الـرفيـق الفنـان عـارف ابـو لطيـف :
حيـن يتكلـم الطيـن
كنا سابقاً قد تحدثنا عن الرفيق الفنان عارف ابو لطيف وعن انجازه تمثال الدكتور خليل سعاده في غويانيا ( البرازيل ) الذي نقل الى ضهور الشوير حيث وضع وسط ساحة على طريق العرزال ودار سعاده الثقافية الاجتماعية .
وفي النشرة تاريخ 16/02/2010 اوردنا عن حفل اطلاق وتوقيع اصدارات لعدد من الشعراء والادباء والفنانين، ومن بينهم الرفيق عارف ابو لطيف، وذلك بدعوة من جمعية "محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون – راشيا "، وبالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية، وذلك يوم الأربعاء 24 شباط في قصر الانسكو .
من الكتاب الصادر للفنان عارف ابو لطيف : حين يتكلم الطين ، نقتطع ما كتبه كل من رئيس جمعية الفن التشكيلي الرفيق شوقي دلال، والاديب فرحان صالح .
شوقي دلال: عارف ابو لطيف، شباب في شيخوخة التاريخ
لا يسعك عندما تشاهد عملاً للفنان عارف ابو لطيف، إلا أن تستذكر تلك اللحظة التي لم تشاهده من قبل، فهو على الرغم من أنه ينتج الفن منذ أكثر من نصف قرن، كما أن إنتاجه ليس بقليل، لكنه يبقى فناناً غير مشرّع للأقلام .
يستعيد عارف ابو لطيف أجواء منحوتاته السابقة التي تعيد الاعتبار لهواجس الارتباط التشكيلي بالينابيع السورية القديمة والبحث عن هوية بديلة عن معطيات الفنون الغربية .
فقد اوجد ابو لطيف في تكاوين الآثار القديمة من بلادنا " السومرية والبابلية والآشورية " مادة خصبة للتأمل والاستلهام وتحقيق الاندفاع التشكيلي الذي يجمع ما بين معطيات التلقائية والعفوية في صياغة المنحوتة الطينية الحاملة هواجس الارتباط بالتراث الحضاري الشرقي من منطلقات الحداثة التشكيلية، فصياغة المنحوتة تشكل عنده القدرة على الاستفادة أو التأويل من حقول الآثار الشرقية البدائية التي سبق وسجلت بعض ملامح التجديد في صياغة اللوحة والمنحوتة الحديثة في معظم التجارب التشكيلية العالمية والعربية .
وعلى هذا يبحث عارف ابو لطيف عن حلم الفنون الشرقية من خلال التركيز على استخدام الرموز الحضارية والارتباط بجمالية المنحوتات والتي سادت الحضارات الإنسانية التي لا تزال تحافظ على صفائها الغريزي البعيد كل البعد عن التلوث الصناعي وهيمنة عصر الآلهة، ومن أجل ذلك يمكن اعتبار تجاربه النحتية خطوة للتفتيش عن رؤى جديدة مستمدة من ملامح التراث السوري القديم الذي يمكن اعتباره الاب الروحي لإتجاه اللوحة او المنحوتة الحديثة او لاتجاه مجمل الفنون العالمية المعاصرة التي تأخذ مادتها التشكيلية العفوية من الفنون البدائية وتسعى لتقديمها في اتجاه عصري متحرر.
وقد وجد عارف ابو لطيف في الطين مادة اساسية تفسح له المجالات الشاسعة لرحلة الكشف التلقائي عن الافكار التشكيلية، ومع الطين ينحاز للون المادة الطبيعية فينتج منها ايقاعات بصرية ملونة للوصول إلى علاقة متميزة بين العناصر التكوينية الملونة من خلال العين وبين السطوح التي تبقى محافظة على لونها الطبيعي الخام بحيث تبرز من خلالها توليفات التشكيل الحيوي البكر للمادة المستخدمة .
فالنحت عند عارف ابو لطيف يستمد حيويته من الموروث الحضاري ضمن هواجس التعبير عن ايقاعات متموجة قادمة من حركة الطبيعة المتمثلة بخطوط الوجه والجسد باحثاً في داخلها عن الجمال الذي يسعى إليه، ومن هنا كان اختياره لأصابع يديه فهو يحاور بهما الواقع والرمز والتاريخ كمحاولة لتسجيل فن معاصر بروح محلية، فهو يزاوج بين الفطرية البدائية وطواعية اليد وتوازن التكوين ويحاول بلورة اتجاهات نزعته النحتية متجهاً نحو السكون والحيوية والحركة .
هذا الاسلوب الفني المكثف للمضمون يؤكد أن الفنان عارف ابو لطيف يفكر في عقلية حديثة ومبدعة في آن واحد، فيصل بحداثة لغته الفنية للوجه التقليلدي إلى عقل الانسان وقلبه أيَّـاً كانت لغته وتجربته ويحرّضه لا شعورياً لكي يرى شيئاً ما وبذلك يربط جسراً عقلياً وعاطفياً بين العام والخاص، المحلي والعالمي، الواقعي والفلسفي .
فرحان صالح: عارف ابو لطيف رسومه تعالج ذاكرتنا المترهلة
عرفته في بداية السبعينيات، كان ذلك حين اقامت سفارة المانيا الديمقراطية معرضاً فنياً، شارك عارف فيه إلى جانب الفنان نديم الشوباصي، والراحل عارف الريس " بيكاسو العرب " " ابو ضحكة جنان "، والفتيان اللذان لم يبلغا آنذاك الخمسة عشر عاماً. إنهما مصطفى جرادي " الطبيب الجراح " ، وأحمد خالد " ابن طرابلس الفيحاء ".
منذ ذلك اليوم وعارف ابو لطيف لم تنقطع العلاقة معه، بل كانت تتوطد وتترسخ يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى. عارف ابن " عيحا " سليلة حرمون، هي من ولاداته ونسله، والحفيدة لجلجامش. عارف حين التقيته لأول مرة، كان وجهه دائرياً ومفتوحاً على ما يروي عطش حرمون، ورغم ما يختزنه هذا الجبل من مياه، إلا أن مياه عارف كانت ذات مذاق خاص، ورغم أن حرمون يمر بفصول من الصقيع، وسفوحه كما اوديته وأعاليه تواجه الرياح العاتية التي تأتي من هنا وهناك، إلا أن عارف البسيط الممتلئ بحب الناس وعطف الطبيعة، كان جسده ممتلئاً بحيوية من الدفء والإرادة التي ترسخت ونمت على نقيض إغراءات المدن التي عرفها، وهو عبر تاريخه، كان مدافعاً صلباً عما كان يعتقده، وكأن بدفاعه هذا يحاول أن يتسلق الأمكنة المفتوحة على الشمس القريبة من حرمون، إقترابه منه، جسده الممتلئ هذا هو امتداد للصخور المحيطة بحرمون، وهو كما هي لا تلين أمام الظلم والعدوان، إنه الحاضر في ذاكرته حضور الفلاحين " أهله " الذي يعرفون هدفهم بعد صياح الديك.
عارف هو الطفل الذي لا زال يلعب على مساحات ما يرسمه لنا ونتذوقه. هو شديد الحساسية وكأنه جسد لا عظم فيه، عميق الشعور وكأن رئتيه امتداد لرئة حرمون، ونهاياته تتجاوز قاسيون، والقلب في طبريا، والعقل في لبنان وأطراف الجسد المتدلي حيث الاخضر تطال الرافدين والنيل وما بينهما، وحولهما العالم .
عارف يختفي ليظهر فيما يرسمه لنا، وهو يغرف من بحر الشمس التي تغذي عقله كما أحاسيسه، والتي هي امتداد لطبيعة حرمون ولحاجات الملايين من اهله، هو من هذا البحر محركاً ومازجاً للألوان التي يأخذها من أشجار وسنابل وورود عيحا، ومن فصول البقاع، اما ذاكرته فتغذيها الساعات التي تحرك عقاربها الاشجار التي تحيط بمنزله وبطبيعة البقاع، وهي لوحة من اللوحات التي رسمتها الآلهة واستكملها الانسان.
لوحات عارف، تحاكي جبران في بشري، وعارف الريس في عاليه، ومصطفى فروخ وشارل قرم، وهما يمارسان هوايتيهما في صيد السمك ما بين جونيه والمنارة، وأحمد خالد الذي لم تبارح ذاكرته الأمكنة التي ولد فيها، ومصطفى جرادي وهو يرى كيف تسقط الشمس في مرفأ صور، وكيف ينهض القمر متثائباً على أقدام الصيادين والفلاحين هناك .
عارف اليوم يحاكي السبعين، كما حاكى من قبل ميخائيل نعيمة أيامه الراحلة.
عارف يسهم يومياً بفتح الثقوب، وبإزالة الأوساخ التي تزنر عقول السياسيين في بلده، ولوحاته وألوانها لا زالت تتغذى من جسد لبنان الممتد على الرقعة الصغيرة وطنه، وعلى رقعة جغرافية العالم بما هي امتداد لخريطة وطنه الذي يصغر في عقول زعماء الطوائف، ويكبر في لوحاته وألوانه. إنه يحاكي في بعض من لوحاته، هؤلاء الزعماء الذين قدموا لنا لوحات متواصلة لضحاياهم تلك التي حوّلها عارف الى مشاهد من تأنيب الضمير، حيث صوّر كيف أن السادة ينتعلون أحذيتهم التي يدوسون بها ضحاياهم، تماماً كما ينتعلون عقولهم التي يخزنون فيها الاسلحة الفتاكة التي يقتلون بها ويشردون من يخالفون رأيهم ومصالحهم، لا زالت لوحات عارف تحاكي حياتنا ومستقبل أطفالنا.
عارف العاشق دائماً، وكأنه الفراشة التي تبحث عن النور، لتأخذ منه نهاياتها، وكأنه العصفور الذي يترنم بصوته ليدل الصياد الأبله المجرم على فريسته.
ما يرسمه عارف كانت مساحاته من مساحات أحاسيسه، وأذكر هنا لوحته التي تزيّن صدر صالون منزلي، تلك التي بيّن فيها ويلات الحرب، وهو يرسم إنساناً حياً هو لبنان، يحمل إنساناً ميتاً وقد قتلته قبائل الطوائف في بداية عام 1975. يكفي وأنت تشاهد تلك اللوحة، حتى تدخل في الحسابات التي تجنيها الحرب على البشر.
عارف ابو لطيف 1973 السنوات تلك هي من مساحات العمر التي رسمناها سوياً. هذا العمر الذي لا زال يتغذى من حقول كفرشوبا وعيحا، ومن صلابة حرمون.
الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق