الأربعاء، 21 أبريل 2010

فــؤاد ســلـيـمـان اديب مميز من ادباء النهضة

" قضى فؤاد سليمان ولم ير اسمه على كتاب من كتبه . وهو الذي كان قلقاً يريد جمع ما كتب ، في أواخر حياته ". وما جمع وطبع كان بعد وفاته . وتعليل ذلك قول له " لم يحن الوقت بعد لنشر كتاب اضع عليه اسمي . إن الادب تمزقات قلبية تصطرع في أعماق الانسان وتجارب نفسية يمر بها الأديب فيصورها معبراً بذلك عن آمال وأماني المجتمع وأين أنا من كل هذا ".

ولكن اعترافه بعدم بلوغه مرحلة النضج لم يكن سبباً جوهرياً لتخلفه عن تأليف كتاب . أما يوسف الخال فيرد قلة إنتاج فؤاد سليمان : " عاملان جعلا فؤاد سليمان يبخل بالكمية على إجادته بالنوعية : تشدده على ذاته ، وزواجه الباكر الذي شغله في إعالة اسرته . ولو انصرف للأدب لأعطى أكثر مما اعطى قيمة وكمية ، لذلك لم تتح له الفرصة على موهبته وإبداعه أن يكون مرحلة تاريخية ذات اثر عميق في تطور الأدب العربي المعاصر ".

وتركت عصبيته اثراً على نفسه في التأليف فقصر. " أنف أن يحبس قلمه في موضوع فيكب عليه – على قول عبد الله قبرصي – ويصرف الساعات الطوال متأملاً في إخراجه ، في تنسيق مصادره ، في فتحه وإغلاقه ".

ويمكن ترتيب آثار فؤاد سليمان وفق المخطط التالي :

- ما نشر مفرقاً في الصحافة وجمعته " لجنة تخليد ذكراه " بمساعدة أخيه الدكتور موسى سليمان ، وطبع في آثار اربعة : " درب القمر "، " اغاني تموز "، " تمّوزيات "، "، " القناديل الحمراء ".

- ما كتبه من مقالات صحفية وهو محفوظ ولم ينشر ويحتوي على مقطعات نقدية ادبية واجتماعية .

- ما كتبه وضاع : أطروحة عن جبران في معهد الآداب الشرقية .

ونشير الى كتاب زعمت مجلة " الجمهور " أن فؤاد سليمان قرر طبعه عن ميخائيل نعيمه يدرس فيه ادبه ، ويردّ على الانتقادات التي ذكرت عنه حين وضع كتابه عن جبران . وليس ما يؤكّد أن فؤاد سليمان قد ألّف هذا الكتاب .

*

القسم الاول : كتبه المطبوعة

درب القمر : صدر للمرة الأولى عام 1952 (1) وكان اول كتاب يحمل اسم فؤاد سليمان . وضع مقدمته ميخائيل نعيمة وجاء فيها : " وها هو يحيا حياة جديدة في ما اقتنصه قلمه من عميق مشاعره وجميل خواطره ". يقع في حوالي مائة وستين صفحة . يحتوي على إحدى وعشرين قطعة مؤرخة بين 1936 و1951 (2) خمسون صفحة منها : لوحات تستلهم حياة الريف باسلوب شاعري وجداني طابعه التصوير الفني والتفجع على مأساة خراب القرية . وما تبقّى من مقطعات موضوعاتها مختلفة وأسلوبها واحد . محورها السياسة والدين والاجتماع .

وفي " درب القمر " حنين وألم وآراء فكرية وسياسية ونشدان مثالي لعالم جديد وإعادة شعرية مع تعليق لبعض الحوادث التاريخية وأحاديث عن " الميلاد " و" ومحمد " و" دليلة في التوراة " ورواية شعرية لمأساة مي زيادة ، وحوار على لسان الريحاني مع " ملوك العرب في الفريكة " ، ومقطوعة " بعد الخطيئة " التي لخّص فيها حكاية المرأة والرجل ، حكاية الإنسان منذ تكوّن الخليقة .

اغاني تمّوز : وبعد " درب القمر " صدرت له مجموعة قصائد نشرها في مجلات كـ " المعرض " و " المكشوف " و

" الجمهور " بين 1931 و1938 . ظهرت بعنوان : " أغاني تموز " سنة 1953 . ديوان يجمع أربعاً وعشرين قصيدة محورها المرأة والحب ، ويشيع منها الحزن والعذاب واليأس والبوح والذكرى والكآبة السوداوية والتشاؤم والشعور بزوال الشباب والارهاص بالموت . والديوان مهمور بمقدمة للدكتور موسى سليمان .

تموزيات : سبع وستون قطعة نشرت في " النهار " تحت زاوية " صباح الخير " بين سنة 1949 وسنة 1951 . كتب مقدمتها غسان تويني ، احد رفقاء صراعه ، بعد ان اصدرت للمرة الأولى عام 1953 . تبرز في هذا الكتاب موهبة " تمّوز" – وهو الأسم الذي كان يوقّع به مقطعاته – الصحيفة في النقد الاجتماعي اللاذع بما احتوى من موضوعات متنوعة تثير في قؤاد العصبية والاشمئزاز والتحدي عناصر نفسه الواحد في كلّ مقطعاته التمّوزية .

القناديل الحمراء : أو الجزء الثاني من " تمّوزيات ". مجموعة ثانية من مقالات كتبها فؤاد سليمان في " النهار ". تسع وخمسون قطعة هي تتمة لمضمون " تمّوزيات " صدرت مرة واحدة عن دار الحضارة 1963 . كتب مقدمتها أنسي الحاج ، وتناول بصورة مميزة تحليل أسلوب فؤاد سليمان . والكتاب آخر ما حبّره قلم فؤاد سليمان (3) .

*

القسم الثاني : ما كتبه وضاع

دراسة عن جبران (4) : وهي دراسة ذكرها عارفوه ولم تبلغنا ، ويستشفّ بعض مضمونها من اقوال جمعناها وأسئلة طرحناها على من كانت لهم صلة بالمؤلف .

يتحدث جبران جريج عن فؤاد سليمان فترة 1935 – 1936 يقول : " أخذ يستقر في بيروت . أكبّ على دراسته عن جبران. كان يجمع ما تيسّر له من نتف، من رسائل، من مقالات مبعثرة منشورة مستحوذة على كلّ حواسه ومشاعره " (5).

في 9 تموز 1943 يرسل الى نسيم نصر يقول : " أنا منكبّ على جبران . اهيئه اطروحه لمعهد الآداب في اليسوعية " (6).

ويسأله ثلاثة أسئلة حول جبران . ونشرت مجلة " الاجيال الجديدة " (7) جوابي ميخائيل نعيمة وشارل مالك على اسئلة فؤاد حول جبران المتعلقة بتأثره بالأدب الاميركي ، والمقارنة بين جبران وشكسبير ، وغوته ، وحول رأي الحاخام الاميركي فرانكلين الذي يدّعي يهوديّة جبران .

وقد اهلته هذه الدراسة لنيل أول شهادة من الاجازة في اللغة العربية في معهد الآداب الشرقية سنة 1944 كما جاء في ملفّه كمدرّس في الكلية الثانوية .

*

القسم الثالث : من آثاره

وضمن الأعمال الكاملة التي صدرت عن الشركة العالمية للكتاب ، هناك الاعمال التالية :

- يا امتي إلى أين : وهو مجموعة مقالات اجتماعية وسياسية .

- كلمات لاذعة : وهو مجموعة مقالات على نسق كتابه السابق " تمّوزيات ".

- في رحاب النقد : وهو مجموعة مقالات ودراسات ادبية نقدية تندرج ضمن مدرسة النقد الانطباعي الميال الى تحسس القيمة الجمالية والالتزامية للأثر الادبي .

- يوميات ورسائل : وهو كتاب مذكرات وتواصل مع اصدقاء معظمهم ادباء وشعراء وصحافيون .

- فؤاد سليمان بأقلامهم : وهو مجموعة مقالات ودراسات كتبها اصدقاء لفؤاد سليمان ونقّاد وباحثون تناولت كتابات

" تمّوز " من جميع النواحي الأدبية والاجتماعية والثورية والنقدية .

مقالاته وأبحاثه المنشورة في " الجمهور " و" المعرض " و " المكشوف " و" النهضة " " و" كل شيء " و" وصوت المرأة "

و " النهار " ولم تطبع بعد . وهي تقسم الى :

(1) - مقالات اجتماعية نقدية وسياسية .

(2) - مقالات ادبية تبحث في شؤون النقد والأدب والأدباء .

ويورد الرفيق سيمون الديري عناوين لمجموعة كبيرة من المقالات ، نرسلها لمن يرغب من رفقاء واصدقاء .

1- صادف هذا الكتاب رواجاً سريعاً . وترامى الى المهاجر فطلب أحد المهاجرين، يعقوب نقولا يعقوب، إعادة طبعه ، وبعث برسالة من كريستال فواز إلى غسان تويني في 3 تموز 1952 . فطبعت منه على التوالي طبعات اربع . الطبعة الاولى صدرت عن دار الاحد . الطبعة الثانية صدرت عن دار الثقافة 1955 . الطبعة الثالثة صدرت عن دار الحضارة 1962 . الطبعة الرابعة 1971 صدرت عن مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني .

2- معظم هذه المقطعات نشر في مجلة " الجمهور ".

3- استوحى من مؤاساة شقيقته له كلماته الاخيرة : " حكاية الليل الطويل يا قنديلنا الاحمر الصغير ".

" لا تنطفئ ، لا تنطفئ يا قنديل بيتنا الصغير

يا الذي انطفأت النجوم ولم ينطفئ

حكاية الليل الطويل يا قنديلنا الاحمر الصغير ".

4- أما كيف فقدت هذه الدراسة فلا يملك احد معلومات اكيدة . الاستاذ موسى سليمان يشير الى ان فؤاد كان يحملها دائماً . يقرأ منها مقاطع على مسامع تلامذته واصدقائه . وعدت لجنة تخليد ذكراه بايجادها . انفرط عقد اللجنة بعد اعوام .

5- معهد الآداب الشرقية ، بشخص الأب الارو المستشرق تراك ، لا علم له بوجود الدراسة .

6- الدكتور فؤاد افرام البستاني الذي يقول عنه الاستاذ موسى سليمان انه اشرف على دراسة فؤاد على جبران ، ينفي ذلك ولا يتذكر .

وجّهت نداءً في ملحق جريدة " النهار " الى من عرفوا فؤاد سليمان اذا كانوا يملكون بصيص ضوء عن الدراسة . لم يسفر النداء عن فائدة

فــؤاد ســلـيـمـان أديب مميز من أدباء النهضة

بتاريخ 25/02/2010 نشرنا النص الوارد في تعميم لعمدة الثقافة والفنون الجميلة للرفيق لؤي زيتوني ، يتناول فيه

" تحليلاً لأدب الاديب القومي الراحل الرفيق فؤاد سليمان " ، واشرنا الى اننا سنورد أهم ما جاء عن سـيرة الرفيق الاديب ، في الرسالة الجامعية ( الماجستير ) التي اعدها الرفيق الكاتب والاديب سيمون الديري ، ثم صدرت في كتاب عام 2002 عن " فجر النهضة "

هنا القسـم الاول بعنوان " سيرة الرفيق فؤاد سـليمان " وقد اوردناه دون الكثير من الهوامش التي اشار اليها الرفيق سيمون ، لوفرتها .

سـيرتـه

مولده : هو فؤاد بن الشيخ خليل ، بن موسى ، بن جرجس سليمان الحصني . ولد في فيع ، قرية من قرى الكورة الخضراء الأربعين ، تقع على تلة بيضاء التربة ، مشرفة من الشمال والشرق على سهل فسيح من الزيتون واحراج السنديان والكروم ، ومن الغرب والجنوب على شواطئ شكا وانفة ، تكوّن مع بترومين وددّه وبدّبا وعفصديق وقلحات القسم الاسفل من الكورة وتعتبر مع قلحات مدخلاً لدير البلمند .

صادف مولده عام 1911 في الصيف بعد الحصاد قبل عيد مارسمعان الواقع في اول ايلول كما تقول امه العجوز ، مرجحة مولده في يوم من شهر تموز ، أبصر النور في الغرفة الشرقية من البيت القرميدي الريفي المزروع على " بيادر " فيع حيث يسمع الجرس المترنّح في كنيسة مار سمعان المجاورة .

هو صغير العائلة المؤلفة من عفيفة واديل وعفيف وموسى وفؤاد . كان جدّه الشيخ موسى جرجس سليمان شيخ صلح مدة طويلة في بلدته فيع ، وقد نزح اليها من بلدة الحصن في الشام لذلك تعرف العائلة باسم آخر هو عائلة الشيخ خليل سليمان الحصني أو عائلة خليل الشيخ . كان أبوه الشيخ خليل سليمان شيخ صلح في القرية ، بفرمان من الدولة العثمانية أصبح مندوبها الرسمي . وكان خيّالاً فارساً حوّاداً . هاجر الى المكسيك طلباً للرزق ، واستغرقت هجرته الاولى ثلاث سنوات ، وبعد عودته مكث عشر سنوات بنى خلالها بيتاً وأولد عفيف وموسى وفؤاد . وكانت هجرته الثانية قبيل الحرب العالمية الاولى ، طالت قرابة خمسة وثلاثين عاماً ، يمد خلالها العائلة بالمال .

وإلى هجرته يشير فؤاد في " درب القمر " : " أخذه البحر منا في الفترة العنيفة وفي العنفوان الأشد ، وأعاده البحر ذات يوم على غير ما أخذه منا " ولمّا عاد كان فؤاد يزاول التعليم وحرفة الأدب (1).

أما امه فهي كريمة نقولا الحايك من بشمزين . ولدت عام 1874 وماتت في 18 حزيران 1971 . تعهدت الأولاد بحنان بعد سفر ربّ الاسرة .

من هذين الأبوين ، أب يكافح في سبيل لقمة شريفة فيهاجر ، وأم تبذل النفس في تعهد أبنائها بتربية صالحة وحنان جمع عطف الأبوة والأمومة ، ولد سليمان يكرج فوق تربة فيع فيسري عبيرها في دمه وروحه .

طفولته : يقول فؤاد سليمان عن طفولته : " ما زلت حتى اليوم العب في جنباتها مع اتراب مثلي منذ عشرين سنة ، وأمرّغ

وجهي بترابها وأتمدد على اعشابها وأختبئ في معابرها ومنعطفاتها . اراها تتأبط كتابها ورغيفها . مملّعة القميص ، مبعثرة الشعر ، مخدّشة ، مجرّحة ، سفيهة ، وقحة . أنا اراها الآن في هذه الليلة الباردة تحاول أن تنتزع القلم مني لتجلسني بجانب أمي قرب الموقـد الدافئ ، أقفقف على النار ، رأسـي إلى كتف أمي ، اصغي بقلبي وعيني الى حكايات كانون الجميلة ".

عاش طفولته قبل الحرب وبعدها وعانى أهوالها ونكباتها من جوع وتشـرّد وبؤس . كانت طفولته مضطربة وسط الظروف الاجتماعية التي اوجعت طفولته ثم الهبت حنينه اليها من بعد . ولم تكن طفولته مميزة عن طفولة أبناء الريف الملتصقين بخيرات الأرض ومواد الهجرة . ونشـأ فؤاد شـبه يتيم في غياب ابيه تتعهده امّه . وكانت طفولته في فيع ريفيـة خالصة ، يكرج على بيادر الضيعة ويسـرح بين الكروم مرمياً في حضن الطبيعـة والأرض يرتوي من ينابيعهـا ويشـنّف اذنيه بأصوات بلابلها ، تتكيف حياتـه مع الفصول مواقد دافئة وحكايات سـمر في كوانين ولعباً ومرحاً و" تشـيطناً " طفولياً في الربيع والصيف ، يلسـعه البرد وتدفئه الشـمـس وترتوي عينه من جمالات الحياة القروية ، حياة الفلاحين والرعاة .

وتنازعت النشـأة الريفية والظروف الاجتماعية في وجدانـه الطفولي ، في كلامه عن جوع الحرب صدى عذابه وعذاب من نشأ معهم في تلك المرحلة :
" جوع . . اطعمنا في لبنان ، مرة في التاريخ ، لحم الجيف المنتنة في القبور ، من القبور نبشـناها لنشـبع ، وأطعمنا لحوم اطفالنا ، نذبحهم لنأكل ، وأكلنا الديدان من جيف البغال الميتة ، اكلناها يومذاك ، أنا ما ذكرته عهداً إلا وتنشـف دمائي في عروقي ".

دروسـه :

كانت مدرسـة الضيعة الخاصة ، وصاحبها ابراهيم شـاهين ، مدرسته الأولى ، وانتقل بعدها الى مدرسـة دير البلمند عام 1921 – 1922 أيام المطران الكسـندر جحا وكان من اسـاتذته فيها البروفسـور نقولا شـاهين (2) واخوه قسـطنطين وأسـتاذ روسـي .

عاد من مدرسـة دير البلمند الى مدرسـة الصفـا بين فيع وقلحات . مدرسـة أسـسـها الشـاعر نعمان نصر صاحب مجموعـة " شـقائق النعمان " يعاونه الشـاعر سـليمان نصر . وكان من اسـاتذة فؤاد سـليمان في الصفا بالإضافة الى نعمان نصر وسـليمان الأسـتاذ نسـيم نصر . يقول جبران جريج (3) : كان الصف مؤلفاً من : جبران جريج ، ميشـال أسـعد ، أيوب ليّوس ، جرجي ابراهيم عبد الله ، عبد الله قبرصي ، فؤاد سـليمان . وقضى فؤاد في مدرسـة الصفا سـنتين : 1923 – 1925 وفي الفصل الدراسـي الاخير اشـعرنا الاسـتاذ سليمان نصر ان مدرسـة " الصفا " سـتغلق أبوابها نهائياً . وفي الاسـبوع الاخير علمنا أن الاسـتاذين سـليمان ونسيم نصر تعاقدا مع المدرسـة الأرثوذكسـية للصبيان في طرابلـس فاتفقنا أن ننتقل معهما . ويوم انتقل فؤاد الى طرابلس كان قد حصّل دروسـه الابتدائية في مدرسـة الضيعة والبلمند والصفا . مكث فؤاد سليمان في مدرسة الصبيان الارثوذكسية سنة 1925 – 1926 " وقد اعتبرناها سنة تمهيد وتركيز للصف الرابع في معهد الفرير " كما يقول جبران جريج . وكان استاذه للغة العربية نسيم نصر .

انتقل بعدها الى معهد الفرير في بيروت . وظل في المعهد من عام 1927 الى 1931 ليتخرّج منه عام 1932 حاملاً شهادة البكالوريا ، وقد درّسه الادب العربي خلال السنة الاخيرة بطرس البستاني .

وتابع دروسه في معهد الآداب الشرقية سنة 1943 فنال شهادة الدبلوم بناءً عل بحث قدّمه عن جبران .

شخصية فؤاد التلميذ : تفتح ميلـه الأدبي باكراً وفي ذلك يقول عبد الله قبرصي : " درس بعقلية الأديب ، الشـاعر ، العصبي . لم تكن تهمّه الرياضيات ولا باقي المواد . كان يدرسـها لينجح في الامتحانات بلا رغبة وبلا جلد . أما الادب فقد اسـتهواه منذ ابعد سـني طفولته . وعلى شـرفة بيتهم مثلت مسـرحية " الآباء والبنون " لنعيمه ، وكان من ابطالها فؤاد رغم أنه لم يكن قد تجاوز الثانية عشـرة من عمره . كان يمثل دور فتاة " ولم تكن حياة فؤاد المدرسـية لامعة إلا في الإنشـاء العربي والخطابة . كان دائماً في الطليعة ".

ويزكي قول الاسـتاذ قبرصي زميل آخر لفؤاد هو جبران جريج فيقول : " كان يدرس الرياضيات لأنها واجب " . أما اسـتاذه نسـيم نصر فيكشـف عن ذكائه وقلة دأبه واجتهاده : " عرفته مبكراً في نباهته غير ملحّ على الشـدة في التحصيل ، فكأنه كان يريد أن يكتفي بما يتعلمه من أصول تسـاعده لجعل البيان عن معرفته وافياً بأدائها صحيحاً . كان رفاقه يدرسـون دائبين ولكن هو على قلّة ما يدرس متنبّه الرأي مسـتيقظ التفكير ". ويعلل الأسـتاذ نسـيم نصر سـبب تقصيره : " السـلحفاة لم تسـبق الارنب إلا مرة واحدة وذلك في خيال لافونتين . وهو يقصد أن صاحب الموهبة هو السـبّاق مهما حصّل أصحاب الشـهادات ".

في معترك الحياة

حبّه – زواجه : باكراً جداً أحبّ فؤاد سـليمان وخفق قلبـه على درب القمر في فيع . أحب التي اصبحت فيما بعد رفيقـة حياتـه جوزفين خوري ابنة عمته وابنة الأكسـرخوس غفرائيل جبور كاهن فيع آنذاك . كان حبّه ريفياً شـاعرياً فمنحـه روحه وأعصابه وحافظ على براءته وكتب فيه القصائد والمقطعات . يقول جبران جريج : " في السـنوات الثلاث 1927 – 1930 ( بين السـادسـة عشـر من عمره والعشـرين ) وهي بعض من الفترة التي عشـق فيها والتي كانت بالنسـبة لنا سـنوات مراهقة ، ما تحدثنا يوماً بموضوع الجنـس ، مع أننا كنا نتبادل المعلومات الكثيرة عن غزلياتنا الافلاطونية العذرية ، وما كان للجنـس أية علاقة بالغزل ".

وانتهى حبّـه الريفي الى الزواج ، ولكن التقاليـد الطقوسـيّة وقفـت حاجزاً بادئ الامر دون إتمام زواجه . تقول السـيدة زوجته :

" منعنا من الزواج لأن تقاليد الطائفة الارثوذكسـية تقتضي بأن لا يتزوج الانسـان من ابنة عمته ". ومن جراء ذلك وعناده سـجّل فؤاد سـليمان موقفاً بين الانتحار والشـجاعة . ورد على لسـان عبد قبرصي رفيق ذكرياته : " الجميع كانوا ينظرون إلى الحبيبين مجالاً لإنشـاء عائلة طيبة منسـجمة ، ولكن الجميع لا يرضون عن هذا الزواج لأنه خروج عن قواعد الدين ". كانت ضربة أولى صوّبها فؤاد سـليمان إلى الذين أرادوا أن يضحّوا به وبحبيبته عن حسـن نية أنه اطلق يوماً من الايام النار على جنبه من مسـدس صغير ، لقد هزَّ بهذه المحاولة قلوب القرية ، فتراخت الأعصاب ولانت الارادات وتظاهر الكل بالقبول ، وصفت الدنيا أياماً للحبيبين .

قدر فؤاد سـليمان بموقفه المغامر أن يحرر ذاته فتزوج ابنة عمته جوزفين ، من فتيات الكورة الراقيات ، خريجة مدارس طرابلـس الأرثوذكسـية ، وتم قرانهما في أيار عام 1941 وفؤاد في الثلاثين .

فؤاد الزوج والأب : اختصرت زوجته حياتهما قائلة : " كان زوجاً مثالياً يحب الحياة العائلية ، وكان بيتنا ملتقى أصدقاء وادباء كثر ". وكلمتها بعد دفنه ، والناس يحاولون العودة بها الى المنزل ، تعبّر عن اواصر الالفة التي كانت تجمعهما : الى أين اعود ؟ الى البيت ؟ لقد كان فؤاد بيتي .

انجب ثلاثة : ربيع (5) ، وليد(6) ، وسـام (7) . ويوم توفي كان ربيع يبلغ من العمر تسـع سـنوات ووليد ثماني سـنوات ووسـام خمـس سـنوات .

غمرهم وهو حيّ بحنان ، وأصر على أن يرتووا من طفولتهم .

وفي سـجلّ الولادة البيتي كلمة بخط يده موجهة الى ابنه ربيع حين ولادته عام 1942 : " عشـت ربيعاً ناضراً يا بنيّ ، لقلبي وقلب امك التي احبهـا كثيراً ولهـذا البيت الذي يسـتقبلك بلهفة وحنان ولهذه الدنيا كلهـا . ها شـبابي وشـباب امك المخلصة يعيشـان في شـبابك انت ولأيامك كلها ولسـعادتك وها أنت طيب من حب حملته أنا وأمك في قلبينا زمنـاً طويلاً فكنت الثمرة اليانعة والأمل الطري والربيع الحلو الإلهي . لتحرسـك قلوبنـا يا بني وليحرسـك الله .

وفي بيته مجموعة من الصور الفوتوغرافية تبرزه يلعب مع اولاده ، وفي حضن الطبيعة يعربشون على ظهره فيحني رأسه لهم وهو الذي قال مرة لصديقه الأديب الياس زخريا : " نحني رأسنا لأولادنا في صغرهم كي يعرفوا معنى شموخ الرأس عندما يكبرون .

لقد حرم فؤاد وهو صغير من عطف الاب المهاجر فمال لأن يعوّض لأولاده ما حرمه ، وعرف الاستقرار النسبي بعد زواجه . يقول جبران جريج : " انتقل الى منزل جديد في بيروت . كان مرتاحاً نفسياً . كان يحدثني عن افكار تزدحم في مخيلته . وبدأ يفكر في توسيع دائرة نشاطه الأدبي في التحرير " .

شـخصيته : كان نحيف البنية ، متوسـط القامة ، كسـتنائي الشـعر ضارباً الى صهب ، ووجهه بلون شـعره ، عيناه صغيرتان تقدحان حياة ، وجبهته عالية ، أنفه ميّـال الى الطول قليلاً ، ووجهه الضامر يوحي بالعصبية ، والطيبة ، وعليه شـحوب . يترك شـعره منفوشـاً ، وربطة عنقه مرخية إحمالاً . متحرر من قيود اللباس فلم يتأنّق ، ويرتّب هندامه على بسـاطة لا تخلو من الإهمال . كان عصبي المزاج " ذا حسـاسـية دقيقة وعصبية ثائرة ، وقد عرف فؤاد عصبياً الى درجة الكفر وحسـاسـاً الى درجة الإغراب . عاش لعاطفتـه على حسـاب اعصابـه ".

وكان الى جانب عصبيته طيب القلب ، وديعاً قروي الطباع ، سـريع الانتفاض ، سـريع الهدوء . وفي حسـن طويته يقول الشـاعر خليل حاوي أنه تخاصم مع فؤاد ومضى زمن ، واتفـق أن رأى خليـل حاوي يمـر في الشـارع مشـيحاًَ بوجهه عنه ، فاقترب منه فؤاد وقال : " بعدك زعلان يا خليل ؟ لا شـيء يسـتحق الزعل ".

وكانت أخلاقه مرحة أحياناً فإذا ضحك ، ضحك من قلبه ، واذا تطرّف جاءت نكتته لاذعة . يقول جبران جريج : " سأل الاستاذ في الصف قال : " هل يعرف أحد منكم شخصاً كان يتقاضى على كل كلمة يقولها أو يكتبها أكثر مما كان يتقاضى عليها الكاتب الفرنسي الذائع الصيت الكسندر ديماس ؟ " فكان الجواب من فؤاد : " نعم . نائبنا الكريم في الكورة فهو لا يفوه بأية كلمة ويقبض ما يقبض ".

ويروي الفرد خوري عن فؤاد السـاخر : " كنت اجلـس وإياه في الليوان في بيتـه . وقف فجأة . رأى جبر جوهر (8) وهو يشـبه فؤاد نحافة وقامة . قال لي ضاحكاً : " انظر الى الشـحص الذي يمر هناك هو إما أنا وإما جبـر جوهر ".

وأخبرني عبد الله قبرصي عن حادثة يعرفها أهل فيع " تبنى اخصام آل سـليمان فتىً شـرسـاً للاعتداء عليهـم . يوم احد حضر ثملاً الى البيادر وراح يشـتم آل سـليمان . سـمعه فؤاد ، نزل بجرأة نادرة لمجابهته أعزلاً . الاول بطّاش مسـلّح ، والثاني شـاعر ما غازل الرصاص ولا البارودة رغم أنه أول من أهداني مسـدسـاً في حياتي . واسـتطاع اللسـان والقلب الشـجاع ان يقهر السـلاح الثمل . القى الفتى سـلاحه وعانق فؤاداً واعتـذر ".

وقد جمع الى الشـجاعة الوفاء ، وكان عظيم الحفاظ على الجميل ، حميم الصداقة طيب المعشـر ، يقول جبران جريج أنه كان يشـجع زملاءه على إقامة نصب تذكاري لأسـتاذه نعمان نصر .

روى لي نسـيم نصر اسـتاذه انه زاره حين مرضه . قام بنفسـه يهيئ القهوة . " ابيت عليه ان يفعل خوفاً على صحته ، قال لي بالحرف : " إن هذا العمل الواجب انجع في نفسـي من تناول جرعة الدواء ".

وفـوق ما في أخلاقه من نبل كان واثقاً من نفسـه حتى العنجهيـة ، عنجهيـة وديعـة . يقول جبران حايك (9) :

" كتبـت مقالاً في " النهار " أعجب به فؤاد . قال لي : " بهنيـك ما حدا بيقدر يكتب هالمقـال إلا فؤاد سـليمان ". كان ذلك سـنة 1949 .

كان يكره التعصب الطائفي على ممارسـة الفرائض ، وعلى صادق ايمانه المسـيحي . يقول شـقيقه الدكتور موسـى سـليمان في مقدمة " أغاني تموز " : " كنت برعماً لم تتفتـح اكمامك بعد عندما كنا نجتمع في ليالينـا الباردة ، حول مواقد النار ، في القرية الحبيبة ، وحولك العشـرات وأنت بينهم عاصفة ثائرة ، باليمين إنجيل النصارى ، وباليسـار قرآن المسـلمين ".

وتنم مواطنيته عن ضمير حيّ يحمل آلام الشـعب ويدافع عنـه بجرأة . يروي أهل فيع أن نائب الكورة عام 1947 ميشـال مفرّج دعا الى اجتماع في اوتيل النورماندي يواجه فيه المشـتغلين في حقل السـياسـة الكورانية . كان فؤاد سـليمان حاضراً . أزمة العطـش في اذهان الناس . وقف مجابهـاً وقال : " إن الحمير في الجنوب تشـرب وأبناء الكورة عطاش الى الماء "

أما في حياته اليومية " فكان يميل الى المطالعة هواية رئيسـية ، ويصيد العصافير ، ويهمل صحته بالإكثار من شـرب القهوة والدخان ، ودخانه المفضل " يانانجه " يكتب على قفا علبه بعض مقالاته في المقهى وفي الترامواي وفي السـيارة ".

*

1- كان لهذه الغربة الطويلة أثر كبير على نشأة الطفل فؤاد . فقامت بينه وبين والده – كما يقول الدكتور موسى شقيقه – مراسلات عن الهجرة ووجوب رجوع المهاجرين إلى الأمة. وفي تفجعه على خراب القرية بسبب هجرة ابنائها بعض أثر لذلك كما سنرى.

2- المسؤول عن الرصد الجوي يوم اعداد الاطروحة.

3- مخطوطته: " فؤاد سليمان رفيق صبا رفيق صراع " كتبها وهو سجين إثر المحاولة الانقلابية القومية الاجتماعية . بدأها في 18/10/1967 وانهاها في 10 آذار 1968.

4- تسمى في فيع درب العويني. يقع بيت حبيبته فوقها . وعنه حكى في كتابه " درب القمر " .

5- طبيب في الجامعة الامركية . ( حالياً في شيكاغو )

6- ماجستير في الاقتصاد يعمل في حقل البترول .

7- ماجستير في العلوم السياسية . كان مدرّساً في الكلية الثانوية من الجامعة الاميركية ، ويقيم الآن في لندن .

8- صحافي طرابلسي كان صاحب جريدة " الرائد " .

9- صاحب جريدة " لسان الحال " : من حديث في كانون الثاني 1971 .

*

ملاحظة:

كانت العمدة عممت عن الشاعر نعمان نصر بتاريخ 22/01/2010

وعن الشاعر سليمان نصر في 30/01/2010

لمن لم يصله ذلك ، الاتصال بنا فنؤمن ما سبق وعممناه .

الشاعر الكفيف حنا نقولا سعادة

جاء في جريدة "الانوار"، تاريخ 29/03/2010 أن جامعة سيدة اللويزة، برسا – الكورة، كرمت بالتعاون مع الحركة الاجتماعية اللبنانية، وبرعاية وزير الاعلام الدكتور طارق متري، مجموعة من أدباء الكورة الراحلين، منهم الرفيق فؤاد سليمان، الشاعر الراحل حنا سعادة (تكلمت عنه ابنته الدكتورة مي)، الامين عبدالله قبرصي، والدكتور علي شلق.

عن الشاعر حنا سعادة كان أعد الامين لبيب ناصيف النبذة التالية للنشر في وقت لاحق. فصدف أن اطلع في "الانوار" على الخبر الذي أوردنا موجزاً عنه اعلاه.

لذلك مع الخبر عن التكريم الذي تمّ، نعمم ما يفيد معرفته عن الشاعر حنا نقولا سعادة.

*

غـريـب مـا يُـرى

هو عنوان قصيدة للشاعر حنا نقولا سعاده، اختارته وحيدته الدكتورة ميّ سعاده ليكون عنواناً للديوان الذي جمعت فيه اشعار والدها " معرّي اميون " كما كان يُدعي .

تقول الدكتورة ميّ في مقدمة الديوان:

يا ابا ميّ

هذا هو " غريب ما يُرى " ضمةٌ من ديوانك انتقيتها . بعد ان مرت الايام . وتوالت الاعوام !

لقد تاخرت كثيراً في ابرازها . فقصرت ولا عذر . فانتظر مقدروك وتلامذتك عمرا . فإن حكمتَ عليَ فأنت أقدر ! وان صفحت عني فأنت أجدر !

رفقاً بي ! فلي اسبابٌ مخففة . أطفال أربعة . استنزفوا مني الشباب . حتى اصبحوا شباباً ! وطبٌ أنانيّ يستأثر ويستأسر ! ويتحكم ويستحكم ! طالما حلمت بطلاقه لأعاشر الشعر . فلم يعطني طلاقاً ولا هجراً ! وشؤون وشجون اخرى . أسرّها اليك متى التقينا !

على انني ما سلوتك يوماً – يشهد عليَّ الله – رغم هجرك الطويل الطويل ! فأنت لما تزل في قلبي صديقاً حيّاً ! وفي عقلي وحياً وفي عينيَّ حلماً ! وفي اذنيَّ نغماً ! وفي فمي شهداً !

فيا رائد المدارس الوطنية . ويا رافع لواء اللغة العربية ! ويا ايها الداعي الى الوحدة والآخاء . والمحبة والصفاء . اسمح لي ان اهدي هذا الديوان لتلاميذك الاوفياء ! الذين اقاموا لك التمثال ! عرفاناً واجلالاً ! !

*

لعل ما كتبه الاديب الكبير في الارجنتين خليل نبوت عن الشاعر الكفيف ، يلقي الضوء على انسان وشاعر كان له حضوره الآسر بلاغةً وشاعرية وتجسيداً للفضائل .

هذا ما نجده في مقدمة " غريب ما يُرى "

وشاء ربك تعزيز اميون – بلد العزائم الملتهبة والهمم الشماء والمروءة المتحفزة – فاصطفاها مهبطاً لعجيبة الدهر ومعجزة القرن العشرين . واختارها مسقطاً لرأس علم من اعلام الضاد . وناشري لوائها الفضفاض . اللغوي النابغ . والشاعر الملهم حنا نقولا سعاده المعروف بالمقدسي .

ولد هذا الشاعر عام 1884 من ابوين فاضلين . ولم يعرف امه التي قضت نحبها بعد ولادته ببضع ساعات . فارضعته مدة احدى نساء الجوار . وراحت تهز سريره يدٌ مأجورة . يد غير يد الام الطاهرة . وقبل ان يُكمل سنته الاولى اصاب عيني الحديث اللطيم داء الرمد . واشتدَّ عليه حتى ذهب بنورهما منتزعاً الحياة من تينك المقلتين الدعجاوين . وموشحاً ذلك السرير الخشن بطبقات من الظلمات .

وتعاقبت الاعوام على الضرير الطفل . فترعرع ونما تحت رعاية شقيقته الصغيرة مريم في كنف والده الشيخ الذي كان من أشد الناس تزهداً وتقية . واسبقهم الى الكنائس فكان يستصحب فتاه الى الدير المجاور – مار جرجس – وكان المترددون على الدير يتوددون الى ذلك الفتى الورع الذي كان يُرى دائماً منتصباً في احدى زوايا البيعة جامداً في مكانه كأنه تمثال نحتته يد الايمان العميق والخشوع الصادق . ولم يطل الأمد حتى غدت حافظته المتوقدة وذهنه الحاد يعيان معظم الصلوات الكنائسية التي كان يرددها عند مسيس الحاجة . كما لوكان يتلوها في كتاب مفتوح دون ان تفوته كلمة او يسهو عن عبارة بصوت جهوري رنان . كأني به يودّ ان تنفذ معانيها الى كل صدر . وترسخ حكمها في كل اذن . ويحتضن جلالها كل قلب .

وكان وقتئذ الاكسر خوس جرجس العازار كاهناً لكنيسته مار جرجس فلمس في الكفيف الصغير فطنة عجيبة ونباهة دقيقة . فطفق يتعهده بعطفه . لم يتوقف بتشجيعه عند حد الالحاح عليه بزيارته . واستصحابه الى منزله الذي كان مجلساً يؤمه نخبة من وجهاء الكورة . بل استعمل ما له من النفوذ على الاستاذ اسحق شحاده اول مدير لأول مدرسة تأسست في اميون تحت رعاية الجمعية الخيرية الروسية الفلسطينية . فسُمح له بالجلوس على مقاعد الدرس . وسماع ما كان يلقيه الاساتذة من الشروح والدروس . ولكن ما عتمّ ان طُلب من التلميذ حنا ان يتقيد بجميع نظامات المدرسة وقوانينها . – وأنى لضرير مثله ان يتقيد بها ؟ - فأرغم على ترك المدرسة يتنازعه اليأس والامل . فكان له في قسوة استاذه حافز على الدرس والاستفادة والتنقيب والتحصيل .

وكان دليله ورفيقه المرحوم نقولا النحيلي ثم نسيبه الشاب اسكندر نصار وأتاه يوماً صديقه الاسكندر ببشارة استلامه كتاباً غريباً في بابه . لا يشابه في شيء التعليم المسيحي ومدارج القراءة ومجامع الادب التي كانت تُدرس في المدرسة الروسية . فهشَّ لهذه البشرى وبشَّ وحالاً تأبط ساعده منطلقاً واياه الى منزله . يُلح عليه في استتلاء شيء من الكتاب الجديد . واذا بالكتاب " بحث المطالب " لمؤلفه المطران جرمانوس فرحات . ومنذ تلك الساعة شرع الفتيان المحصلان بدراسة قواعد الصرف والنحو . فكان اسكندر يقرأ ويراجع وحنا صائخاً باسماعه يفسر لرفيقه ما يقرأ . وراحت بصيرته ترسم بين ثنايا دماغه الكلمة تلو الكلمة . والمطلب تلو المطلب . حتى أَتيا على آخر الكتاب . وكان كلما التقى برفاقه تلاميذ المدرسة الروسية يلقي عليهم الاسئلة الصرفية والنحوية . فيعجزون عن الاجابة . فيفسرها ويشرحها لهم فيعجبون كيف هبط الصرف والنحو على رفيقهم الضرير تلميذ نفسه . وكان اعجاب رفاقه مشجعاً له على متابعة الدرس . والتفتيش عن الكتب والحصول عليها .

وعقد النية على السفر الى اميركا مع رفيق له . فلما وصلا الى مرسيليا رفض موظفو دائرة المهاجرة التعليم على جواز الفتى الضرير . فقفل عائداً الى بلدته كاسف البال دامي القلب لضياع امانيه المعقودة على اغترابه . وكان من توالي الارزاء . وتكاثف المصائب والمحن على ضيم الشاب حنا صاقلاً لشعوره الحساس ودافعاً لقريحته الوقادة وحافزاً لعبقريته الفياضة . فأخذ يقرض الشعر بين مديح ورثاء . وهو بالكاد يعرف الاوزان الشعرية . ويُلقي بين الحين والآخر في الكنائس عظاتٍ قيمات ، كانت تملأ صدور الناس روعة وسحراً واعجاباً . فطارت شهرته في انحاء الكورة . وتناقلت اخباره المدن اللبنانية . فتهافت عليه طلبة العلوم العالية في المدارس والكليات الاجنبية يأخذون عنه علوم اللغة العربية اثناء العطلات الصيفية . ولقد عرفت من هؤلاء الكثيرين ممن هم اليوم اطباء وقضاة ومحامون وادباء لامعون.

وكانت آنئذ المدرستان الروسيتان – الواحدة للاناث والاخرى للذكور – في اوج النضارة والازدهار. وكانت مديرة مدرسة الاناث الآنسة ملكة مبارك من خيرة آنسات بيروت أدباً وذكاءً وتهذيباً. فدفعها حبها للغة الانبياء والمرسلين على التوسع في اللغة العربية والتضلع من دقائق اصولها. فاقبلت – مع ثلاثة من معلمات مدرستها – على ابن بلدتها الاستاذ الكفيف. ياخذن عنه ويدرسن عليه. وشاءت حكمة الله ان يحب الاستاذ تلميذته المديرة. أحبّ فيها القلب الكبير والنفس الابية والعقل الرزين. فبادلته الحب الصحيح وراح الهوى يهيمن على عواطفهما ويتغلغل في شغاف قلبيهما وكان زواجهما الميمون في أواخر 1905. وكان من حظ الشـباب الاميوني هذا القران. اذ انه لم يطل الامد حتى أسَّـسا اول مدرسـة رسـمية أسـمياها المدرسة الوطنية. وكانت وطنية بكل ما في هذه الكلمة من المعاني والاغراض. جمعت على مقاعدها بين الجنسين " الخشن واللطيف " لاول مرة في تاريخ المدارس العربية القحة. ووسّع الله على الاستاذ رزقة فاقبل طلاب العلم على مدرسته من كل صوب وحدب. من اميون والقرى المجاورة حتى بلغ عددهم ما ينوف على المئة والخمسين طالباً وطالبة بين عام 1908 و1912.

ولبث الاستاذان الكريمان منعكفين على القيام بمهمتهما النبيلة يهذبان ما نشز من نفوس الشباب ويصقلان ما خشن من طباعهم حتى دوى المدفع في الانحاء الاوروبية وانطلق الموت الاحمر فتضاءل عدد الطلبة فارغما على قفل ابواب المدرسة والاكتفاء بتلقين الدروس للفئة القليلة في بيتهما الخاص. ولكن الله ابى ضيم تينك النفسين الحساستين وسحق ذينك القلبين الكبيرين فأنعمَ عليهما بطفلة بعد عقر طويل. وأتت ميّ الصغيرة لتملأ حنايا ضلوع ابويها تعزية وغبطة واستئناساً وجنبات ذلك البيت الكريم عويلاً مستحباً وبهجة وهاجة. وراح الأب الكفيف يتلمس وجه طفلته ويضم الى صدره جسمها اللدن مردداً " يا مي يا مي انتِ نور عيني ". هذه الاغنية تُجسمُ اللوعة المغلفة قلبه لحرمانه رؤية وجه وحيدته. وتُصورُ أماني روحه المعقودة على مستقبل فتاته. فلقد اصبحت ميّ طبيبة كما ارادها ان تكون. ولو لم يرها – فلقد قضى وهي تلميذة في الصف الطبي الاول في الجامعة الاميركية -.

ولما تصرمت اعوام الهول والبلاء. وانقشعت الغمامة الحمراء. عادت المدرسة الوطنية لتشغل الفراغ الذي تركه تسكيرها. ولكن لم يطل الامد على افتتاحها فعينه الحبر الكسندرس طحان أستاذاً للغة العربية في مدرسة الروم الارثوذكسية في طرابلس. فتجلت آنئذ مواهب الكفيف باجلى مظاهرها وتبوأ بين رجال الضاد وعلمائها المكانة التي يستحقها علمه ونبوغه وجهاده. وما برح مثابراً على القيام بمهمته التثقيفية بهمة لا تعرف الكلل وعزيمة لا يدانيها الملل الى ان قبض

الى رحمته تعالى نهار الخميس في 14 تشرين الثاني 1935 وله من العمر 51 سنة ففي ذمة الله وفي ذمة العروبة وفي ذمة تلاميذه جهاده الخالد وذكره الازلي.

اخلاقه: لقد كان رحمه الله تقيَّ السيرة طاهر السريرة، واسع الصدر، كريماً محباً صفوحاً. لا يحقد ولا ينتقم. قويَّ الحجة، حاضر البرهان صريح القول، أبيّ النفس لم يتدن لمداهنة وجيه او ممالقة كبير.

أما وأنا مدين له بالتلمذة والعطف الخاص الذي كان يحتضنني به ولقد رفعني – رفعه الله الى جنان خلده – فجعلني كاتبه ورفيقه واقرب المقربين اليه، وقدمني على سائر الطلبة. اما وانا صنيعة ادبه وغيرته، فانني لا ازال – ما جرى الدم في عروقي – اعترف وأذكر منته عليَّ. وان انسى لا انسى يوم كنت اجلس فيه لديه. انسخ ما يمليه عليَّ من الخطب والقصائد، دون أن يخمد له فكر، أو يأخذه عياء.

شعره: متين التركيب، دقيق الوصف، منسجم اللفظ. وهو بين التقليد والتجديد لا يعيبه في تقليده تعقيد، ولا يضيره في تجديده غريب. نسخ فيه على منوال غيره فاجاد وتمشى على غرار من تقدمه دون ان يتعمّد المبالغات، او يتطلب فخامة الالفاظ وضخامتها، وقرقعة القوافي وجلبتها. ففي تعبيره جزالة وفي جزالته فن وفي فنه متانة وسحر.

*

مـن شـعره:

كيـف أحيـا ؟

كيـف احيـا وهل لغيـري الخلـودُ شــاءه اللـهُ والوجـودُ وجـودُ

لغـةُ الوحـي والـنـبـي وعـنـه قمـتُ اروي حديـثـه وأفـيـدُ !

وجـمعتُ الأجنـاس مـن كل ديـنٍ فتـلاشـى بـي الخـلافُ الـمبيد

وتـآخى الاسـلامُ بـي والنصـارى مـعَ بعـد اتفـاقهـم واليـهـود !

فسـبـيل الحيـوة منـي قـريـبُ وطـريـق الـممات عنـي بعيـد

كـم تصرفـتُ والحـوادثُ تـتـرى وليـالي الـزمان بـيـضٌ وسـودُ

مـا عـرى هـمتي وعـزمي جـمودُ انـما قـد عرى بنـيَّ الـجـمودُ !

وكلـونـي الـى الاجـانـب حتـى نـال ناري بعـد الشـبوب خـمود

وغـدا الاجنبـيُ مـالـكَ فضـلـي انّ هـذا مـن أمـتـي لـجـحود

أيـن شـادوا لي الـمدارس فـيهـم أوَ لـم يبـق بينـهم مَنْ يشـيـد ؟

ايـنَ مَـنْ ترجـموا العلـوم وذادوا عـن حيـاضي أَما بقي مَنْ يـذود ؟

ايـنَ مـن جـادوا بـالالوفِ لأحـيا يالقـومي امـا بكـم من يـجود ؟

فبهـذي أنـا علـى الدهـرِ أَحـيـا وشـبابي يـخـضرُّ منـه العـود

يـا رعـى اللـهُ عهـد عصرٍِ قديـمٍ فيـه كانـت تُـرعى لحبـي العهودُ

أيـنَ من اخلصـوا بودي النـوايـا ؟ واسـاتيـذي جـاهـلّ ورشـيـد

يقتـلُ الـجاهلُ النبـوغَ ويُشْـقـي طـالبيـه فهـو الشـقي السـعيد

ويـربـي الرشـيـدُ فيهـم عقـولاً تطلـبُ النـور والنجـاحُ أكيـد

ويـحَ مَـنْ يعهـدون أمر بنـيـهم لـجهولٍ والوعـدُ فيهـم وعـيدُ

ان دون التـدريـس والدرس عنـدي لـذويــه قـواعـدٌ وقـيـودُ

ما اسـتـباح الجهـال داخلَ خدري ولـديـه ضـوابـط وحـدود

انـما بـحـت للـثـقات بسـري فاسـتقادت لـهم حرونّ شـرود

غـادة الضـاد والبيـان ومَـنْ لـي ان تـحاكي بدائعـي الغـرَّ غيـدُ

صـدَّ عني النـشء الجـديد لغيـري وحـرامٌ علـى جـمالي الصـدودُ

ربـةُ الصـون والعقـول خـدوري عشـتُ فيهـا ولسـت عنها أَحيدُ

سـوف احيـا حتى تـموت البـرايا ومـن النـاس كـارهٌ ومـريـدُ !

* * *

" غـريـبُ مـا يُـرى "

لا يسـتـطيعُ اخـو التفكـيـر تعلـيلا لـما يـراهُ مـن التـدجيـل مقبـولا

يَـرى الـمرائين بين النـاس قد غَـلبوا ومـن لا يزال على الاخلاص مـحمولا

يـرى الـمنـافـقَ مرغـوباً بصحبتـه كمـا يرى الـحُرَ منبـوذاً ومَفْصـولا

يرى مُنـى الكاذبِ الخـدَّاع يـحصلُ إذ يرى منـى الصادقِ الـمفضال ممطولا

يرى الـمُصـانِعَ مقبـولَ الكـلام كمـا يـرى الحكيم النـزيهَ القولِ معـذولا

يـرى الفتـى الجاهلَ الـمغرورَ منتـصراً كمـا يرى العـالمَ النحـرير مـخذولا

يـرى الفتى الخامل المـجهول مشـتـهراً كمـا يرى الماجدَ الـمعروفَ مجـهولا

يـرى الكـفيفَ بصيـراً في الزمانِ كما يـرى البصـيرَ يضيـعُ العمرَ تضليلا

يرى ذوي النقـص يـزدادونَ تكرمـةً ولا يـرى لـذوي الأفضالِ تفضيـلا

يرى جميـع الورى تُخشـى شـرورُهُم ولا يـرى خـيرَ جُـلِّ النـاس مأمولا

يـرى الخليعَ أنيسـاً للجميـع كمـا يرى الاديـبَ لدى أهليـه مَـمْـلولا

يرى القريـبَ غريـباً في ذويـهِ كمـا يرى غريبَ الـورى من ذاك مبـدولا

يـرى الصعـابَ لدى الجُهـالِ هيِّنـةً وعنـد أهل النـهى تـحتاجُ تذليلا

يـرى بنـا الحظَّ للمحتـال خـادمه كمـا يـراه عـن المفضال مشـغولا

يرى الـمعارف تحتـاجُ القليلَ من الـ مالِ الـذي باتَ بالفحشـاء مبـذولا

يـرى بنا الـميتَ مبكياً ومـمتـدحاً كمـا يـرى الحـيَّ مهجـوَّاً ومرذولا

يرى بنا الـمفسـدَ الشـرير محتـرماً كمـا يرى الـمصلحَ الصديقَ مغلـولا

يرى بني الدهرِ أنصـار القويِّ كـما يـرى الضعيف الى الايـام موكـولا

يرى سـيوفَ رجال الحـقِّ مغـمدةً كمـا يرى عُضْب أهل البغي مسـلولا

يـرى وسـيمَ مـحيَّا الدين محتجبـاً كمـا يرى الكفـرَ مسـموعاً ومنقولا

يـرى الـمكوِّن مشـكوكاً بصحته كمـا يرى مذهبَ التعطيـل معقـولا

يرى شـرور بنـي الدنيا وليـس يرى لرحـمـة اللـه في الايـام تبـديلا

يرى مـن الزهر اكليل المسـيء كما يرى من الشـوك لابن اللـه اكليلا !

فانظر وقـسْ واعتبـر واصبر أُخيَّ إلى أن يقضيَ اللـه أَمـراً كـان مفعولا !