطـولــةٌ تـُزغـردُ ومـهـجـةٌ تستـشـهـدُ
عيـنايَ، مـا الصـواعق؟ يــدايَ ، مـا الـبنـادق؟
تُرابُنـا الـغـضـبـان يُـطـاردُ الـطُـغـيـان!
نـيـرانـنـا قســم! فـلـتـشـهد الأمـم!
الــلازمــة
محـرراً مـن الـعـدى ومـوطـنـاً مـوحّـدا!
نـريــده مـنـائـر إطــلالــة الحـرائـر!
آفــاقــنـا أمـان طُـمُـوحُ عُــنْـفُـوان!
وَعِــزُّنـا عَــلَـمْ مُسَــيَّــجٌ بـالــدَّم!

الرفيق الشاعر ابراهيم سمعان

الـرفـيـق الشـاعــر
ابـراهيـم سمـعـان


الرفيق المناضل ابراهيم سمعان المقيم حالياً في لوس أنجلوس، الذي كنا نشرنا عنه سابقاً مؤدياً التحية الحزبية لحضرة نائب رئيس الحزب الأمين توفيق مهنا. شاعر بالفصحى والعامية، أصدر ديواني شعر، الأول " أغنيات الأمل" وقد صدرت الطبعة الثانية معدلة ومزيدة عام 1991، والثاني " خواطر متفرقة" عام 2004.
يقول الرفيق جورج السيقلي في تمهيده لديوان "خواطر متفرقة" بتاريخ 2/ 6/ 2004 ما يلي:
ابراهيم خليل سمعان ( أبو نزيه) من قرية الميه وميه المُشرفة على مدينة صيدا. يعيش الآن في لوس أنجلوس- كاليفورنيا- وقد شارف على التسعين من العمر.
عاش ابراهيم سمعان شباباً حافلاً مليئاً بالتقلبات صعوداً وهبوطاً. مثقف، كثير الإطلاع، غني المعرفة، منطقي المعاطاة، يؤمن بالفكرة سيّداً، مستعدٌ لدخول السجن ( وقد فعل) في سبيل عقيدة يؤمن بها. تغنى بسوريا الكبرى وآمن بها منذ نعومة أظفاره. وافق بين إيمانه المسيحي ومواظبته على القرارات والطقوس الكنسية، وبين انفتاحه الفكري العلماني القومي الإجتماعي، رافضاً أن يكون الإنتماء الديني أو المذهبي فريقاً سياسياً. عاش أكثر سني حياته في بلدته الميه وميه ( "الميوميه" كما يحبّذ لفظها وكتابتها)، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة بعد أن هاجر جميع أولاده إليها (ناديا، نزيه، نصر، نبهان، أنطوانيت، ومنى) وحصل على الجنسية الأميركية.
والديوان هذا هو آخر ما نظم قبل أن يُصيبه طرف فالج (شلل نصفي) أقعده، وانقطع مُدَّاك عن الكتابة، وما يزال.
له ديوان شعر سابق، ومراسلات كثيرة إلى مجلة "مواهب" التي أصدرها الشاعر نجيب بجاني في تورنتو، وإني أستغل هذه المناسبة لأشكر كل من ساهم في إخراج هذا الديوان إلى النور، وأُخص بالذِكر السيدة رولى رعد التي أعطت من وقتها الكثير لطباعته ومراجعته على الكمبيوتر.

من قصائد الديوانين، اخترنا:

لـبـنـان

قـم أيـها المـغـروم بالألـحـان وأنشـد جـمال الكـون فـي لبنـان
انظـر إلى الأطـواد في كـبد السّما فـتـسود نـفـسك روعـة الألـوان
إسمـع خريـر الماء فـوق هضـابه شـاهـد مـلـياً خضـرة الـوديـان
وانظـر إلى الأمـواج تغسل رجـله وتعـانـق الخـلجـان كـالـولـهان
الثّلـج ما بـين الصّـخـور كـأنّه عقـد مـن البّـلـور والـمـرجـان
حبَّـاته فـوق المشـارف كـلّـها مثـل الـلآلـئ فـي ذرى التّـيجـان
لبـنان تجسـيد الـجـمال بعـينه لـبـنـان جـنـة هــذه الأكـوان
لبـنان مــحراب العـبادة والـتقى لبنـان كـنـز الـحـب والإيـمـان
نفـسي فـدى الجـبل الأشّـم وأرزه فـهـو الـمـآل وخـيـرة الأوطـان
أبغـي رضـاه من جـوارح مهجـتي فرضـاه عـندي مـن رضـى الرحمـان

* * *
نـشـيـد أبـنـاء الـحـيـاة

نحـن أحـيـاء خُلـقنـا لـلزّمـن نصـنع التـّاريخ فـي أرقـى السّنـن
نفـتدي الأوطـان مـن كل المـحن نبتغـي الـحـق ولا نرضـى الوهـن
فلنـباه الـكون فـي حبّ الـوطـن
نـحـن شقّـيـنا طـريق الإرتقـاء ورفـضـنا الـذّلّ حـبـّاً بالـبقـاء
نـحن قـوم نرفـض العيـش شقـاء نـخـذل الباطـل في يـوم الـلقـاء
نـكـره البغـضاء دومـاً والفـتن
نـحـن أحـياء وابنـاء الـحـياة نـحن أبطـال وأهـل المـكـرمـات
نحـن قـوم لا نبـالي بـالمـمـات عـندمـا الـواجب يدعـو للـثبـات
فـالـدّما والـرّوح مـن غير ثـمن
قـد تعـاقدنا عـلى أمـر جـلـل ننـشد الإصـلاح في أبـهى الـحـلل
لا نمنـّي النفـس قطـعاً بالـكـسل لا نـخاف الـحرب بل نـأبى الفـشل
نعشـق الأمـجاد لا نـخـشى العلـن
فلـنسر للمـجد بالشـعّب العظـيم نـجعـل الأوطـان رمـزاً لـلـنّعيـم
نضـرب الأخـصام طـرّاً بالصّمـيم نجـتني مـن أرضـنا الـخـير العمـيم
نـمـلأ الأجـواء بالصّـيـت الحـسن
ولـنفـاخـر أنـنـا أرقـى الأمـم نقـذف العـاتي نـاراً مـن حـمـم
نـحن عـلّمنـا مقـاييـس القيـم ألـفت أرواحـنـا أعـلى الشّـيـم
وعبـدنا الـلـه مـن دون الـوثـن
يا بـني للأوطـان هـبّوا مـن رقـاد وانـشروا فـي النّـاس حّـب الإتـحاد
قـد أضـاء النـّور مـن بعـد السّواد ودعـا الداعـي إلـى يـوم الـجـهاد
فانصـبوا الأعـلام فـي أعـلى القـنن
خّـبـروا الأقــوام أنّـا لا نـزال نـقـهـر الأعـداء في يـوم الـنّـزال
نستمـدّ الفـّن خيـراً والـجمـال نتبع التّـاريخ فـي صـنـع الـرجـال
نـجعـل الأوطـان أبـهى مـن عـدن
إنّ الأوطـان حقـاً فـي الوجـود بالـدّما عـن حـقّها الغـالـي نـذود
يفـرح الآبـاء فينـا والـجـدود عنـدما نصبـح في أقـصى الـحـدود
نـدفـع الأعـداء عـن أرض الـوطـن

الـنشــيد الـوطـني اللبنـانـي

"شـرقنـا قلـبه أبـداً لبنـان"


عـلّوا النّشـيد فـقول الـحق يلتـهب منه الـحماس وقـول الـزور إجتـنبـوا
لبـنان قـلب بـهذا الـشرق مـلـتزم لبنـان قـلب لـهذا الشـرق ينـتسـب
حـقَّ تكـرّس فـي التاريخ مـن قـدم أمـر تـكرَّسه الأجـيـال والـحـقب
القـدس والشـام حـول القلب أجنـحة درع يقيـه مـن الأخـطـار أن وثبـوا
ليـس الـجناح عـدو الـقلب في جسد بل للحـماية أن سـادت به الـسحـب
والقـلب لا يرتـضـي تكسـير أجـنحة لا بـل يـثور إذا امتّـدت لهـا النـوب
لا يقـدر القـلب أن يحـيا بـلا جـسد فالـقلب يسقـم بالأطـراف إن عطـبوا
لا يسـلم الـقلب إن شُـلّت جـوانـبه هل يسـلم القـلب والأطـراف تلـتهب
يا منـشديـن بأن الشـرق شـرقـكـم هـل ترتضـون بأن الشّـرق يستـلـب
صهيـون للـشّرق مثل السـوس في خشب والنّـخـر مشتـغـل والنّـار تـقتـرب
صهيـون كـارثـة حـلّت بـمشـرقنا والكـلّ مستـهدف والقـلب مضـطرب
هـل في المفـاهيم قفـذ عـن محـاورها أم إن في عـصرنا التّـاريـخ يـنـقـلب
أضـحى العـدو صـديقاً في مـحافلـكم وابـن البـلاد عـن الأوطـان يغـترب
بئـس الـوقـوع بهذا الكـفر منطـلقـاً بئـس المصـير وبئـس المـوقف الخرب
هـل من مصالحـكم تمـزيق مـشرقـكم هل تسلمـون من الأعـداء إن غـلبـوا
لبنانـكـم في مـهبّ الريـح مـرتـهن والموج عـات وعصـف الريـح والغضب
لا تـهدروا الوقـت فالأحـداث مسـرعة والنّـار في لـهب والشـّر مـرتـقـب
رصّـوا الصفـوف مع الأخـوان في عـجل كـي ينصـروكم وفيـكم ينصر العرب

وجـوب الـصـراع الـفـكري

صـراع النّـار في عـرفي جـريـمة صـراع الفـكـر بيـولّـد عزيـمة
فيـه بتنجـلي علينـا الـحـقيقـة ومنـه بتـخـلق النهـضة العظـيمة
بتـظـهر للـورى أمـور الدقيـقـة عـليـها بتنبـنى الخطّـة الـحكـيمة
فـيهـا بتـنهـض الأمّـة العـريقـة نشيطـة موحّـدة بصـحّة سـليـمة
وأرجـاء الـوطـن تصبـح حـديقـه جـميـله مزيّـنه بـمروج خـضـرا
خلـت منـها النبـاتـات الـذميـمـه
مفـروض نرفـع للوطن فـوق الغمـام ليـكون قـدوّة للـمحـبة والـوئـام
ونبـعد الرجّـعـة الغـبيـّة البـائـدة ونـرفـع شعـارات التقـدّم والنـظام
ما تـكون فيـنا الطـائفـيّة سـائـدة والـروح تفـلت من رباطـات الـظلام
حـتى الأمـور تسـود فيـها الفـائدة ونصـدّ أربـاب التـشَردم والـخـصام
إفـتح حـوار وحـطّ نفسك قـائـده والـحكم عـادل لا يّحـابـي بالمـلام
قـابـل وحـقـقّ بالأمـور العـائـدة بالـخير، لا ترضـى بـمعسول الـكلام
لا تـكتـفي بحـفلات حـول المـائـدة إتبـع طـريـق محـصّـنة بالإنسجـام
وحـطّـم قيـود الشـرّ يـالـلي رايـده تخـلّي وطنّـا مـهزلـة بيـن الأنـام
غـير مـقـبولـة النّفـوس الـحـايـدة لمّـا الصـراع يكـون في أوج الصـّدام
مفـروض فيـنا الـرّوح تبقـى جـائـده بالتضّـحية، تسطـّر ملاحـم للـكرام
نبـعـد بـلـدنا عن شبـاك الصـائـدة للـوطن نُبـدي رفـيـع الإهتـمـام
ونـحارب الـرجـعة الغبيّـة الـوائـدة خيـر الوطـن بالـحقد أو بالإنتـقـام
إن سـادت النهـضة عـرجعـة بـائـدة والصـّراع امـتدّ بالـخطّ الصـحيح
بتمشـي البـلاد بكـل زخـمها للأمـام
سـراجـك ارفـعو فـوق الـمنـارة ركـبّ دينـمـو يـولّـد حـرارة
حـتى النـور يضـوي بـكل موضـع ما يبقـى مـن الظـلام ولا إشـارة
من حـولو الشبـاب بالـوعي يجـمع بـنـور العـقل وتنسـيق الـعـبارة
سـلاح المـعرفـة أقـوى وأنـفـع شعـاعو بيـبهـر النـاس الحـيارى
الشـباب بالوعـي، صوت العقل يسـمع ويـمشي جـاهـد بـحقل الإنـارة
بـمادّي صـالـحة للـناس يطـلـع بزنـدو للـوطن يـبـني العـمـارة
يـمسح كـلّ دمـعه بكـلّ مـدمـع بسيـاسة صـائـبة وحُسـن الإدارة
مُخـرب صـالـح الأوطـان يُقـطـع يُطـرد كـل مـن يُظـهر حقـارة
عـلى روس القـمـم للشّـهم يـرفـع يُلبـس تـاج مـع ثـوب البـرارة
إذا بـتـبقى طـبـول الشـرّ تـقـرع الـحياة بتـكـون في يأس ومـرارة
المـنـازل والـوطـن يُصبـح مـشرّع بـوابو عالـخراب وعـالـخـسارة
يُـبـلـى بـالـجرب والـرّاس أقـرع وعفـونة عيـش في داخـل مغـارة
وإذا نـور الوعـي بـيقـود مـجـمع بـنورو بتنـبنى كـلّ الـحضـارة
حـياتو بتـرتـقـي فـي كـلّ موقـع بيـعـلى مـركـزو بعـزّ وجـدارة
الـشّرور بتـهـرب ومـا عـاد ترجـع رجـال الشـرّ بيـصـيرو غـبـارة
بيـصـلح مـعدنـو بيـصـير مـقلـع مـن الـمرجـان بتـصير الـحجارة
عهـا الصـورة البـديـعة النّور يسـطع عـليها تـنـسدل أشـرف ستـارة
وكـاس النصـر والأمـجـاد نـجـرع ونـمشي للـعلى بـخطوة سـليـمة
وبـخمر الـمعـرفة نصـبح سـكـارى