مـقـدمـة الأمـيـن عـبـد الـلّـه قـبـرصـي
عـن الشاعر نـعـمـان نـصــر (*)
إن نعمان نصر معلمي. وجهني، وأنا بعد في البراعم، الى حب الحق والجمال. كان الحق، في نظري، وصول بلادي الى استقلالها.وكان الجمال شعراً وأدباً.
لم يكن نعمان قد بلغ طور النضج ولا استكمل بناء شخصيته وكيانه الروحي ساعة قصفه الموت، وهو امامنا على منبر التدريس. إلا أنه قد أصاب في الشعر القدح المعلى بالنسبة للطور الذي كان قد بلغه الأدب آنذاك.
إن النقد الأساسي الذي نوجهه الى الانتاج الشعري، في الربع الأول من القرن العشرين، إنه كان انتاجاً مشوشاً، دأبه البكاء على الاطلال، أو التغزل بليلى، ولم نحصل على نتاج ذي قيمة، ولو قيمة محدودة، إلا في الأدب المهجري، الذي تأثر به نعمان نصر، كما تأثر بالثورة الوطنية، التي رافقت مقدم الأمير فيصل الى دمشق, ولكن لم تخل قصائده من مقاطع مربوطة بالادب القديم ربطاً محكماً، مما يدل على أن النبوغ نفسه، النبوغ، الذي من فضائله أن يؤثر ويفعل ويغرس، يخضع لنفوذ التربية الأولى، ونفوذ المدرسة الأدبية السائدة، في تلك الفترة من الزمن.
في (الأمومة) التي فاز فيها نعان نصر على الاقران، ومنهم من كبره سناً وقدراً ونفوذاً، ومنهم من أصبح، فيما بعد، في طليعة الشعراء كالمرحوم فوزي معلوف، استطاع الشاعر أن يتفوق في هذه الناحية على شعراء مثل شوقي ومطران وحافظ، لأنه بحسه وذكائه ومهارته، نبوغه وقوته الابداعية، قدر أن ينظم قصيدة في موضوع واحد، وأن يستمر في وحدته الموضوعية، من سائر نواحي الام، والأمومة، الى النهاية، وأن يختمها بالابيات الرائعة الخالدة:
الـورد تـنـثـره الـريـاح عـواصـفـاً فـيـبـيـد تـحـت مـواطـئ الأقـدام
والمـجـد يفـنـى الأمانـي تـنـقـضـي ويـدُ الـردى تـسـطـو علـى الاجسـام
لـكـن حبـك سـوف يبـقـى خـالـداً يــا أم رغـــم تــواتــر الأيــام
وحدة الموضوع شئ لم نجده في الأدب العربي القديم، وقد تأثر ادبنا القومي بالادب العربي، فما انقذ، حتى قيض له ادباء كجبران ونعيمة وفوزي المعلوف والياس ابي شبكة وسواهم، فراحوا ينبشون الفكر من اعماق النفس، وقد ساعدهم على ذلك تتبعهم الفكر الغربي الذي تأثروا به الى حد بعيد، دون ان يمحو هذا التأثر سجاياهم ومميزاتهم النفسية والعقلية، المميزات التي وهبتهم اياها بيئتنا الممتازة بجمالها وروعتها.
ان قصيدة (الأمومة) في هذه المجموعة هي ام سائر قصائدها، على ما فيها من سذاجة جميلة مؤثرة صادقة حلوة.
ولن انسى، في معرض الحديث عن (اليتيم) التي هي (يتيمة) انها القصيدة الأولى التي حفظتها في حياتي، ورحت ارثي بها معلمي، نعمان، يوم دفنه، في مسقط رأسه، قلحات الكورة.
لا ازال ارى النعمان- ونحن يتيمان- يترنح غبطة وانا القي القصيدة، مترنما على الالقاء الشعري، وهو يصلح لي اخطائي في تؤدة ومحبة. كما لا ازال اراه والدم الاسود فائر من فمه، مسجى في نعشه الوردي، وانا ارددها على مسمع روحه!
ان هذه القصيدة ايضاً من الشعر القصصي. القصة فيها تلخص في كلمتين: يتيم وأمه وحيدان يتضوران جوعاً، تموت الام ثم تنقذ الولد جمعية خيرية. من هذا الموضوع البسيط خلق نعمان قصيدة محكمة الوضع. فيها ما كان يسميه لنا السهل الممتنع. نقرأها فنحفظها غيباً، كانما يفتح لها في ذاكرتك درب مهد، لتستقر فيها، فلا تنغلت. انها من القصائد التي تحبها الذاكرة، والذاكرة حساسة، فهي تفاضل في محفوظاتها بين ابن وابن، وبين بنت وبنت!
واذا بلغنا قصيدة (المسيح على الصليب) رأينا كيف أن نابغتنا- وقد نظم الشعر وارتجله وعلمه وهو في الخامسة عشرة من عمره، بل اصغر- ادرك ان المسيح- الى جانب الاعتقاد به كابن الله ورسول- هو فكرة. انه فكرة. انه فكرة الصلاح والاصلاح والمحبة. وان الجهلة، عبيد طغيانهم، قتلوه رعاية للتقاليد التي كان قد جاء لدكها واقامة بناء جديد على انقاضها، لخير الانسانية وسعادتها.
وهو، وان يكن، كما يستدل من قصيدته، مؤمناً ومتعبداً، إلا أنه عرف اي امثولة يستمد من صلب المسيح حين قال:
إنـمـا الـحــظ فـرصـة وتـفـوت والـمـنـى مـا تحـوكـه العـنـكـبـوت
وهـو الـمـجـد رغـبـة وثـبــوت فـابـلـغـوه مـخـضـبـاً أو فـمـوتـوا
شــهـداء الأمـجـاد فـي سـوريـا
يسوقنا هذا البحث الى التنويه بان أجمل قصائد نعمان، بعد الأمومة هي القصائد التي تعرف (بالوطنيات)، ومنها
(14 تموز) مثلاً وقد جاء فيها:
إن الـشـعـوب وإن تـطـاول ذلّـهــا لا بُـدّ سـاعـيـة لأخـذ الـثـــار
واللـيـل مـهـما اشـتـد ظـل سـواده لا ريـب يـعـقـبـه ضيـاء نـهــار
وقصيدته (ما استقلالنا بالمستحيل) التي جاء فيها:
جـمـيـل أن يـنـاصـرنـا فـريـق مـن الافرنـج فـي الطـلب الـنـبـيـل
ولـكـن أن نـتـمـم كـل شــيء بـأنـفسـنـا لأجـمـل مـن جـمـيـل
إن مثل هذا الشعر الوطني، خصوصاً في عهد نعمان، كان أفضل مربّ لعقول الناشئة، للقلوب الفتية، بان دفعها تتلمس طريقاً لخدمة الوطن، تشعر بوجوده، تهتز لذكر الحرية، تندفع من اجل الحصول عليها.
ان مثل هذا الشعر كان رأسمالاً كبيراً لباعثي النهضة التي نحياها اليوم، والتي تتجلى اكثر، في تهافت الشباب الواعي على الصراع العقائدي، على البحث والتنقيب، وسيكون من نتيجة ذلك، انتصار الفكرة الفضلى، والحق القومي. وان نعمان نصر وامثاله هم (السابقون) بالنسبة لجيلنا الجديد، الذي انتظم ضمن عقيدة قومية شاملة يحارب من اجل انتصارها الى الرمق الاخير.
ان في هذه المجموعة الصغيرة معالجة لكل المواضيع، فمن موضوع الحرية، الى اليتيم، الى الامومة، الى النفس، الى وصف الطبيعة (قصيدة الثلج)، انها قصائد حية، من روح وخيال صافيين، بلغة اشبه بالموسيقى لكثرة ما تتحد والايقاع الموسيقي، واني لأفخر في انها بقلم معلمي، الشاعر الذي مات قبل اوانه، نعمان نصر.
وان الكورة لتفخر انها، بين الفينة والفينة، تزرع في خيال ابنائها اخضرارها وخصبها، وتسبغ على خيالهم صفاءها وجمالها وروعتها، فتبدو في قصائدهم مجسدة تلالاً في روابيها، واوديتها، اخضراراً وصفاء ونعومة، على موسيقى الأسحار الكورانية المليئة بالبهاء والأناشيد!
بالامس شيعت البلاد فؤاد سليمان تلميذ نعمان، وفي كل نتاج من فؤاد شيء من نعمان، شيء من كورتنا الحلوة الحبيبة، شيء من بلادنا التي وقفنا على خدمة قضيتها دمنا، وكل ما نملك!
الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق