لـيـلـى.. حـقـيـقـة، وقـصـيـدة
شعر الأمين موسى مطلق ابراهيم
في الأسر، وجد الأمين موسى مطلق ابراهيم، ورفقاؤه، من وقف الى جانبهم، يتفقدهم، يساهم في بلسمة جراحاتهم، ويقدم لهم في ظلمة السجن وغياهبه، وقسوة الجلادين، فسحة من الحب والحنان وضوءاً يصلهم عبر كل حديد السجن وعذاباته.
وكانت ليلى. اليها قدم الأمين موسى مطلق باكورة مؤلفاته "ليلى"، وأهداه لها بقوله:
الى رفقائي،
الذين عرفوا في أيام التجربة القاسية، ليلى.. الانسان، التي نقلت القيم والمناقب من عالم التجريد الى واقع التجسيد، والى كل ليلى في بلادي، اهدي ليلى... الكتاب.
*
المقدمة للأمين عبود عبود (حيدر حاج اسماعيل).
اذا كان الشعر شعوراً، فنحن في هذا الديوان مع قلوبنا ذاتها، التي لم تتوقف تحت سياط الجلد ومطارق الطغيان، بل ظلّت أجراس الحرية في ليل الاستعباد، واذا كان الشعر تعبيراً عن مثال أعلى، فنحن الآن مع عقولنا عينها الجارية وراء غاية الأمة جريان التلال وراء الأنهار البعيدة اللامعة في الأفق.
هذا هو شعر موسى ابراهيم، قلب كبير رفض ان يتحول خشبة تطفو على مستنقع الرجعية، وعقل كبير آمن ان الحق تحقيق، وأن أمته العظيمة هي معنى حياته وعذابه، حتى في سجنه، الذي اراده الطغيان توقيفاً لنضاله الشعبي لم يترك شمس الايمان ولم يغادر ساحة الصراع ولم يركع، بل هبّ يرمي وجه الباطل القبيح برماح الرفض ويضرب الظلم بسيوف المقاومة حتى خرج شعره هذا، جندياً جريح الصوت لكنه غناء هو حناجرنا، وممزق الجسد لكنه روح هي روح الاجيال الصاعدة نحو قمم الحرية والمجد.
يقول:
اذا الـبـغـيُ أضـحـى سـيـداً فـقـيـودُهُ
شـهـودٌ لأحـرار الـنـفّـوس عـدولُ
زَرَعـنـا عـلـى حـرث الـسّـِيـاط بِـذارَنـا
فـمـاجـت بـأخـلاق الـيـقـيـنِ حـقـولُ
لَـهُـمْ لـحـمُـنـا أنـا الـنـفـوسُ فـإنـهـا
لأعـظـم مـن أن تـنـتـهـي وتـزولُ
أما هذه النفس التي فرضت حقيقتها على الوجود وسحقت العدم فهي عنده اليقين والعزيمة القائمة على اليقين بأنّ شعبه لا يقهر، واذا كان للالوهة من معنى عنده فهو في عدم الخضوع وتجدد النضال ونموّ ذلك اليقين،
يقول:
رَبِّ هَـبْ لـي أرقـى بـأجـنـحـة الآلامِ
وأجـعـلْ وجـدانَ شـعـبـي حُـدودي
ثـم زدني صـلابـةً كـي أوالـي
حَـمْـلَ شـعـبـي الـى ضـمـيـرِ الـوجـودِ
تـلـك لـيـلـى صـلاةُ روحٍ حـزيـنٍ
وترانيـــمُ خافـــقٍ في القيــــودِ
كُـلـمـا لانـت الـعـزيـمـة مـنّـي
وتـراخـت تـلـوتـهـا مـن جـديـدِ
أيّ صلاة أحلى وأيّ صلاة أعظم من صلاة الشعراء المناضلين لحق الشعوب وخيرها وتقدمها، وأيّ (ليلى) أجمل من قضايا الأمم يتعذب من أجل انتصارها الأحرار وفي سبيلها يبذلون اليد والقلب واللسان.
هذا هو الشعر الذي نحنُ بصدده: ثورة وصلاة لإنتصار الثورة.
*
من قصائده
الـى لـيـلـى
تـلـوميـنـني أنـيّ مـن الطـيـن هـل بدا
لـعـيـنـيك أنّـي قـد غُلـبـتُ عـلى أمري
وتَـنْـسَـيـنَ أنّـي والـتـرابُ يـشـدّنـي
سَـمَـوتُ كـغصـن الورد يـطـفَحُ بـالعـطر
فـإن كـانَ سـاقـي فـي الـتـرابِ يُسـي بي
فـهـذا عبـيري جـاء يـحـمـله عـذري
ومـا انـتِ إلاّ قـيـمـةٌ تـسـتـحـثّـنـي
فـتخـفـق أشـواقـي بـاجـنحـة الشّـعر
فـيـا بـسـمـةً شـعَّـت بـلـيلِ كـآبـتي
سـيـبقى مـع الأيـام حـبُّـكِ فـي صـدري
وإنَّ يــداً أسـديـتِـها لـي حـفـظـتُـها
وهـا هي تـحيـا فـي الكـتاب مـدى العمـر
إنـه الــذات (*)
قـالـت وقـد هـالَـهـا مـا بـي مـن الألــم
يـا صـاحـبـي عُـدْ بـهـذا الـدّربِ لا تَـهـمِ
قـد صـرتُ بـعـد طـويـل الـسيـر مـتـعـبةٌ
والـدربُ كـم مـزّقـت أشــواكُـهـا قـدمـي
فـأنـظُـر بـعيـنـك حـالـي انـهـا بـلـغت
حـدّ الــشـفـيـر مـن الآلام والـســقــم
كـم مــزّق الـنـابُ لـحمـي دون مـا شـبعٍ
ومـخلبُ الـسّوط هـل أبـقــى عـلـى أدمـي
الـنـاس تـمـشـي دروبـاً غـيـر ذات عـنـاً
وأنـت يـا لـك مــن دربٍ مـشـيـت عـمـي
لا الـجـوعُ كـفّ ولا الـتـسـيـارُ مـنـقَـطعٌ
ولا عــيــونُ جـراحــي إن أنــم تـنــم
يـا ظـالم الـطـبـع رفـقـاً فـي مـعـامـلـتي
تـسـومـنـي بـالـلـظـى إن بـاللـظى تسـم
تـمـضـي الـخـلائقُ نـشـوى فـي مـلا عـبها
وانـت مــاضٍ جـهـيـم الـوجـه لـلـوهـم
إنـيّ كـفـرتُ بـمـا آمـنـت مــن مُـثُــل
وهـا قـعـدت فـسِــرْ إنْ شــئـتَ أو أقـم
هـل جـئـت مـن عـالـم الأصـنـام تـقـتـلني
اليـك أسـفك دمـي يـا عـابـد الـصـنـم
واسـتـعـبـرت مـقـلـتـاها الـدمـع بـاكيـةً
ما كـان قـبـل سـلـوك الـدرب مـن نـعَـمِ
تـلـهـو عـن الـكـون فـي أوحـال مـلـعـبها
وتـسـتـطـيـب الـهـوى الآنـيّ فـي نـهـم
ورحـت أرقــبُ ذاتـي فـي تـلــوّعـهــا
وقـلت يــا ذات لا تـبـكـي وتـحـتـدمـي
بـئــس الـتـعـلّـة مـا عـلـلـتـه ألـمـا
ومـا شــعـرتِ بــه مـا فـاض مـن ألـمـي
ألـم يـرُعـكِ سُــعـارُ الـنـاسُ يـتـهـمـني
حـتـى اذا نـال مـنـك الـضـيـق تـتـهـمني
أيـكـفـر الـراهـب الـرّانـي بـهـيـكـلـه
الـى الـكـمـال ويـولـي الـظّـهـر للـحـكم
أهـيـكـل الـنّسـكِ يـمسـي وكـرَ خـاطـئةٍ
تسـتمـرئُ الـجـهـلَ بـعـد الـعـلم والقسـم
فـويـك راهـبـةً مـا كــان هـيـكــلـها
مـن الـتـراب ولـكـن هـيـكـلـي ودمــي
أنـا الـمسـافـرُ هـذا الـدرب يـحـفـزنـي
الـيـه أنّ حـيـــاة الـمـرء بـالـقـيــم
أحـيـا عـلـى صـدق ايـمـانٍ ومـعـتـقـدٍ
يـشـعُّ إنـســانُــهُ بـالـخـيـر والـكـرم
أحـسُّ بـالـخـمـس مـا لا الـخـمـس تدركه
وأســتـجـيـبُ بـروح الـنّـجـدة الـعـرم
رأيــتُ جـيــلـي والأجـيـالُ تـدفــعــه
فـي سـاحـةِ الـكـون مـن عـدم الـى عـدم
سـمـعـتُ صـرخـة أجـيـالٍ ومـا بـرحـت
فـكـراً مـن الـغيـب لـم تـخـرج الى رحـم
قـد أشـفـقـت أنـّهـا يـنـقـاد مـوكـبـها
لـعـالـمٍ كـالـحِ الـسّـيـمـاء مُـنـهــزمِ
هـذا الـطـريـقُ ونـحـن الشـمـس ضـاربـةٌ
سـهـام أشـعـاعـهـا فـي مـهـجـة الـظُّـلمِ
إنّـا نـمـهّـد لــلأجـيـال فـي غــدهــا
درب الـحـيـاة صريـح الـخـطـوِ فـانـتظـمي
وراحـت الـذاتُ سَــكـرى فـي تـأمّـلـهـا
تُـقـلّـبُ الأمـرَ فـي مـا قـلـت مـن كَـلِـم
حـتـى إذا أيـقـنـت وانـجـابَ جـاذِبُـهـا
الــى الــوراء بـكـت مـن شــدّة الـنّــدم
سِـرْ بـي عـلى الـدرب صاحـت وهـي واثـبـةٌ
طـرْ بـي الـى الـمـثـل الـعـلـيـا الى القـمم
وطـرتُ بــالـذّات والأصــداءُ مُـرجـعَــةٌ
هـذي مـهـادك يـا أجـيـال فـاسـتـلـمــي
في الأسر، عام 1963.
**
تحــدي الشجـــاعة
أورد الأمين الدكتور عبدالله سعاده في مذكراته "أوراق قومية"، المقطع التالي، تحت عنوان "تحدي الشجاعة":
أصيب الرفيق موسى مطلق ابراهيم بمرض في حنجرته، تبين انه سرطان في الحنجرة. ونقلت اليَّ السيدة ليلى.. تفاصيل حالته الصحية من الأطباء في الجامعة الأميركية، الذين وقفوا بين خيارين: أما عملية جراحية راديكالية يخسر معها صوته، ولكنها تخفف خطر عودة السرطان، وإما المعالجة بالأشعة التي تحفظ له صوته، ولكنها تجعل خطر عودة السرطان أكبر. وطَلَبَت اليّ ان نقرر اي اسلوب نتبع.
استدعيت الرفيق موسى مطلق ابراهيم، وشرحت له وضعه الصحي والخيارين المطروحين. فاستمع اليّ دون ان يبدي اي نوع من انواع الانفعال أو التهيّب، وكأنه يستمع الى قصة لا تعنيه وأجابني بأعصاب هادئة الى حد البرودة: " أنت أمين وطبيب وانت أقدر مني على القرار، فأرجوك أن تقرر عني ولك الشكر". فأخبرته انني أفضل الجراحة. فقال: "لتكن الجراحة". وانصرف. فأحسست داخلياً بنوع من التحدي لشجاعته، وتمنيت لو انه ابدى بعض التأثر.
بعد دقائق معدودات عاد اليّ، ففرحت واعتقدت بأني لا بد سأرى عليه الان بعض علامات التأثر. وما ان وصل حتى قال: "ولكن هذه العملية يا دكتور تكلّف مالاً غير قليل، وأنا لا أملك منه شيئاً، فهل يجوز ان يُصرف هذا المال على رفيق مثلي. بينما حاجات الحزب اليه أكثر وأهم؟. لقد أتيت أرجوك ان تصرف النظر عن موضوع معالجتي، وأنا أواجه قدري بأخلاق الرجال"، فأحسست ايضاً انه ردّ لي التحدي في المرة الثانية اكثر منه في الاولى، وفرضتُ عليه اجراء العملية. فأُجريَتْ وكانت ناجحة.
الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق