الجمعة، 1 أكتوبر 2010

الامين رجا المسالمة الوجه الحزب المضيء

الأمـيـن رجـا المـسالـمـة:
الوجـه الحزبـي المضـيء


عرفت مدينة درعا الحزب السوري القومي الإجتماعي، كما القرى المحيطة، منذ أربعينات القرن الماضي، وتميز فيها شهداء وأمناء ورفقاء نأمل أن نتمكن من إيفائهم حقهم فنضيء على تاريخهم الحزبي النضالي.
من هؤلاء، الأمين الراحل رجا المسالمة، أحد المشاركين في الثورة القومية الإجتماعية الأولى، والذي عرف السجون والأسر في كل من لبنان والشام وبقي على مضاء عزيمته، وصلابة إيمانه، ومستمراً في حمل لواء النهضة حتى آخر زفرة من حياته.
* ولد الامين رجا المسالمة في مدينة درعا- محافظة حوران عام 1921، من أسرة فلاحية، تلقى علومه الإبتدائية في مدارس درعا حصّل شهادة الدراسة الإعدادية وهو يعمل فلاحاً وموظفاً ثم تابع دراسته معتمداً على نفسه وحصل على شهادة الدراسة الثانوية، ثم انتسب إلى جامعة دمشق ونال شهادة الحقوق، ترك الوظيفة وعمل في المحاماة، وكان مثال المحامي الناجح، فاكتسب السمعة العطرة، وعرف لدى الجميع بصدقه وإخلاصه وصراحته في عمله وبأخلاقه الحميدة في متحده وكان شجاعاً مقداماً أبياً لا تأخذه في الحق لومة لائم.
* انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1943، وتحمل المسؤوليات التالية: مدرب مديرية، مدير مديرية، ناظر إذاعة وإعلام، ناموساً لمنفذية حوران، ثم منفذاً عاماً.
* منح رتبة الأمانة عام في تموز عام 1990.
* شارك رفقاءه الأبطال: مشيل الديك، رفعت شوقي ورفقاء كثر في الهجوم على الفرنسيين في قلعة درعا وكان لهم الفضل الأكبر في تحرير درعا من الفرنسيين عام 1945.
* شارك في الثورة القومية الإجتماعية الأولى عام 1949 مقاتلاً باسلاً حيث كان إلى جانب القائد الصدر عساف كرم، وباحتضانه له عطرت دماء الشهيد ثيابه. وعلى أثرها اعتقل وحكم عليه بالسجن مدة أربع سنوات قضاها في بيروت.... ولقد ولد ابنه البكر وهو في السجن فسمّاه "عساف" تيمناً بالشهيد عساف كرم، وأصبح يعرف بأبي عساف.... خرج من السجن عام 1953 وعاد إلى حوران أشد بأساً ومضاءً في الصراع من أجل عز سورية، وكان سيفاً من سيوف النهضة القومية، عرفت شعاب حوران ووهادها نضالاته وترك في كل قرية وناحية أثراً ناصعاً لن تمحوه الأيام.
وعلى أثر حادثة المالكي، اعتقل وسجن في المزة بدمشق مع العشرات من رفقائه.
* ينحدر من عائلة "المسالمة" وهي من أكبر عشائر حوران، معروفة بالشجاعة والطيب، وتحتل مكانة مرموقة على مستوى المحافظة، كان له فيها مكانة كبيرة وسمعة حسنة وكلمة مسموعة.
* كان يعرف أن ضريبة الإنتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي ضريبة موجعة وحياة شاقة، لكنه مشاها ببطولة مؤيدة بصحة العقيدة. وبهذا سيظل ذكره حياً في وجدان مجتمعه، ونبراساً للأجيال القادمة يضيء لها الدروب في الليل البهيم.
* توفي الأمين رجا المسالمة بتاريخ 24/9/2001 وأقيم له ماتم حاشد في مدينة درعا شارك فيه القوميون بشكل بارز.
* * *

إثر تلقي مركز الحزب نبأ وفاة الأمين المسالمة. وجه رئيسه آنذاك، الأمين جبران عريجي الرسالة التالية بتاريخ 25/ 9/ 2001:
بألم شديد تلقينا نبأ وفاة الامين الجزيل الاحترام رجا المسالمة، أحد أبرز المناضلين السوريين القوميين الاجتماعيين، الذين حملوا مشعل النهضة ليضيئوا دروب العز والحرية.
إن تاريخ أميننا الراحل الزاخر بالعطاءات والتضحيات، هو جزء من تاريخ النضال القومي الاجتماعي، لا سيما أنه كان أحد أبطال الثورة القومية الاجتماعية الأولى الذين عرفوا معنى الشهادة في سبيل القضية، وقد استشهد بين يديه البطل القومي الصدر عساف كرم.
برحيل الأمين رجا خسر حزبنا مناضلاً كبيراً ورجلاً من رجالات النهضة التي وهبها حياته.
عزاؤنا الكبير أن الراحل ترك في النهضة إرثاً نضالياً وقدوة جليلة للأجيال الجديدة.
باسمي وباسم قيادة الحزب أتقدم منكم بأحر التعازي والبقاء للامة.
* * *
كما ألقى منفذ عام حوران الأمين عبدالله نصرالله كلمة في المأتم الحاشد عبّر فيها عما كان عليه الأمين الراحل رجا المسالمة من حضور حزبي مضيء ولافت.
مـررت بالـدار عن خـلي أسـائلها أيـن الرجـاء وأين الطيـب والكـرم
أيـن الأمـين، وهل من نكـبة سلبت؟ عقـل المحبـين من غـابوا ومن قدمـوا
ماذا دهـاك؟ أرى في ساحـك صخـباً هـل فارق الـدار رجا وانطـوى العلم
حـوران ضجي أسى قد غـاب فارسك غـاب الأمين وغـاب السيف والقـلم
أيـن الـذي حـلبـات العـز تـعرفه بُـحَّ الـنداء وتاهـت في الحشـا الكِلَم

أبو عساف نسر الهوى، وحين يهوي النسر من علاه تعصى المفردات وتتيه الكلمات، وتتعطل كل عبارات المواساة وتظل عاجزة قاصرة أمام فداحة الخطب وجسامة الخسارة. رحل الأمين رجا، رحل مخلفاً وراءه سنوات من البذل والعطاء مليئة بوقفات عزٍ وإباء. " فلا تلوموه إن مضى تاركاً وراءه ألمه، فالطريق الذي ارتضى سار فيه وتممه".
أيها الإخوة والرفقاء: عرفت الفقيد الغالي منذ سبعة وأربعين عاماً، عرفته مناضلاً صلباً في سبيل القضية القومية، حمل مشعل نهضتها وسار مؤمناً بمبادئها، عرفته شهماً أبياً صادقاً مخلصاً مؤمناً ورعاً تقياً. جمعتنا مدرسة عقائدية نهضوية، وهي مدرسة الحزب السوري القومي الاجتماعي، التي علمتنا أن الوصول إلى السماء يقتضي ارتقاء من الأرض، وأن السماء بالعز لا بالذل، وعلمتنا أن ننظر إلى السماء ونحن متشبثون بالأرض، لا أن ننظر إلى السماء ونحن منسلخون عن الأرض، وأن لا نقتتل على السماء لئلا نفقد الارض، وأن لانقتتل في الدين فنخسر الدنيا، وعلمتنا أن الحياة كلها وقفة عز فقط، وأن في أمتنا قوة لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ، وإنها بإذن الله لفاعلة، وها هي ثورة أطفالنا في فلسطين اليوم، الذين بهروا الدنيا وليس في يدهم إلا الحجارة، وها هي انتفاضة الأقصى الملتهبة، تثبت صحة هذا القول.

أجل! لقد آمن الفقيد الكبير، أبو عساف، بعد إيمانه بالله، بهذه التعاليم ومارسها بصدق، وظل على هذا الإيمان طيلة حياته.... كان يعرف رحمه الله، أن ضريبة الإنتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ضريبة موجعة، وطريق وعرة وصعبة وشاقة... لكنه مشاها ببطولة مؤيدة بصحة العقيدة، فما وهنت له عزيمة ولا أضعفت سجون أنظمة الرجعية والطغيان إيمانه، فقاتل دفاعاً عن الحق والعدل والحرية، وعن القضية القومية، ضد الفساد والظلم وضد عملاء الصهيونية حين شارك في الثورة القومية الاجتماعية عام 1949 في لبنان مع رفقائه الغرّ الميامين ومن هذه العائلة الكريمة بالذات أذكر منهم البطلين: زيدان المسالمة ويوسف الخالد المسالمة، رحمهما الله، ولا أرهبه تنكيل الطاغية السراج به وبرفقائه عام 1955 في الشام...

أيها الأخوة: عندما تكون للحياة رسالة، تعنى بالوجود وتساويه، يكون الموت لحاملها وهو يناضل لتحقيقها حياة جديدة، تستمر في الآخرين وعبرهم، لتبقى على الدهر في المجتمع الذي لا يموت قيماً خالدة تشع بكل عظيم وجميل، والرسالة في الحياة أن يتحد الإنسان بقيم ومثل مجتمعه وهدف وطنه، والرسالة في الحياة أن يذوب الإنسان في خدمة أهله ومجتمعه، وأن يسعى للبذل والعطاء ما وسعه السعي.
هكذا كان أميننا الراحل أبو عساف. وبهذا سيظل ذكره حياً خالداً في وجدان أهله ورفقائه ومجتمعه وسيظل نبراساً للأجيال القادمة يضيء الدروب في الليل البهيم.
فيا أبناء الفقيد وأهله الاعزاء لكم منا نحن في الحزب السوري القومي الاجتماعي أحرّ التعازي وأصدق المواساة. والبقاء للأمة.

جاء في تقرير لحضرة منفذ عام حوران الأمين عبدالله نصرالله المعلومات التالية عن الأمين الراحل نوردها لمزيد من الإضاءة على حياته الحزبية النضالية:

شارك المرحوم الامين رجا المسالمة في الثورة القومية الاجتماعية الأولى عام 1949 وقد أبلى فيها البلاء الحسن، وكان أشد رفقائه شجاعة وإقداماً أثناء المعركة، حيث كان إلى جانب الشهيد الصدر عساف كرم ساعة استشهاده... وعند اعتقاله، وحسب ما رواه لي: أوصى رفقاءه المعتقلين معه، بأن ينكروا حملهم للسلاح، وبأنهم جاؤوا إلى لبنان لحضور احتفال لا للمشاركة في قتال، علَّ العقوبة تكون أخف، وقال لهم: ليست هذه آخر مرة، والنهضة بحاجة لنا في المستقبل فعلينا أن نحافظ على حياتنا إن استطعنا، وعلينا أن لا ندل على بعضنا، وأن ننكر معرفتنا لبعضنا أيضاً.
وأثناء التحقيق معه، تظاهر الأمين رجا أمام المحقق بالبساطة والجهل وعدم المعرفة، وعندما سأله المحقق ماذا قال لكم سعادة في خطابه لكم حين اجتمع بكم عند الحدود السورية اللبنانية؟
أجابه الأمين رجا، قال لنا: "أيها السوريون القوميون الاجتماعيون...." بعدها صار يحكي باللغة اللبنانية فلم أفهم عليه.... فقال المحقق مستهزئاً: "ما شاء الله على هالثوار المناضلين". ثم سأل المحقق: ماذا كان دورك في المعركة، وهل كنت تحمل سلاحاً؟ أجابه الرفيق رجا: لم أحمل سلاحاً ولا أعرف السلاح، وكنت أحمل "عجوة" لإطعام من معي، فسأله المحقق: شو هي العجوة، ومالها اسم ثاني؟ فأجابه "عجوة يعني تمر" فقال له المحقق: "يا عيني عليك، من الأول قل تمر..." وبين اللغة اللبنانية والعجوة والتمر، حكم عليه أربع سنوات من العمر.
ولقد روى لي بأنه كان شديد الاعجاب بالشهيد الصدر عساف كرم وببطولته وشجاعته ولما لمس لديه أثناء المعركة من صفات القائد الفذ، وقص عليَّ حكاية تسمية ابنه تيمناً بالشهيد عساف كرم كما يلي: " أخبرني أهلي وأنا في سجن بيروت بأن زوجتي ولدت ولداً من ثمانية أشهر، ومن العرف في منطقتنا ان ابن الثمانية أشهر لا يعيش، وطلبوا مني أن أسميه، فأخبرتهم بقولي: "إن كان سيموت سموه "رياض" والمقصود رياض الصلح، وإن عاش سموه "عساف" تيمناً بعساف كرم ومنذ ذلك صار يعرف بـ " أبو عساف". واشتهر به. ورغم معارضة الكثيرين من أقاربه على هذا الإسم إلا أنه أصرّ على هذه التسمية... ولقد سألت مرة زوجته عن قصة التسمية فأكدت أم عساف ذلك وروتها كما رواها أبو عساف.

سعاده في البرازيل قبل عودته الى الوطن وتأسيسه الحزب

سـعـادة فـي البـرازيـل قـبل عـودتـه
إلى الـوطـن وتـأسـيسه الحـزب

تحت عنوان مواقف لسعادة قبل تأسيسه الحزب السوري القومي الإجتماعي، نشر الأمين لبيب ناصيف في " الديار" بتاريخ 19/ 11/ 2004 معلومات متنوعة ننشر منها أدناه ما ورد عن فترة تواجد سعادة في البرازيل.

كان الدكتور خليل سعادة، بعد أن استقر في الأرجنتين واصدر فيها مجلة " المجلة" عزم على التوجه إلى الولايات المتحدة ليلتحق بأولاده، إلا أن الجالية السورية في البرازيل وقد استقبلته بحفاوة في مرفأ السانطوس، ألحّت عليه للبقاء، هي المعجبة بما يكتبه، كما ان شهرته كوطني كبير، وكاتب ومؤلف ومترجم وصحافي، كانت وصلت إلى البرازيل التي فيها، إلى الجالية السورية الكبيرة، عدد كبير من أبناء بلدته الشوير.
لذا استقر الدكتور خليل في سان باولو وأرسل يطلب أولاده الصغار (أنطون، سليم، ادوار، وغريس) فيما بقي الكبار منهم يتابعون دراستهم في الولايات المتحدة.
عام 1921 وصل سعادة وأخوته إلى سان باولو، وفيما دخل أخوته المدرسة آثر هو أن يساعد والده في أعمال جريدة " الجريدة" التي كان والده باشر بإصدارها منذ ستة أشهر، منكباً على قراءات موسعة لمؤلفات وكتب بعد أن أتقن البرتغالية، ومستفيداً من إتقانه الإنكليزية والفرنسية فضلاً عن العربية. كانت مكتبة والده الغنية بتصرفه، ومكتبات أخرى، فضلاً عن شرائه الكتب المتنوعة من مكتبة يازجي.
كذلك تسنى لسعادة أن يدرس الألمانية على يد عائلة صديقة، والروسية على يد زوجة صديقه الدكتور عبده جزرا، وهذا مما ساعده على أن يقرأ كتب الفلسفة والتاريخ والآداب وغيرها من مصادرها الأساسية.
انكب ايضاً على قراءة إعداد مجلة "المجلة" التي كان أصدرها والده في الأرجنتين، وإعداد جريدة "الجريدة" التي كانت صدرت قبل وصوله إلى سان باولو.
في "الجريدة" ولاحقاً في مجلة " المجلة" التي أعاد إصدارها الدكتور خليل سعادة في سان باولو في شباط 1923 بعد أن كان أوقف " الجريدة"، نشر سعادة العديد من المقالات يعالج فيها شؤون الوطن، مظهراً بوضوح شعوره القومي المرهف، ونضجه ووعيه المبكرين وذكاءه الحاد النادر المثال، بحيث ان الجالية السورية استقبلت مقالاته بالدهشة وتساءل كثيرون منها عما إذا كان كاتب تلك المقالات هو سعادة الفتى نفسه، أم والده.


تـأسـيسه " جـمعيـة الـشبيبـة الـفدائيـة السوريـة".
في شباط 1925 نشر سعادة في مجلة "المجلة" بحثاً بعنوان "القضية القومية الصهيونية وامتدادها"، قال فيه: (حتى الآن لم تقم حركة سورية منظمة تنظر في شؤون سورية الوطنية ومصير الأمة السورية، لذلك نرى أننا نواجه الآن أعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن أمام الطامحين والمعتدين في موقف تترتب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة أو الموت وأي نتيجة حصلت كنا نحن المسؤولين عن تبعتها).
قبل ذلك كانت بدأت تختمر في رأس سعادة فكرة تأسيس جمعية وطنية سياسية، كما كان تجمّع حوله عدد من الشباب المثقف الثائر على ما يقوم به الإنتداب الفرنسي في الوطن من ظلم وطغيان. فاختار ستة منهم كاشفهم بعزمه على تأسيس جمعية وطنية سرية فدائية يكونون هم حجارة الأساس، وعندما وافقوا على تأسيس الجمعية التي أطلق عليها اسم "جمعية الشبيبة الفدائية السورية" طلب إليهم أن يتصل كل واحد بخمسة مواطنين ويدعوهم للإنضمام إليها على أن يكونوا وطنيين، من ذوي السلوك الحسن، وأن لا يتجاوز عمر كل منهم الثلاثين عاماً.
تتالت الإجتماعات، في إحداها قرأ سعادة مبادئ الجمعية التي وضعها بنفسه وغايتها، مشدداً في نظامها على سريتها. وفي هذه الجلسة تم انتخاب سعادة رئيساً للجمعية، لكن الامر لم يطل إذ سرعان ما بدأ البعض من أعضاء الجمعية يبدي تذمره من سريتها. مفضلاً العمل العلني وإطلاق الشعارات مما جعل سعادة يتقدم باستقالته من رئاسة الجمعية والإنسحاب منها. رافقه بالإنسحاب زملاؤه الستة وعدد آخر من الأعضاء، بينما بدل الأعضاء الباقون اسم الجمعية فدعوها "الرابطة الوطنية السورية" وحوّروا في مبادئها وفي غايتها.
حــزب الأحــرار السـوريـيـن

بعد ما يقارب الشهرين دعا سعادة زملاءه الستة وأخبرهم أنه قرر متابعة العمل وتأسيس جمعية جديدة باسم "حزب الاحرار السوريين" وتبقى سرية إلى أن يبلغ عدد أعضائها المئة.
اما مبادئ الحزب فكانت كما يلي، وهي مشابهة لمبادئ الحزب السوري القومي الإجتماعي:
1- سيادة الأمة السورية على نفسها.
2- توحيد البلاد السورية ضمن حدودها الجغرافية المعروفة.
3- فصل الدين عن السياسة في الدولة السورية.
4- مكافحة الطائفية.
5- اعتماد القوة لنيل الأمة السورية حقوقها وبلوغها أهدافها.
وافق الزملاء الستة على مبادئ الحزب، ورغبوا إلى سعادة أن يكون هو رئيس الحزب وزعيمه وله وحده حق القيادة العليا وحق تعيين مؤهلين للمسؤوليات.
في اليوم التالي أقسم الستة القسم، فقرأ عليهم سعادة قراره الأول بتعيين المجلس الإداري الأعلى وقد تشكل على الوجه التالي:
أنطون سعادة رئيس الحزب.
الدكتور عبده جزره نائب الرئيس (طبيب) هنري ضو، الناموس العام (صحافي).
فيليب لطف الله، أمين الصندوق (شاعر).
راجي أبو جمرة، مدير الثقافة (أديب).
والآخير من آل المر، مدير العلاقات العامة
راح الاعضاء المؤسسون ينشطون ويقومون بالإتصال بأصدقاء لهم في الجالية، فإذا اقتنع أحدهم يأتون به إلى مكتب مجلة "المجلة" ليلتقي سعادة، ويتم القسم، إلى أن فاق عدد الأعضاء في سان باولو وحدها الخمسين، كما تم إنشاء فروع للحزب في عدد من الولايات البرازيلية.
لم يقتصر اهتمام سعادة على تأسيس العمل الوطني في أوساط الجالية في البرازيل، إنما هو حاول أن يقيم علاقة وثيقة مع رئيس حزب "سورية الجديدة" في الولايات المتحدة، السيد سليمان يوسف عزام.
ففي 6/ 1/ 1927 يوجه له سعادة رسالة يقول فيها " إني بصفتي رئيس حزب الأحرار السوريين" وزعيمه، أتمكن من التصريح لكم بأننا على استعداد تام لقبول مخابرتكم بشأن توحيد قوانا وبذل الجهد لإزالة كل المسائل العرضية والأمور الثانوية التي قد تعترض هذا التوحيد.
ويضيف سعادة: "إن تفاهمنا يمكن أن يقوم على أساس أن نتولى نحن أميركا الجنوبية كلها، كما أنكم تتولون أميركا الشمالية، وما بقي من مسائل هذا التنظيم فنعتبره بديهياً كعقد المؤتمرات وإنشاء هيئة مرجعية لسائر أقسام الحزب
وفروعه وما شاكل".
* * *
في منتصف العام 1928، وبفضل اختباراته العديدة، كما تجربته في تأسيس "حزب الاحرار السوريين"، وكان سعادة قد تيقن أن في الوطن، لا في المهجر، يصنع مصير الوطن، وهناك يجب تأسيس الحزب الأفضل للعمل النهضوي، دعا أعضاء مجلس قيادة حزبه وأعضاء آخرين إلى اجتماع فشرح لهم أفكاره وأطلعهم على قراره بالعودة إلى الوطن في أول فرصة تسنح له، وعارضاً لهم موضوع تجميد العمل في الحزب ريثما يتأسس الحزب العتيد في الوطن، فيكتب لهم ويطلعهم على كل شيء، فمن رغب ينتمي إليه ويعمل على تأسيس فروع له. وبالفعل ، فإن عدداً جيداً من الذين كانوا انتسبوا إلى "حزب الأحرار السوريين" انتموا لاحقاً إلى الحزب السوري القومي الإجتماعي بعد انكشاف أمره في الوطن في أواسط تشرين الثاني عام 1935.
في شهر حزيران 1930 كان سعادة يودع والده، وأخوته وأصدقائه، ويبحر إلى وطنه فيصله في 30 تموز 1930 وهو مزعم أن يؤسس الحزب الذي يريده نهضةً تحقق لأمته حياة جديدة لها، وخطة نظامية تتصدى للهجمة الصهيونية التي كان سعادة منذ العام 1925 قرأ أخطارها، ليس بالنسبة لفلسطين وحدها، إنما لكامل أرض الوطن.

زيارات سعاده في سنوات العمل السري

زيارات سعاده في سنوات العمل السري

الأمين لبيب ناصيف



في عدد "البناء - صباح الخير" الخاص بالاول من آذار عام 2004 (العدد 1061) نشر الأمين لبيب ناصيف تحقيقاً بعنوان "زيارات سعاده الى الفروع في سنوات العمل السري"، تضمن تأريخاً لكل الزيارات التي قام بها زعيم الحزب في الفترة 1934-1935.
اذ نعممه نأمل من كل رفيق يملك اي معلومات تضاف الى التحقيق المشار اليه، ان يزوّدنا بها.
**
لم يحصر سعاده اهتمامه في سنوات التأسيس الأولى على اختيار العناصر الصالحة من طلبة الجامعة الأميركية ، وعلى إعطاء الجهد للعناية بالأعضاء الأوائل الذين شكلوا مداميك بناء في العاصمة بيروت كما في أنحاء مختلفة في لبنان، الشام، الأردن وفلسطين ، فضلاً عما احتاجته فترة التأسيس من اهتمامات شتى في مجالات وضع الدستور ، تشكيل المؤسسات المركزية ، العمل الثقافي ، وغير ذلك ، إنما صرف عنايته أيضاً لزيارة المناطق الحزبية التي راحت تتأسس فيها فروع ، وينتمي الأعضاء الأوائل .
هذه الزيارات تحققت في سنوات العمل السري، وقبل أن ينكشف أمر الحزب ويتم اعتقال سعاده ومعاونيه ، والعديد من أعضاء الحزب . في 16/11/1935 بعد خروج سعاده من الأسر الأول ، وفي الفترات الأخرى التي أعقبت خروجه من الاعتقال الثاني، فالثالث ، فمغادرته الوطن عام 1938 إلى المغتربات ، قام سعاده بجولات حزبية إلى أماكن مختلفة من لبنان والشام تحولت إلى أيام تاريخية للحزب (1) . عن هذه الأيام سنتكلم في إحدى الحلقات المقبلة . في هذا العدد نحصر الحديث في الزيارات الحزبية التي تحققت في مرحلة العمل السري 1932-1935، والتي تعطي دلالة على كيف بدأ الانتشار القومي الاجتماعي ، وكيف كان سعاده يولي اهتمامه للفروع ، لتثقيف الأعضاء وتنشئتهم قومياً اجتماعياً لبناء نهضة تستطيع أن تقوم بدورها التاريخي .

زيارة طرابلس والكورة عام 1934
ــــــــــــــــــ
بعد أن كان تعين عدد من المسؤولين المركزيين ، وتمّت انتماءات أولى في كل من طرابلس والشمال ، قام سعاده بزيارته الحزبية الأولى في أيلول 1934 لكل من طرابلس والكورة ، رافقه فيها نعمة ثابت وكان تعين عميداً للداخلية ، وفؤاد سليمان (الشاعر والأديب المعروف) سكرتيراً لعمدة الدعاية والنشر (2) .
المحطة الأولى كانت في الكورة حيث التقى سعاده الرفقاء القلائل الذين "كانوا يعدون على الأصابع" كما يفيد الأمين جبران جريج . وفيها راح سعاده ، بعد أن أبدى سروره لوصول الحركة إلى منطقتها ، بشرح مبادئ الحزب ، وكيفية العمل .
" كان بالفعل معلماً ، وكنا بالفعل تلاميذ" . يقول الأمين جبران جريج . ويضيف "أقرّ وأشعر الآن ببعض الخجل من هذا الإقرار ، أني تبرمت من إرشاداته التي كثرت ، وهي التي كنت أراها بديهية ، وضقت ذرعاً بإلحاحه على الدقة والتأني والسرية ، فهناك الاستعمار وجيوشه وعيونه وعماله ، وهناك الإقطاع في جميع فروعه الديني والاجتماعي والسياسي ، وهناك الميعان والخوف والوهم ، كما المثابرة والرجولة والبطولة" .
ويتابع الأمين جبران شرحه لتلك الزيارة الحزبية الأولى: "انتهى سعاده من حديثه التوجيهي بعد انقضاء ساعة ونيف ، ثم التفت إلى الرفيق نعمة ثابت (عميد الداخلية) يسأله عن الترتيبات التي أعدها للكورة . فرشح الرفيق نعمة الرفيق جبران جريج لتولي مسؤولية المديرية، وثنى على الاقتراح الرفيق فؤاد سليمان . استفسرت عن مهمتي وبعد شرحها وافقت على القبول".
تلك كانت بدايات العمل الحزبي في الكورة التي تحولت بعد سنوات قليلة جداً ، ولتبقى، معقلاً من معاقل الحركة السورية القومية الاجتماعية .
بعد الانتهاء من زيارة الكورة انتقل سعاده ومعاوناه ، ومدير مديرية الكورة المعين ، إلى طرابلس ، حيث تمّ الاجتماع في عيادة الرفيق الدكتور سميح علم الدين (3) .
وكما في الكورة تحدث سعاده في مبادئ الحزب وأعطى توجيهاته للعمل ، شارحاً أهميته ، وكونه الأول من نوعه ، ليس في لبنان فقط بل في المنطقة ، كما تناول الصعوبات التي تعترض القوميين الاجتماعيين والتي يجب أن يذللوها بهمة ونشاط وصبر ، فطريق الصراع شاقة ومحفوفة بالأخطار وتحتاج إلى نفوس قوية صراعية مشدودة إلى مثالية الإيمان.
بعد انتهائه من حديثه ترك سعاده الأمر الإداري (4) لعميد الداخلية الرفيق نعمة ثابت الذي أعلن أنه تمّ تشكيل منفذية في لبنان الشمالي تضم الرفقاء القلائل الذين انتموا فيها ، وفي عكار ، وتتبع لها مديرية الكورة ، على أن تسمى باسم منفذية طرابلس . أما هيئة المنفذية فتشكلت من الرفقاء الدكتور سميح علم الدين منفذاً عاماً ، المحامي عبدالله حريكه ناموساً ، الياس خوري نجار ناظراً للمالية (5) على أن يعين لاحقاً ناظر للإذاعة ، وناظر للميليشيا (6) .

زيارة منطقة زحلة
ــــــــــ
بعد أن كان انتمى الأمين يوسف الدبس ليكون أول رفيق قومي اجتماعي في منطقة زحلة والبقاع الأوسط ، راح ينشط في رياق "لأنها مركز الثقل بالنسبة للفرنسيين وقاعدة كبيرة للجيش والطيران" ويجتمع بأصدقائه الذين كان تعرف إليهم وعرف بما يتمتعون به من ثقافة وتفهم للأمور الوطنية القومية . وكان الأمين يوسف كلما توجه إلى بيروت ينقل إلى سعاده ما يقوم به مع مجموعة الأصدقاء حتى إذا باتوا مهيئين للقسم دعا الأمين يوسف ، سعاده لأن يزور المنطقة ويشرف بنفسه على أدائهم قسم الانتماء . في الموعد المحدد اصطحب الأمين يوسف زعيم الحزب إلى رياق ، وتحديداً إلى غرفة صغيرة كان عمد الأمين يوسف وأصدقاؤه المقبلون على الحزب إلى استئجارها لتكون مقراً للسكن عند الاقتضاء ومكتباً للاجتماعات الحزبية .
أخذ سعاده يشرح للحاضرين مبادئ الحزب وأهدافه ، والأسباب التي دعته لإنشائه ، "والكل ينظر إليه مشدوهاً مأخوذاً بسحر بيانه وتحليله للأمور من جميع جوانبها ، لمدة ثلاث ساعات متواصلة" .
في هذا الاجتماع أقسم الرفقاء التالية أسماؤهم يمين الولاء للحزب : جاك مطران ، ديب كربجها ، ميشال كعدي ، فهد الدبس ، نبيه دموس ، عزيز خيرالله ونجيب فيكاني .
بعد أداء القسم ، تمت كتابة البطاقات الحزبية ، التي كان على كل عضو جديد أن يملأها: الاسم الكامل ، مكان وتاريخ الولادة ، المهنة ، ثم وضع بصم الإبهام الأيمن ، من اليمين إلى اليسار .
يذكر الأمين يوسف الدبس في كتابه "في موكب النهضة" أن الرفيق ديب كربجها ، عندما وضع إبهامه على البطاقة ، وكانت يده ضخمة ، أخذ الفسحة كاملة من يمين البطاقة حتى أيسرها، فلم يتمالك الجميع من الضحك. ويضيف أن سعاده، بعد عودته من المغترب عام 1947 ولدى استقباله للأمين الدبس بادره بالسؤال ، كيف حال رفيقنا ديب وإبهامه ؟ وكان قد مرّ 13 سنة على هذه الواقعة .
شكل هذا الاجتماع ، وأداء الرفقاء السبعة لقسم الانتماء بداية تأسيس العمل الحزبي في البقاع الأوسط ، فانطلق الرفقاء يعملون بدون كلل في الخفاء خوفاً من انكشاف أمر الحزب ، وخوفاً من الفرنسيين وعملائهم الكثر في رياق ومحيطها . وزيادة في الحيطة عمدوا إلى الحصول على رخصة لجمعية ، وانتخبوا هيئة إدارية لها ، من الرفقاء ، ووضعوا لافتة على الغرفة التي كانوا استأجروها في رياق باسم "جمعية النهضة الخيرية" ، وقاموا ببعض النشاطات لمساعدة المحتاجين والفقراء . وهكذا أمكن للرفقاء أن يجتمعوا في الغرفة – المكتب دون خوف، فيما الأوراق الحزبية محفوظة في مكان آخر .
أول رواية
من النشاطات التي فكر فيها الرفقاء ، بعد استئجار الغرفة – المكتب وتأسيس "جمعية النهضة الخيرية" هو إنشاء فرقة للتمثيل التي ، بعد أن أجرت التدريبات ، اختارت رواية "شهامة العرب" لتكون أول رواية تقوم بتمثيلها وقد تقصدت أن تقدم التمثيلية في الأول من أيلول عام 1935 الذي يصادف "عيد استقلال لبنان الكبير" الذي كان أعلنه المفوض السامي الجنرال غورو، وكانت الدولة في ذلك الوقت تعتبره عيداً رسمياً تعطل فيه مختلف الدوائر .
تمت دعوة سعاده ومن يرغب من العمد لحضور هذه التمثيلية ، كما دعي لإلقاء كلمات في الحفلة كل من الأمين عبدالله قبرصي ، الأستاذ نجيب حنكش ، الشاعر رياض معلوف والشاعر فريد لحود صاحب جريدة "العندليب" الزجلية .
غصّت قاعة المطعم الكبير على رحبها بالحضور . بعد انتهاء الحفلة التمثيلية ، وكانت باكورة العمل العلني للرفقاء ، توجه سعاده والمدعوون في رتل من السيارات إلى منزل الأمين يوسف الدبس في "دير الغزال" لتناول طعام العشاء ، ومن الذين رافقوا سعاده : نعمة ثابت ، مأمون أياس ، والأمين عبدالله قبرصي ، الذي ألقى خطاباً حماسياً .

زيارة طرابلس أواسط صيف العام 1935
ـــــــــــــــــــــ
بعد الزيارة الأولى التأسيسية لكل من الكورة وطرابلس ، قام سعاده في أواسط صيف العام 1935 بزيارة تفقدية إلى منفذية طرابلس . حصل ذلك بعد الاجتماع الأول الذي عقد في الأول من حزيران 1935 وفيه ألقى سعاده خطابه المنهاجي المنشور في المحاضرات العشر وفي الكثير من أدبيات الحزب . من المعروف أن عدد أعضاء الحزب كان قد تجاوز الثلاثماية رفيق منتشرين في لبنان ، الشام ، الأردن وفلسطين .
عن هذا الاجتماع يتحدث الأمين أنيس فاخوري (7) في مقالة له نشرها في عدد "البناء" الخاص بالأول من آذار عام 1956 .
عندما أقسمت اليمين ، لم أكن أعرف أن سعاده هو زعيم الحزب ، بل جل ما كنت أعرفه أن للحزب زعيماً وأننا سنجتمع به قريباً . وكنت في ذلك الوقت قد تركت مهنة التعليم وابتدأت بعمل جديد الذي كان بدأ يأخذ معظم أوقاتي .
" في أواسط صيف سنة 1935 ، وبعد ظهر يوم حافل بالأعمال المعقدة في عملي الجديد، إذ برفيق يدخل علي ملهوفاً وهو يقول: "أسرع يا رفيقي ، فإننا سنجتمع بالزعيم بعد قليل" فتركت عملي وأسرعت وراءه مشياً على الأقدام نحو محلة "البحصاص" التي كانت تبعد حوالي أربعة كيلومترات عن مكتبي ، وهناك في أحد بساتين البرتقال الذي يخص الرفيق أديب (8) وقفنا في متسع صغير بين الأشجار ننتظر وصول الزعيم ، كما فوجئت بوجود بعض أصدقائي الذين لم أكن أعلم بانتمائهم إلى الحزب فسررت بذلك سروراً عظيماً (9) .
"بعد قليل سرت همسة بأن الزعيم قد قارب الوصول . فتسمرنا في أماكننا منتصبين ودقات قلوبنا تطرق مسامعنا . وإذ بالزعيم ، مع ثلاثة من معاونيه أحدهم عميد الحربية زكي نقاش ، يظهر بعيداً بين الأشجار وهو يسرع في خطواته القوية مرتدياً اللباس الرسمي للحزب، ودوى صوت المدرب داعياً إلى التهيؤ وتحية الزعيم . فارتفعت أيدينا بالتحية وأعيننا شاخصة إلى الرجل الذي بدا أمامنا وكأنه كتلة من فولاذ حي .
"بدأ الزعيم يتكلم بصوت هادئ قوي وببطء ملحوظ . فجال بذهني لأول مرة أنه ليس بالخطيب المفوه كباقي الخطباء الذين اعتدت على سماعهم في ذلك العهد . ولكن ما إن لاح ذلك الخاطر ببالي وبدا ينساب في مجرى ذهني محاولاً الاستقرار لترسيخ هذه الفكرة في طيات الذاكرة ، حتى بدأ صوته الساحر يسرع في سيره نحو عقولنا ، وبدأت أفكاره المتسلسلة الواضحة تقرع أبواب ضميرنا القومي الذي لم ينضج بعد . وتفرست في وجوه بقية الرفقاء فلاحظت أنهم يشاركونني نفس الشعور .
"ولم يمض بضع دقائق حتى كان الزعيم قد استولى على تفكيري ، وتابعته بعقلي وبعواطفي ، وأحسست بان رابطة قوية متينة بدأت تشدني إلى هذا الرجل الذي أخذت عظمته تتجلى لي منذ تلك الدقيقة .
"أنهى سعاده خطابه بعد حوالي نصف ساعة أحسست بها كأنها دقيقة واحدة ، وكانت كلماته قد ألهبت حماستي وأحسست أني مقصر جداً في سبيل القضية منذ أن أقسمت اليمين إلى تلك الساعة ، فاستأذنت بالكلام فأذن لي وتكلمت واعترفت بقصوري ، وأعلنت أن خلاصة ما يطلبه منا الزعيم هو أن نضع دمنا على أكفنا ونسير إلى النصر النهائي فهل نحن مستعدون ؟ وأجبت نفسي بقولي أنني أشعر بعد الآن بأنني أنا نفسي مستعد لذلك ، وأرى من وجوه رفقائي بأنهم هم أيضاً مستعدون لذلك .
وبعد انتهاء الاجتماع تقدمت وصافحت الزعيم فقال لي والابتسامة تعلو وجهه ، ما معناه: "لا أشك في أنك تعرف تماماً معنى العطاء السخي وآمل أن تبقى هذه المعرفة معك دوماً لخدمة القضية" .

زيارة الكورة صيف العام 1935
ـــــــــــــــــ
وفي صيف عام 1935 أيضاً قام سعاده بزيارة الكورة تلبية لدعوة وجهها إليه الرفيق فؤاد مفرج للغداء في بشمزين وقد اختار للمأدبة مكاناً في الهواء الطلق تستظله أشجار الصنوبر.
رافق سعاده ، الرفيق زكي نقاش الذي كان يتولى مسؤولية عميد الحربية (10) وحضرها ، إلى جانب ما يزيد على الثلاثين رفيقاً ، الرفيق جبران جريج بصفته مديراً لمديرية الكورة ، والرفيق زكريا لبابيدي الذي كان يشغل آنذاك وظيفة كاتب في محكمة أميون (11) .
ارتدى سعاده في هذه الزيارة اللباس الرسمي للحزب ، يروي الأمين جبران جريج قصة هذه الزيارة فيقول: "دارت الأنخاب ، وشرب المدعوون نخب سورية وسعاده ، ثم ألقى الرفيق أديب سركيس قصيدة حماسية كانت تقطعها هتافات: "تعيش سورية" .
"بعد انتهاء الرفيق سركيس من إلقاء قصيدته هنأه سعاده عليها ، إنما لفته إلى ما أورده في أحد أبيات القصيدة عن "أن نتشبه بالألمان" ، موضحاً أننا لا نريد أن نتشبه بالألمان ولا بسواهم بل يكفي أننا سوريون" ، أما عن الهتاف "تعيش سورية" فقال: إننا جماعة حياة ولسنا جماعة عيش ، لذلك يجب أن يكون الهتاف "لتحي سورية" وردد الجميع مع سعاده "لتحي سورية"، واستمرت هكذا في تاريخ الحزب وأدبياته .
"في هذه الأثناء ، فاجأ الجميع ، أحد الذين كانوا مهيئين للانتماء وهو ناطور البلدة ميخائيل مفرج بحضوره ، وبعد أن تحدث إلى الرفيق فؤاد مفرج تقدم من الزعيم وأدى له التحية وطلب منه الانتماء إلى الحزب ، فتمّ له ذلك .
بعد انتهاء الوليمة في صنوبر بشمزين ، رغب سعاده إلى الرفيق جبران جريج أن يرافقه إلى أميون ، والغاية من ذلك زيارة ميشال نوفل ، مدير المال في قائمقامية الكورة وإدخاله في الحزب ، بعد أن كان تهيأ لذلك وآمن بعقيدته .
في أميون زار سعاده منزل الرفيقة عفيفة شماس ، التي كانت انتمت في بيروت ، فيما سبقه الآخرون إلى منزل ميشال نوفل للتحضير لعملية الانتماء . بعد قليل توجه سعاده والرفيق زكريا لبابيدي إلى منزل نوفل ، حيث انضم إليهم الرفيق عبدالله شماس .
بعد الانتهاء من عملية القسم استمع الرفقاء إلى شرح لسعاده في موضوع "قومية البلاد السورية" .
الجدير بالذكر أن الرفيق ميشال نوفل صارح الرفيق جريج ، بعد أدائه القسم ، أنه ظن في البدء أن زكي النقاش الذي كان بدأ عملية الانتماء قبل وصول سعاده ، هو زعيم الحزب ، فأصيب بخيبة سرعان ما زالت عندما وصل سعاده وتعرّف إليه ، فأدرك الفرق الشاسع .

زيارة الشوف
ــــــــ
قام سعاده بزيارة الشوف مرتين في فترة العمل السري ، الأولى في شهر حزيران 1935 والثانية في أوائل تشرين أول عام 1935 .
الزيارة الأولى:
ــــــــ
بعد أن كان انتمى عدد جيد من أبناء منطقة الشوف إلى الحزب قام سعاده بتفقد هؤلاء الرفقاء فعقد لهم اجتماعاً في منزل المسؤول الرفيق رفيق أبو كامل . رافق سعاده ، رئيس مجلس العمد – عميد الداخلية نعمة ثابت ، عميد الدعاية والنشر (عميد الإذاعة) الرفيق عبدالله قبرصي ، والوكيل مأمون أياس ، وعدد آخر من الرفقاء الذين كانوا انتموا في بيروت .
يفيد الأمين قبرصي في مذكراته أن الاجتماع عقد ليلاً واقتصر على كلمة ألقاها عميد الدعاية والنشر ، وخطاب أساسي للزعيم ، لم يدون ولم ينشر . يقول:
"كان ممنوعاً أن نصفق ، خاصة والاجتماع في دار فسيحة مغلفة . منذ أن أقسمت اليمين ما تسنى لي أن أستمع من سعاده إلى أكثر من مناقشاته وحواراته ، والنفوذ السحري الذي كان له على مخاطبيه وسامعيه ومحاوريه . ما كان هذا النفوذ ليحملني على الوثوق المطلق بالمعلم . في كل مرة كنا نتطارح صلاحيات الزعامة ، كنت أصر على تقييد هذه الصلاحيات فلا تأتي مطلقة تفسح في المجال للتفرد والاثرة والاستبدادية .
"بعد الاستماع إلى سعاده في بعقلين والانبهار بلغته الخطابية ، ووقفته الخطابية ، رأيتني فعلاً أمام القائد الذي كنت أحلم به في ساعات تأملي الطويلة . غادرت أنا ونعمة ثابت ومأمون أياس عائدين إلى بيروت ، صباح اليوم التالي ، وعرجنا على نبع الصفا نتناول طعام الصباح على النبع المتدفق ظلالاً وبرداً وسلاماً .
"أثناء الطعام قلت لنعمة ومأمون : أعلن الآن أني آمنت إيماناً مطلقاً بالزعيم . لقد أصبحت مطمئن الوجدان بقناعة لا رجوع عنها بأن سعاده هو رجل الحزب الأول عن حق وحقيق . وأنه يجب أن يكون مطلق الصلاحية في الإدارة والتشريع والقيادة" .
وعن تلك الزيارة الأولى يقول الأمين كامل أبو كامل (13) :
"عند الغروب بدا الرفقاء يصلون إلى البيت وكان أول القادمين الرفقاء رضا رعد وأمين شكور من عين زحلتا ، ألفرد حداري وميشال عيسى من دير القمر ، مسعود عبد الصمد من عماطور" .
ويضيف أن سعاده وصل ومعه نعمة ثابت ، مأمون أياس ، عبدالله قبرصي ، زكي النقاش ، وفؤاد مفرج . "وحينما وقعت عيني على الزعيم تسمّرت مكاني إذ عرفت فيه أنطون سعاده . وذهبت بأفكاري إلى البرازيل فأنطون سعاده الذي ما أحببته يوماً هو اليوم زعيمي وعلي أن أحترمه وأحبه . والزعيم الذي عرفني بدوره صافحني على الطريقة البرازيلية وشعرت بأنه فرح بهذا اللقاء ، وجلست بجانبه نتجاذب بالبرازيلية أطراف الحديث عن سان باولو وحياتها ، عن والده فعرفت أنه مات" .
ويضيف "بعدها انتقلنا إلى الصالون الآخر حيث كان الأعضاء المدعوون قد وصلوا جميعاً ودخلوا إلى الصالون مركز الاجتماع الذي بدأ بكلمة لزكي النقاش . ثم تكلم عبدالله قبرصي فأبدع . وتلاه فؤاد مفرج بقصيدة ألهبت حماس الموجودين ولم تزل ترن في أذني حتى اليوم . وأعجبني مقطعاً منها يقول:
أنا نسوق إلى ميدان جبهتنا شيخاً يصلي وقسيساً ومطراناً
وفي الأخير نهض الزعيم وبدأ كلمته برصانته المعهودة ففند المبادئ الإصلاحية وأهمية تطبيقها تطبيقاً دقيقاً وأنهى كلامه بالحديث عن إنسان النهضة .
"قلت له بعد ذلك ، لو كنت عرفت من هو زعيم الحزب الذي انتميت إليه قبل أن أسمعك تتكلم لكنت ترددت في الدخول ، أما بعد أن سمعت الزعيم يلقي كلمته فأشعر بالسعاده تغمرني من رأسي حتى أخمص قدمي" .
الزيارة الثانية:
ــــــــ
اجتماع سعاده الثاني مع رفقاء الشوف تمّ في مغارة "بزوز" الواقعة في الوادي بين جديدة الشوف والمختارة . وعنها يقول الأمين عجاج المهتار: "في أوائل اكتوبر 1935 كان الاجتماع في "مغارة بزوز" وقد ضمّ حوالي خمسين رفيقاً من معظم قرى الشوف والمناصف . وكان بين الرفقاء عدد وفير من أبناء دير القمر وجوارها" .
وعن الاجتماع في المغارة ، والحزب في مرحلة العمل السري ، يروي الأمين كامل أبو كامل: "وصل الرفقاء من القرى الشوفية كل بطريقته كما وصل الآخرون من جهة بعقلين بطرقهم الخاصة ، فالبعض كصيادين وآخرون كتلاميذ يقصدون النهر للسباحة . والزعيم كان أحد المرافقين للناطور الرفيق حسن سلمان بريش ، فقد حمل الزعيم عصا الناطور ورافقه الناطور يحمل بندقية صيد متنقلين بين الصخور والبلان حتى وصلوا المغارة حيث كان سبقهم إليها عدد يزيد على الأربعين رفيقاً .
المغارة كبيرة ، أمامها باحة كبيرة مغطاة بفيء شجر الصفصاف والحور ، يمر بجانبها نهر الجديدة المتفرع من نهر الباروك . وهي لا ترى من "المختارة" ويحجبها عن "الجديدة" نواتيء صخرية كبيرة وأشجار كثيفة فكان المجتمعون ينعمون بحرية الغناء بأصواتهم القوية ويختلط الصوت بخرير مياه النهر ويحجبه عن الانطلاق بعيداً وضع المغارة وعمقها الاستراتيجي ، وقد حمل الرفقاء معهم اللحم واللبنة الجبلية الممتازة وبعضهم جلب العسل الصافي والخضر ، بندورة ، خيار ، أما الفواكه فمن البساتين القريبة التي يملكها قوميون .
"وكانت فرحة الرفقاء كبيرة بتعارفهم على زعيم الحركة سيما وإنه شاب وسيم الطلعة دمث الأخلاق ، متواضع .
"وبعد استراحة لم تدم أكثر من ربع ساعة وقف الزعيم وألقى كلمة بيّن فيها عن سروره بوجوده مع رفقاء يمثلون طليعة النفير في هذا المجتمع الذي فتك فيه مرض التشرذم إذ أرغمه الحكم الجاهل بوسائله الاستعمارية أن يصبح مريضاً . ولكن هذه الأمة العظيمة التي سجلت في حقبات تاريخية كثيرة بأنها رأس العالم المتمدن لم تخسر أصالتها طالما أنتم عقدتم الخناصر لإعادة مجدها وعزها . لأن في هذه الأمة كل خير وكل حق وكل جمال . بهذا المعنى كانت كلمة الزعيم .
"وبعد أن مر بكلمته على نظام الحزب وشدد على المبادئ الإصلاحية شرح أهمية مغارة البزوز التاريخية حيث استعملها فخر الدين المعني في حروبه .
"بعدها انصرف الجميع إلى تحضير الأكل حيث سمح بتناول العرق . وبدأ البعض بإشعال نيران لشوي اللحم ومد سماط طويل على الأرض اجتمع حوله الرفقاء ، والزعيم بينهم ، يأكلون ويشربون وينشدون القصائد الحماسية وأحياناً يقصون قصص العصابات التي كان الزعيم يحب سماعها خصوصاً منها العصابات التي كانت تعمل بدوافع وطنية والتي كانت هاربة من ظلم الانتداب وأعوانه وقد رافق الزعيم بهذه الرحلة كل من مأمون أياس والشيخ جميل العازار ، وكان الرفقاء الذين يتولون مسؤوليات مدير أو مفوض يسألون الزعيم عن كيفية إدارة مسؤولياتهم وهو يجيبهم بالتفصيل حتى بدا وكأنه معلم مدرسة يعلم القراءة" .
وعن الاجتماع في مغارة بزوز يقول الرفيق خليل أبو عجرم (14) .
"كنت حدثاً في الرابعة عشرة عندما زار شقيقي فؤاد في بعقلين ذلك "الأستاذ" الأسمر اللون ، الحاد العينين ، المبتسم ، الجذاب . كنت في قاعة الاستقبال أسمع وأعي ، أروح وأجيء وفضول الصغار يدفعني إلى البقاء والإصغاء والمشاركة ما أمكن في ذلك سبيلاً : فكنت ألاقي من ذلك "الأستاذ" قبولاً وسماحاً .
دار الكثير من الأحاديث وتطرق "الأستاذ" إلى الكثير من المواضيع التي كانت تهمني فتعلقت به ورحت ألازمه ولكن... حان وقت الفراق فقد نهض "الأستاذ" ومن كان قد حضر إلى البيت من الشباب وغادروه فبقيت وحيداً . لم تطل وحدتي فقد صممت أن ألحق "بالأستاذ" وصحبه ، لقد سمعتهم يقولون أنهم ذاهبون إلى مغارة "البزوز" فلماذا لا أذهب أنا أيضاً إلى "البزوز" وأتعرف عليها وعلى آثارها وعلى كل ما يروى عنها ؟
دون أن أترك أي خبر ورائي ، أسرعت الخطى ولحقت بهم على بعد مرمى النظر وبقيت هكذا إلى أن وجدت أن الطبيعة تعرقل أمنيتي فخشيت من الضياع أو العثار فعدت إلى البيت حزيناً ، كئيباً . وزاد حزني عندما رجع شقيقي فؤاد إلى البيت وحده ولم يكن برفقته "الأستاذ" الذي أصبحت تربطني به عاطفة خفية لا تفسير لها لدي" .

زيارة جزين صيف العام 1935
ــــــــــــــــ
بعد أن انتمى الرفيق كريم طوبيا الطالب في الجامعة الأميركية في مديرية الطلبة التي كان أنشأها سعاده في العام الدراسي 1934-1935 عمل على انتماء الرفيق عاطف كرم ، من جزين أيضاً ، وزميله في الجامعة الأميركية (15) .
بواسطتهما راح الحزب يمتد في جزين ، فانتمى الرفقاء نديم طوبيا ، جورج الياس عون، مارون عون ، حنا سكاف ومتري شكري نحاس .
ولاحقاً انتمى الرفقاء نعمة سليمان عازار ، فايز رضوان سلام ، ناصيف سليمان الأسمر ، جوزف أسعد الأسمر ، خليل بشارة حداد ، وديع عون ، سعيد سليم عون ، جورج عون ، جورج قمر ، شحادة حبيب ، جميل نكد الخوري . (من الجعبة – الأمين جبران جريج).
من هؤلاء الرفقاء تشكلت أول مديرية لمديرية جزين وتولى الرفيق مارون عون مسؤولية المدير .
من أولى أعمالها أنها دعت سعاده في صيف العام 1935 لزيارة جزين . عقد الاجتماع في منزل كان يستأجره الرفيق رائف زنتوت (16) وحضره ما يقارب الأربعين عضواً ، البعض منهم أتى من صيدا ، والبعض الآخر رافق سعاده من بيروت ، في هذه الزيارة أيضاً ارتدى سعاده اللباس الرسمي للحزب .
تناول سعاده في الاجتماع شرح العقيدة القومية الاجتماعية ، مفنداً المصاعب التي تعترض طريقها . بعد انتهاء الاجتماع تقرر أن يقضي الجميع نهار اليوم التالي في نزهة إلى نبع "العزية" .
أمضى الرفقاء ومعهم زعيم الحزب نهاراً جميلاً عند النبع تخللته أغان وأناشيد وحلقات دبكة ، كما شروحات لسعاده جواباً على أسئلة الرفقاء .
بعد الانتهاء عاد الجميع إلى جزين مخترقين طرقاتها مما لفت ذلك أنظار الأهالي . إلا أن الإشاعة التي كان بثها رفقاء جزين وسرت في البلدة فهي أن أساتذة من الجامعة الأميركية أتوا من بيروت لزيارة الطالب في الجامعة ، رائف زنتوت .


زيارة مراح غانم (برمانا) العام 1935
ــــــــــــــــــــ
من المعروف أن المثلث رومية – برمانا – بيت مري شهد أولى بدايات تأسيس الحزب وكان سعاده قد كثف في صيف العام 1932 من زياراته إلى المنطقة المذكورة حيث انتمى رفقاء من الأوائل، أمثال جورج عبد المسيح، رشيد أبو فاضل، فارس سلامة ، عبده زينون .
وكانت المتن الشمالي ، كما طرابلس والكورة ، قد شهدت أولى بدايات التأسيس لفروع حزبية . فكما نشأت منفذية طرابلس (للشمال) ومعها مديرية الكورة ، نشأت منفذية المتن الأعلى التي تضم مديرية بيت مري ، وأعضاء قلائل في برمانا ، رومية وجل الديب . تولى الرفيق جورج عبد المسيح مسؤولية المنفذ العام والرفيق جوزف رعد مسؤولية مدير بيت مري .
يروي الأمين جبران جريج في مجلده "من الجعبة" أن من أولى نشاطات المنفذية أن اتخذت مكتباً سرياً لها في مكان يقع بين برمانا وبيت مري يدعى "مراح غانم" ، واتخذت ستاراً له منتدى للتسلية والترفيه أسمته "الملاك الأزرق" . أواخر صيف العام 1935 لبى سعاده دعوة المنفذية إلى اجتماع عام للرفقاء في المكتب – المنتدى . إلا أنه أثناء الاجتماع صادف مرور دورية من الدرك فلفتها تجمع عدد غير قليل من الرجال والنساء في "الملاك الأزرق" فيما أحدهم يتكلم فيه .
دخلت دورية الدرك لتستطلع الأمر ، إلا أن هدوء الزعيم واستمراره في الكلام أزال حالة الارتباك التي بدت على وجوه عدد من الرفقاء ، بحيث أن الدورية – وقد دعيت للاشتراك في الاستماع – اعتذرت وانصرفت . فلم يكتشف أمر الحزب وقد كاد يحصل .

زيارة جل الديب
ــــــــ
تفيد الرفيقة ميليا ضومط زينون أبو جودة (أم فاروق) أن سعاده قام في سنوات العمل السري 1932-1935 بزيارتين إلى مديرية الزلقا-جل الديب، مفاجئاً في المرتين الرفقاء بحضوره، فيما هم في اجتماع حزبي.
الزيارة الأولى تمّت في مطحنة "الأمير" أمين أبي اللمع (حيث كان يعمل أحد الرفقاء) والواقعة في منطقة البحر من جل الديب . أما الزيارة الثانية فقد تمّت في منزل مهجور في أحد البساتين في عمارة شلهوب يخص السيد يوسف الخوري (عرف بيوسف البسوسي كون العائلة أساساً من قرية بسوس) .
وتورد الرفيقة ميليا أسماء الرفقاء الأوائل الذين ما تزال تتذكر أسماءهم ، وهم :
يوسف زينون ، ميشال الحجل ، جريس طانيوس أو جودة (أبو فاروق) ، ميليا ضومط زينون أبو جودة ، شقيقتها لويز ضومط زينون ، سليم سعدالله وابنته جورجيت ، إبراهيم أنطون أبو جودة ، ملحم ماضي أبو جودة وزوجته ليندا ، نعيم غالب أبو جودة ، شكري الياس مخايل أبو جودة ، نهاد ملحم حنا ، جريس خليل أبو جودة ، وليم صعب .
وتروي الرفيقة ميليا أن سعاده عندما وصل فجأة في الزيارة الثانية ، وجد المكان مكتظاً بالحضور ، ومعظم الرفقاء يجلسون على الأرض ، ففعل مثلهم ، وأبى أن يجلس مكان المدير الرفيق عبدو رزق الله زينون الذي كان دعا سعاده إلى ترؤس الجلسة ، قائلاً له : أنت المدير ولك أن تترأس الاجتماع ، واستمر جالساً "متربعاً" على الأرض مع رفقائه .

هوامش
(1) من أيام الحزب : شارون ، عماطور ، بكفيا ، صافيتا ، تلكلخ طرطوس وغيرها .
(2) قبل وضع الدستور كان ناموس العمدة يدعى سكرتيراً ، كما أن عمدة الإذاعة والإعلام كانت تدعى في بدايات تأسيس الحزب عمدة الدعاية والنشر .
(3) لم يستمر طويلاً في الحزب ، كان أول منفذ عام للحزب في طرابلس ، وهو خال الرئيسين رشيد وعمر كرامي .
(4) في هذا لدلالة واضحة عن كيف كان سعاده يتقيد بدستور الحزب وقوانينه ، حتى في السنوات الأولى من تأسيس الحزب .
(5) من بترومين الكورة ، وهو أول رفيق ينتمي إلى الحزب في منطقة الكورة .
(6) أي ناظراً للتدريب ، تسمية ناظر ميليشيا اعتمدت في بدايات سنوات التأسيس .
(7) كان انتمى في طرابلس . كذلك شقيقته ليلي التي كانت من أولى رفيقاتنا في عاصمة الشمال اللبناني ورفيقة مناضلة . تولى الأمين أنيس مسؤوليات حزبية محلية في طرابلس ، ومركزية ، في أدق الظروف . وكان يتمتع بوعي عقائدي جيد وبسمو مناقبيته ، لديه دراسات عديدة ، ومؤلف كتاب "نسف الأضاليل ، خطوة أساسية في إزالة إسرائيل" .
(8) انتمى إلى الحزب عدد جيد من آل أديب . منهم خالد أديب الذي منح رتبة الأمانة ، التحق بسعاده عند توجهه عام 1938 إلى البرازيل فالأرجنتين . طرد من الحزب . منهم أيضاً فضل الله أديب ، والأشقاء سعدالله ، رياض وبرهان .
(9) من الرفقاء الذين كانوا انتموا في طرابلس نذكر (إلى الدكتور سميح علم الدين) الأمين مصطفى المقدم ، عبدالله أيوب ، الأمينة نجلا معتوق حداد ، سعد الله عدره ، عزمي بارودي ، سعدي ذوق ، المحامي مصطفى ذوق ، المحامي روبير خلاط ، أنور المقدم ، فريدريك خلاط ، الدكتور نجيب خلاط ، الشاعر يوسف الخال ، الممرضة نوفا حردان سرتان ، أمين المجذوب ، جورج عشي ، فاطمة القدسي ، نظير الحاج ، ليلي فاخوري .
(10) تسمية عمدة الدفاع في تلك الفترة .
(11) انتمى الرفيق زكريا لبابيدي في أميون عندما كان يعمل كاتباً في محكمة البلدة ، تولى بعد ذلك مسؤوليات عديدة محلية ومركزية ، تعرض للسجن مراراً وهو من مناضلي الحزب .
(12) هو أول رفيق ينتمي إلى الحزب من أبناء بلدة ومنطقة جزين .
(13) تولى في الحزب مسؤوليات محلية ومركزية ، منها منفذ عام وعميد دفاع . انتخب لعضوية المجلس الأعلى ، وعرف بنضاله الحزبي المميز . كان تعرّف إلى سعاده في البرازيل .
(14) منح لاحقاً رتبة الأمانة .
(15) كان أديباً وشاعراً ومربياً ، درّس في الكلية الاستعدادية (I.C) التابعة للجامعة الأميركية ، منحته الدولة اللبنانية وسامين تقديراً لعطاءاته .
(16) من صيدا، صيدلي ، وهو صاحب صيدلية "المدينة" في شارع الحمراء ، بيروت.

الامينة الراحلة نجلا معتوق

الأمينـة الراحلـة نجـلا معتـوق حداد

الأمينة الراحلة نجلا معتوق حداد، اسم سطع في تاريخ العمل الحزبي، رفيقة وأمينة ومناضلة لم تتقاعس يوماً، واستمرت على زخم ايمانها والتزامها العقائدي وانتظامها الحزبي في الوطن، في مختلف الظروف، ثم بعد ان انتقلت الى تورنتو – كندا، وحتى آخر لحظة من حياتها.
اذ نحكي عن دور المرأة في الحزب، نحكي كثيراً عن الأمينة نجلا معتوق، معتبرين نضالها الحزبي قدوة لكل مواطنة ورفيقة، وصفحات ناصعة في تاريخ الحزب.
لعل الحديث الذي أجراه الرفيق يوسف الجبري (تورنتو) مع حضرة الأمينة نجلا ونشر في العدد 775 تاريخ 02/03/1991 من مجلة " البناء - صباح الخير " وشاركته فيه المواطنة فخرية القاوقجي، من أفضل ما يلقي الضوء على السيرة الشخصية والحزبية للأمينة نجلا.

الأمينـة نجـلا معتـوق حـداد:
ليس لنا خلاص إلا بالنهضة القومية الاجتماعية
الأمة تنتصر بكم وبمبادئكم أو ينتصر أعدائها

حضرة الأمينة هل لك أن تحدثينا منذ متى تعرفت على الحزب وكيف؟.
سنة 1935 وفي مدينة طرابلس حيث كنت أسكن واعمل معلمة في احدى مدارس المدينة للبنات وكما تعلمون في ذلك الوقت كانت طرابلس مدينة محافظة جداً لا تسمح بالاختلاط وكان عالم الرجال هو المسيطر، كانت النساء محجبات، وحتى عدد كبير من النساء المسيحيات كن محجبات ايضاً، وكان عمل المرأة مقصور على الطبخ وتنظيف البيت فقط.
في هذا المجتمع المغلق والمتعصب الذي لا يسمح للمرأة ان تنزل من البيت وتخرج لتحمل مسؤولياتها في المجتمع مع الرجل جنباً الى جنب، في هذا الجو المتزمت تعرفت على الحزب، بوساطة الرفيق أنيس فاخوري، حيث كانت تربطنا وعائلته صداقة قديمة، فاتحني الرفيق فاخوري بأمر الحزب وأطلعني على مبادئه وأهدافه وكانت في ذلك الوقت لا تزال مكتوبة بخط اليد، وعرض عليّ حضور الاجتماعات الاذاعية التي كانت تعقد سرياً بسبب ملاحقة الفرنسيين، وحين بدأت حضور تلك الاجتماعات تعرفت على عدد من الرفقاء منهم خالد أديب، مصطفى المقدم، وسعد الله أديب، تابعت حضور تلك الاجتماعات بشغف، أناقش وأسأل وأستوضح كل كبيرة وصغيرة، أود أن اعرف وأتعلم كي أعلّم غيري، أود أن اتسلّح بالحقيقة كي أدافع عنها، كنت أصغي بعمق، كنت أخذ كل شيء وأهضمه بسرعة، لا تتصور كم كان شغفي كبيراً للتعرف، كنت أحب ان اختصر الزمان كله بساعة واحدة. لقد رأيت في تلك الاجتماعات صورة أمتي وهي تعطي العالم الحرف والعلم والفلسفة والشرائع، رأيتها تشق البحر لتعلّم وتعمّر وتبني، رأيت نبوخذ نصر وأبو العلاء المعري ويوسف العظمة يقودون أمتهم الى مراضي العزّ والفلاح، يدافعون عن كرامتها وشرفها وعزها، رأيت كل هذا في تلك الاجتماعات، ولما اختمرت الفكرة بداخلي وحصلت عندي القناعة التامة، أعلنت للرفقاء المسؤولين أنني جاهزة للانتماء.
فدخلت الحزب سنة 1936 وأقسمت يمين الولاء لأمتي ولحركتها التي أخذت على عاتقها تحقيق وحدتها القومية الاجتماعية، كنت وحدي بين الرجال أحضر الاجتماعات الحزبية، وأقوم بكل ما يُعهد به اليّ بروح ثابتة وايمان عميق بالقضية والزعيم، أتنقل بين الوحدات الحزبية المنتشرة في لبنان والشام، أنقل الأوامر الحزبية والتعليمات دون أن ألفت اليّ نظر المراقبين المستعمرين الذين كانوا يتربصون بالحزب وأعضائه ومسؤوليه وكنت ألبس الحجاب أحياناً لأبعد عني الشبهات.

كيف تجاوزت العادات التي كانت سائدة في طرابلس والتي كانت تحرّم على المرأة دخول الأحزاب والاختلاط بالرجال؟.
كانت لزيارتي الاولى لسعاده والتعرّف عليه الأثر الكبير في دفعي الى الأمام واجتيازي صعوبات كثيرة، أنك تشعر في حضرته انك أمام قضية مقدسة كبرى، أنك تشعر في حضرته أنك تواجه أمة بكل تاريخها وأمجادها وعظمتها وترى المستقبل أمامك باسم مشرق، انه يصبّ فيك كل هذا التاريخ وكل هذه العظمة ويزوّدك بثقة عظيمة وأمل لا حدود له. في نهاية المقابلة تحدث سعاده عن أهمية المرأة في المجتمع، وانه لا يجوز ان يكون نصف المجتمع معطّل وان المرأة لا ينقصها شيء من أن تأخذ دورها في النضال الى جانب الرجل وان النهضة القومية بحاجة ماسة للمرأة الواعية مسؤوليتها كأم وزوجة ومربية للأجيال القادمة لذلك يجب ان تكون واعية هذه المهام. من ضمن نظرة قومية اجتماعية، خرجت من عند سعاده وكلي أمل وثقة بالمستقبل.
عدت الى طرابلس وبدأت أبشر بالقضية بين النساء. لاقينا صعوبات كثيرة من الأهالي لكننا تجاوزناها بكثير من التأني والصبر، وكان الحزب يبعث لنا لجنة اذاعية لتساعدنا على نشر المبادىء، وهكذا دخلت الفكرة القومية الى بعض البيوت وقد أصبح كثير من الأهالي يقدّرون الحزب.
لقد تجاوزنا تلك الحواجز بأن ثابرنا على العمل البنّاء، وكنا نثبت للسيدات أن نشاطنا هذا هو أثمن من أن نجتمع على حديث خاص، أو زيارات خاصة نقتل فيها الوقت بدون فائدة، نضيعه على سفاسف الأمور.
وصادف أن طلب مني المسؤولون في جمعية رعاية الطفل في طرابلس أن ادخل معهم بالجمعية كأمينة صندوق ولكني رفضت وفضلت ان استلم المسؤولية الثقافية فيها لأتمكن من نشر مبادىء الحزب بهذه الطريقة، واول عمل قمت به في تلك الجمعية أن بذلت كل جهدي لأدخل الى الجمعية، النساء من جميع الطوائف حيث كانت العضوية فيها مقصورة على طائفة معينة فنجحت تلك الفكرة وأصبحت العضوية مفتوحة لكل المواطنات بغض النظر عن دينها، وطائفتها ومن خلال عملي في تلك الجمعية واصلت عملي الحزبي، واخترت عدداً من السيدات، الذين توسمت بهن خيراً وبدأت أحدثهم عن الحزب وعن مبادئه وعن واجباتنا كنساء والتي لا تقل عن واجبات الرجال وطلبت منهن ان يحضرن الاجتماعات الاذاعية، فلبين الدعوة باندفاع حيث كان الكثير منهن بانتظار من يكتشفه، وكانوا على استعداد وشوق للعمل القومي الجاد.
وأنشأنا مديرية للسيدات في طرابلس قامت بنشاطات كثيرة في بث الروح القومية والابتعاد عن الطائفية، وأقمنا المشاريع المالية المتعددة لمساعدة خزينة الحزب الفقيرة، وقمنا بتأمين الكثير من المراسلات المهمة، وتبليغ المهمات السريعة.

هل لكِ ان تحدثينا عن نضالك الحزبي خاصة أثناء الانتداب الفرنسي حين كان الحزب ملاحق من الفرنسيين والدولة اللبنانية؟.
أذكر مرة ان مديرية النساء كانت مجتمعة في بيتنا إذ داهم البيت رجال الشرطة وفتشوا البيت واخذوني والرفيقة املي الحلبي الى المنفى في ضيعة اسمها الدراكين بتهمة اننا نقوم بنشاط لحزب غير مرغوب فيه، بقيت في ذلك المنفى مدة شهر كامل حيث أفرجوا عني بسبب أني كنت حاملاً بإبنتي أميمة، كما أفرجوا عن الرفيقة أملي شرط ان نثبت وجودنا في دائرة الشرطة مرتين باليوم.
كان حضرة الزعيم يستعمل عنواني في مراسلاته من مغتربه القسري مع المسؤولين في الوطن، وفي احدى تلك المراسلات التي وصلتنا بواسطة البريد جريدة مرسلة من حضرته ناطقة باللغة الاسبانية وفي داخلها مبلغ من المال يطلب مني حضرة الزعيم ان أسلمه للمسؤولين وأذكر منهم المرحوم اسد الأشقر.
تابعت القيام بتلك المهمات وصرت انقل البريد عبر الحدود الذي كان يصلنا عبر ذلك العنوان دون ان الفت النظر فكنت اتحجب دائماً أثناء تنقلاتي بين الوحدات الحزبية.
وبالرغم من كل الحذر والتخفي فقد اكتشفت الشرطة بأني أقوم بنشاطات حزبية، فعادوا والقوا القبض عليّ وأجروا معي التحقيقات وكان رئيس المحكمة التي حققت معي آنذاك الجنرال فؤاد شهاب، وأعضاء محكمته في ذلك الوقت من الفرنسيين. وقد حكم عليّ بالسجن مرة اخرى، وبعد ما يقارب الشهر من وجودي بالسجن أفرج عني بسبب أني أم ولي أطفال بحاجة الى رعايتي.

حدثينا عن ذكرياتك مع حضرة الزعيم؟.
بعد عودة حضرة الزعيم من مغتربه القسري ذهبت وزوجي للسلام عليه وكان قد صحبنا في ذلك المشوار الأمين أنيس فاخوري وذهبنا الى مكتبه وكان في شارع المعرض، فاستأذن لنا الأمين فاخوري، واستقبلنا سعاده بابتسامته المعهودة التي تضفي على الجو الثقة والاطمئنان، فوقف من خلف طاولته البسيطة جداً ومشى نحونا ليسلم علينا ودعانا للجلوس على كرسيين قديمين كانا موجودين بالغرفة، طلب منا حضرته أن نحدثه نحن ونخبره عن سير الأمور في منطقتنا، وقد استمع لي ولم يقاطعني أثناء حديثي أبداً الى أن انتهيت، وقد ظهر لي من تعليقه على حديثي بعد ان انتهيت انه على علم بكل شيء فبعد أن زوّدنا بتوجيهاته، ودّعنا كما استقبلنا بابتسامة الواثق من قضيته، بعد ان خرجنا من عند الزعيم تطلع زوجي اليّ وقال: هل لاحظت طاولة الزعيم البسيطة " المكسورة "؟ قلت: نعم لاحظت. كان زوجي يملك مصنع "موبيليات" وقد فوجئت بعد أسبوع بأن طلب مني زوجي ان أرافقه الى بيروت لنقدم لحضرة الزعيم مكتباً فخماً بالنسبة لتلك الطاولة، كان قد صنعه خصيصاً في ذلك الأسبوع لتقديمه لمكتب الزعيم، وذهبت معه وقدمناه، وهو موجود الان بحوزة الرفيقة اليسار ابنة حضرة الزعيم.
في احدى المرات أرسل سعاده في طلبي وقال احضري معك رفيقة ذات ثقافة حزبية عالية، وذهبت واصطحبت معي مذيعة المديرية الرفيقة زينب عرفات، وكانت بالرغم من عضويتها في الحزب لا تزال محجبة، وعند وصولنا عرض علينا حضرة الزعيم خريطة وقال سوف تذهبون الى دمشق وتنشئون أول مديرية للسيدات فيها، وقال خذوا هذه الخارطة معكم وستذهبون الى هذا البيت، وأشار بإصبعه الى الخارطة، وفعلاً ذهبنا الى دمشق والى نفس البيت فوجدنا هناك الرفيق جورج بلدي (1) وعدداً من السيدات وكن جاهزات للقسم والانتماء، وقمنا بإجراء مراسيم القسم وأنشأنا المديرية وقمنا ايضاً بإجراء الأمور الدستورية والادارية وتمّ انشاء اول مديرية للنساء في دمشق. نمنا تلك الليلة في دمشق وفي صباح اليوم التالي عدنا الى بيروت، وقدمنا تقريراً لحضرة الزعيم عن مدى نجاح تلك المهمة، ومرة اخرى في طريقه لزيارة كان قد قام بها لصافيتا ومرمريتا، مرّ على بيتنا وكان الوقت وقت غداء وبينما كنا معاً نتناول طعام الغداء اذ داهمتنا الشرطة بحجة أنهم يبحثون عن السلاح فما كان من حضرته وبكل رباطة جأش وهدوء أعصاب ان تحدث معهم حديثاً شيقاً، ودعاهم لمشاركتنا بالطعام فاعتذروا شاكرين. بعد تناول الغداء واصل رحلته المقررة. وبعد فترة من الزمن زار حضرته منطقة الكورة بدعوة من المرحوم الأمين عبد الله سعاده وقد تجلّت عظمة الحزب وقوته بالحشود الكبيرة التي جاءت من كل مكان، وكانت الهتافات تشق عنان السماء بحياة سورية وسعاده وارتجل حضرته خطابه المشهور الذي قوطع مراراً بالهتاف والتصفيق.

كيف ومتى مُنِحتِ رتبة الأمانة؟.
قبل مغادرة سعاده الوطن بفترة بسيطة متجهاً الى المغتربات بُلغت لحضور اجتماع لمجلس الأمناء، فحضرت وهناك بُلّغت منحي رتبة الأمانة، وكنت أول سيدة بالحزب تمنح هذه الرتبة وصار لقبي "الأمينة الاولى"، الى أن عادت زوجة حضرة الزعيم الى الوطن، فاجتمع المسؤولون ورأوا انه من اللائق ان تحمل زوجة الزعيم لقباً حزبياً، خاصة وانها كانت تساعده وتسهر على راحته وتوفر له كل أسباب الاستقرار والطمأنينة وكانت له الرفيقة والزوجة والمساعدة وشاركته في كل مصاعب ومسؤوليات الحياة التي كانت تواجهه وتواجه العمل الحزبي في مغتربه القسري، فوجدوا ان لقب الامينة الاولى هو أفضل ما يمكن ان يطلق على زوجة سعاده. وهكذا فقد استدعوني وأطلعوني على رغبتهم، فتجاوبت معهم في الحال وتحمست كثيراً للفكرة وكنت سعيدة أن أقدم لرفيقة سعاده هذا اللقب وتنازلت فوراً عنه فأصبحت زوجة الزعيم هي الأمينة الاولى، وصرت احمل لقب الأمينة وهو اللقب المعروف لرتبة الأمانة.

كيف كان سعاده يعالج الأزمات سواء كانت حزبية داخلية أو خارجية سياسية مثلاً أو مواجهة السلطة الحاكمة؟.
بالنسبة للأمور الداخلية وهي في نظري الأهم، لقد كان سعاده صاحب عقيدة ومبدأ ونظرة جديدة الى الحياة والكون، وهذا يتطلب من المقبلين على هذه الحركة، والأعضاء فيها على السواء ان يكون سلوكهم منبثق من هذه النظرة الجديدة، وان يكون سلوكاً قومياً اجتماعياً، في جميع الحالات وتحت كل الظروف فما الفائدة بأن نقول بالقومية الاجتماعية ويتصرف بعضنا كطائفيين وعشائريين، ونقول بإقامة الحياة الجديدة ولا نصارع من أجلها أو أن يقتصر صراعنا من على المنابر فقط، وينهار أحدنا أو بعضاً منا تحت أول سوط يقع على جسده.
سعاده أرادنا كباراً كبر القضية، أرادنا تجسيداً لعظمة هذه الأمة، ورسل هدى للمبادىء التي وضع. بعد عودة سعاده من المغترب رأى ما آل اليه وضع الحزب على يدي نعمة ثابت ومأمون اياس وفايز صايغ وعن مواقفهم المساومة على القضية وعلى الأخلاق القومية الاجتماعية من أجل الوصول الى الكرسي، وبالرغم من ان كل واحد منهم يتمتع من الناحية العلمية والثقافية والمكانة الاجتماعية التي لم تتوفر للكثيرين غيرهم.
هنا ظهر سعاده انه صاحب قضية لا صاحب أشخاص، هنا فضّل سعاده القضية على الأشخاص مهما بلغ شأنهم مع ان الحزب كان بحاجة ماسة لهم، واختار القضية ونبذ الأشخاص، لأنه من كانت غايته الوصول الى الكرسي فإنه ينتهي بإنتهاء فترة الجلوس عليها ومن كانت غايته العمل للحياة فإنه يبقى ما بقيت الحياة نفسها، اليس هو القائل، نحن جماعة لم تفضل يوماً ان تترك مبادئها وايمانها واخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له.

ماذا تنصحين الأجيال الجديدة من القوميين الاجتماعيين؟.
أبلغهم بأن ليس لنا خلاص الا بالنهضة القومية الاجتماعية واخلاقها والأحداث الجارية على أرض الوطن الان خير دليل، على ما أدعوكم " أن تعو مهمتكم بكامل خطورتها"، ليس هناك الا حلّين اما ان تنتصر الأمة لكم وبمبادئكم وإما ان ينتصر اعدائها، لا تعايش بين الحق والباطل الحق انتصار على الباطل في معركة انسانية.
انتم جنود الحق واكتافكم اكتاف جبابرة أصغوا الى صوت سعاده يقول، "ما أشد اعتزازي بكم وما أعظم الانتصار الذي أسير بكم اليه".


(1) من مناضلي الحزب، تولى مسؤولية منفذ عام دمشق.
هاجر الى كولومبيا حيث استقر في مدينة كرتجنا، نشِط حزبياً وتولى مسؤولية منفذ عام ومندوب مركزي. مُنح رتبة الأمانة. توفي في كولومبيا منذ ما يزيد على عشر سنوات.

الشاعر المنسي وهيب عودة

كنا أوردنا بتاريخ 30/03/2010 عن التكريم الذي أقامته جامعة سيدة اللويزة، برسا – الكورة، لمجموعة من أدباء الكورة الراحلين، إلا أن اللجنة المسؤولة عن التكريم لم تأتِ على ذكر الشاعر وهيب عودة الذي وصفه الامين لبيب ناصيف في حديثه عنه "بالشاعر المنسي".
ولإعطاء هذا المبدع حقّه وما كان للنهضة القومية صلة متينة في تحفيز الرفقاء كالشاعر وهيب عودة على العطاء وتجلي مواهبهم، نورد ما كتبه الامين لبيب ناصيف عن الشاعر عودة:
*
وهيب عودة : الشاعر المنسي


نشرت جريدة " البناء " الاسبوعية في عددها رقم 56 بتاريخ 1/4/1972 القسم الأول من ملحمة شعرية بعنوان " ثامار ".
قبل ذلك كانت جريدة " الجيل الجديد " الصادرة في دمشق قد نشرت في أحد أعدادها، العام 1952، الملحمة الشعرية المذكورة .
صاحب تلك الملحمة شاعر قلما سمع به المواطنون باستثناء قلة من الذين تقدم بهم العمر خاصة في بلدته أنفه، هو الشاعر المهجري وهيب عودة .
من المؤسف أن الشاعر الذي عرف كثيراً في المهجر البرازيلي وله العديد من القصائد المنشورة في مجلات وصحف الوطن والمغترب البرازيلي، وثلاثة دواوين لم تطبع، تناسته لجنة التكريم التي اكتفت بأن أقامت له حفلة تأبينية، كما تناسته وزارة الثقافة، مثله مثل العشرات من شعراء المهجر الذين وافتهم المنية مرتين: الأولى عند وفاتهم، والثانية عندما أسقطتهم من الذاكرة وزارة الثقافة والهيئات الثقافية العاملة في لبنان، فلم تر في شعراء المهجر سوى قلة ضئيلة منهم، فيما ضاع العشرات من الأفذاذ، ليس الشاعر وهيب عودة إلا نموذجاً لهم .
فماذا عنه ؟
* * *
نشرت " البناء " في عددها تاريخ 25 آذار 1972 النبذة التالية عن الشاعر وهيب عودة:
- ولد الشاعر وهيب إسكندر عودة في بلدة أنفة – الكورة، في 28 آب 1912 (1) .
- تلقى علومه الابتدائية في مدرسة " المساواة الوطنية "، أنفة، وأكمل علومه العالية بين المدرسة الأميركية – طرابلس، والكلية الإنجيلية – حمص، حيث تخرج منها عام 1929 ليكمل دروسه في الجامعة الأميركية ، بيروت .
- مارس التعليم مدة، وكان يكتب في جريدة " الرائد " (2) الطرابلسية وفي صحف أخرى .
- وصل البرازيل في 14 شباط سنة 1949، ومارس التجارة كما كتب في عدة صحف ومجلات .
- توفي في 23 شباط 1959 في مدينة الريبارون بريتو Riberâo Preto (ولاية سان باولو) .
- تألفت لجنة في سان باولو لإحياء ذكراه من كبار رجال الأدب في الجالية السورية هناك، كما تألفت لجنة أخرى في الوطن لإحياء ذكراه حيث أقيمت حفلة تذكارية في مسقط رأسه في 21 حزيران 1959 .
إلا أن " البناء " لم تشر في النبذة عن الشاعر وهيب عودة أنه تولى مسؤولية منفذ عام الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
فهذا ما يوضحه العدد الثاني (أول تشرين الثاني 1944) الصادر عن النشرة الحزبية الشهرية لعمدة الإذاعة، إذ يورد في باب التعيينات أن الرفيق وهيب وهبه عين منفذاً منتدباً لمنفذية الكورة العامة بدلاً من الرفيق شفيق غنطوس (3) المستقيل .
* * *
عنه نشر الأديب جرجي ساسين مقالة في العدد التاسع، عام 1958، من مجلة " النور "، نقتطف منها المعلومات التالية :
- اقترن من ابنة خاله، هيفاء ميشال سامي الخوري، في أوائل الأربعينات ورزقا بثلاثة أولاد: مريانا، فدى واسكندر .
- عمل في شركة الترابة اللبنانية في منطقة شكا، وإذ آلمه وضع العمال سعى إلى المطالبة بإنشاء جمعية نقابية تدافع عن حقوقهم مما أدى إلى طرده من الشركة مع عدد آخر من العاملين فيها، فانتقل للتدريس في مدرسة " المساواة الوطنية "، وكان مسؤولاً عن " جمعية أرزة لبنان للخطابة " لتشجيع الطلاب على إتقان الخطابة وإلقاء الشعر .
- كان ينشر قصائده في الصحف الشمالية، الرائد، والأفكار (4)، وبعض صحف بيروت . وعمل عضواً في " الرابطة الأدبية الشمالية " .
- غادر إلى البرازيل عام 1949 مع خاله سامي خوري على أن يعود إلى لبنان بعد الزيارة، لكنه استقر هناك وأرسل في طلب عائلته . وفي البرازيل رزق بابنته سعاد .
- تابع في المهجر نشاطه الأدبي والاجتماعي وكان يراسل الوطن الأم والأهل حتى وفاته في 23 شباط 1959 إثر مرض مؤلم ودفن في البرازيل .
أقيـم له جنـاز في أنفة مع تأبين عند مدفن العائلة في ساحة كنيسة القديسة كاترينا، وتألفت لجنتان لإحياء ذكراه في لبنان (5) وفي البرازيل (6) حيث جرى تكريمه في 28 آب 1959 (7) (ذكرى مولده) وفي لبنان أقيمت حفلة التكريم في 21 حزيران 1959 في مدرسة جبران مكاري (المساواة الوطنية سابقاً) ابَنه فيها تسعة خطباء وشعراء (8) .
- نشرت " الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم " بعض أشعاره سنة 1971 ، تكريماً لذكراه .
* * *
وعن الشاعر وهيب عودة ، يقول الاستاذ عبدالله قبرصي أنه " كان شاعراً ، أديباً وخطيباً وكان بالنسبة للحزب ممتازاً بفهمه للعقيدة والتبشير بها .
كان يعد بان يصبح ركناً كبيراً للحزب ليس فقط في الشمال، بل على امتداد أرض الوطن، لأنه لم يكن عادياً في فهمه للعقيدة وفي ممارستها .
أنا شخصياً، يتابع الأمين قبرصي "كنت أنتظر من وهيب عودة مؤلفات، وبخاصة في مواضيع عقيدتنا ونظامنا " .
الأستاذ جبران جريج يتحدث عن الشاعر وهيب عودة في أكثر من مكان في الجزء الثاني من مجلده " من الجعبة " ، وإن لم يورد تاريخ انتمائه .
في الصفحة 215 يقول الأستاذ جبران : أما في الكورة فقد انتشر الحزب بشكل عجيب غريب، والأعجب من ذلك كيف استطاع المسؤولون اللحاق بسرعة هذا الانتشار.
كان قد تعين للمنفذية ناموس هو الرفيق حليم عكر من كفرحزير وشفيق غنطوس للرياضة من أميون وهو الخبير بالشؤون الكشفية، منذ قبل انتمائه إلى الحزب، فكم من فرقة كشفية أنشأ في الكورة وتابعها بشكل منتظم رائع .
أما للإذاعة فقد تشكلت لجنة إذاعية من الرفقاء ذوي الطاقات والمواهب الثقافية وإن كان أكثرهم حديثي الانتماء أمثال عبدالله سعاده من أميون، وهيب عودة الشاعر، عزيز جبور من أنفة، أضف إليهم جبر جوهر صاحب جريدة " الرائد "، وبعدهم نبيل مكاري وإبراهيم نخول ثم وجيه الأيوبي ، الشاعر من بلدة نخلة .
من جهتها تورد جريدة " النهضة " في عددها 25 تاريخ 11 تشرين الثاني 1937 اسم الشاعر وهيب عودة في عداد وفد من بلدة أنفة ضم أيضاً الرفيق الصحافي جبر جوهر والرفيق توفيق عودة ، قام بزيارة مكتب " النهضة " إثر ما نشره الكاتب الاقتصادي في الجريدة حول موضوع إلغاء الملاحات على الشواطئ البحرية معتبراً " أن هذا الإلغاء يجر على ألوف اللبنانيين الشقاء والفقر والتعاسة " ومطالباً الحكومة أن تعدل عن تدبيرها هذا وتشجـع القائمين باستخراج الملح في لبنان لأنه مورد قومي جيد .
* * *
هذا هو " بعض "وهيب عودة ، الشاعر المقيم والمهجري الذي عرفته جيداً المناسبات القومية والعامة في الوطن وفي البرازيل، ولتكريمه تشكلت لجنتان اكتفيتا من ذلك بإلقاء الخطب والقصائد ، فلم تعمد أي منهما إلى إصدار دواوينه الثلاثة التي في عهدة زوجته وأولاده في البرازيل، كما يفيد الكاتب محسن أ. يمين، ولا مخطوطته " ثامار " التي في حوزة شقيقه توفيق (9) .
لعلنا في هذه المقالة نضيء على شاعر منسي ونقول لمن عرفه في بلدته أنفة أن لا يزيدوا من غربته، ومن مماته، بل أن يحاولوا استعادته للذاكرة وللبقاء حيا عبر ما أنتج وأعطى .
* * *
من شعره
أعدّ الشاعر وهيب عودة قصيدته هذه ليلقيها في احتفال أقيم في مدينة " أراراكوارا " (ولاية سان باولو) في 8 تموز 1952، في الذكرى الثالثة لاستشهاد سعاده، إلا أن أسباباً صحية اضطرته لعدم إلقاء القصيدة بنفسه، فألقاها عنه رفيقه يوسف رعد .
أنت حيٌّ فينا
قبّليه على الجبين المجعَّدْ قبلةَ الحقّ للجهاد المجرّدْ
وامسحي جرحك المدمّى بطيفٍ من رداه ، فكم جراحٍ ضمَّدْ
عبقريٌّ هو . وثورةُ قدس في دمِ الأمَّة الأبيّة تُوقَدْ
* * *
بورك الحقُّ يا بلادي فلولاك ، لكان الوجودُ منه مجردْ بورك الخيرُ ، خيرُ تربتك السمحاء ، يكسو الدنى جمالاً يُعبد بورك الخصبُ ، لا تملُّ أياديك عطاءً ، وبورك النورُ يمتدُّ تخلقين الأبطال في الزمن الصعبِ ، لحطم القيد العتيّ المعّقَّدْ لا تموتين . والحياة صراع كلَّ من مات في هواك تمجَّد غير أن الأولى تعاموا عن النور ، فناموا والجهل في كلّ مرقد هالهم أن تُزاح أغطيةُ الجهل (الليل) فتبدو أوهامُهم تتبّدد طعنوا الأمة العظيمة في الظهر ، وعقّوا الذي هداهم وجدَّدْ فاكتسى معطفُ التحرّر لون الدم السمح على ثورة ليس تُخمد فانطلقنا زوابعاً هادمات بانياتٍ معالم المجدِ بالجّدْ نقحم النجم أين حطَّ ونسمو في هضاب إلى العلى تتمدَّدْ رجلنا في التراب تنبت خيراتٍ وأهدافنا جبين الفرقد
* * *
بورك الجرح يا بلادي يسيل العزّ منه على رتاج المعبد رشفته جراح أمتنا الظمأى ، حياةً ونهضةً تتوقّدْ فاندفعنا نزيح أثقال ماضينا ، ونرنو إلى المعالي وننهد أمّةً في جراحها كبرياءٌ حبّذا الموت مع نبيل المقصد
* * *
يا زعيمي ، يا وقفة العزّ ، والموتُ شجاعاً عيشي إليك فينهدّ يا زعيمي ، يا وجه أمّتي المثلى ، ويا صورة الجمال المفرد يا انتصار الحقّ الذبيح على الظلم ، في حلبة الصراع المجدّد كلّ ما فيك قد دفعتَ سخيّ النفس للأمّة التي تتشيّدْ أيّ سيل من الدماء غزير أنتّ فجّرته ندى لا يُحدَّد ما سلوناك ، والعراك سجالٌ قائداً عن مراده ليس يرتدّْ ما سلوناك هادياً وزعيماً وشجاعاً على القيود تمرّد أنت حيٌّ فينا وفي سوريانا ووفانا كما خبرت وتعهد أنت حيٌّ فينا ، وتلك الشواطي حاضناتٌ ذكر الفداء المؤبَّد وهتاف الأجيال : " يحيى سعاده " سوف يبقى حقيقة تتردّدْ


من شعره أيضاً

إذا تلفتُ صوب المجد إسأله
أراه يدفعني من كل شبـاك
فيزرع العز في دربي مثلما زرعت
أنامل الأمة العظمى مزاياك
أماه في أمتي عزّ ومكرمة
ونهضة تتحـدى كل أفـاك
* * *
من قال أن الدين يهدم موطناً
فهو المهدم والدعي المقلـق
لا تخلطوا فالدين يجمع شملنا
والطائفيـة تدعـي وتفـرق
* * *
بالدم السمح صبغنا العلما
قل لهـم للـذي مـا علمـا
إننا نمشي إلى استقلالنا
أمة تسعـى ولـن تستسلمـا
فمن السجن بعثنا أمة
ومن المنفى نسجنـا العلمـا
* * *
من قصيدة يا " معلم " نُشرت في مجلة " الرابطة " التي كان يصدرها الأديب والمؤرخ نواف حردان في سان باولو – البرازيل :
قلتها .. يا معلم قلتها تلهب المدى قلتها .. ما أعزها ، أنا أمضي وإنما حسبهم ، ما أذلهم والعظام التـكسرت حسبهم أن ليلهـم والنفوس التي لهم نعموا . ويل قاتل وانتشوا ، ويـح ظالم قبلما ينطق الدم في قوانا وتضرم يوم قالوا وغمغموا يبقى حزبي المنظم لحمك الغض يلقـم والرصاص المدمدم بالعمايـات مـظلم بالحـزازات تفقـم بضحايـاه يـنعـم ينتشي وهو يظلـم
* * *
نحن في الذكرى ننحني إننـا يــا معلـم كـل عيـن وملثـم كـل فكـر وخاطـر كـل عقـل وخافـق فابتسـم يـا معلـم كـل أعداك طأطأوا لهـم اللحـم والـدم لهـم لقمـة الفنــا ونناجـي ونـقسـم لسنـا ننسـى ونسأم ثغـر " تموز " يلثـم مـن معانيه يلهـم مـن أضاحيه يولم كـل أبنـاك أسلموا رأس ذل وتمتموا ؟ ولنا الـروح تطعـم .. ولنا الخلد موسـم

هوامـش

(1) والدته : مريانا جرجس الخوري عودة .
(2) لصاحبها جبر جوهر من بلدة أنفة .
(3) أ. تولى مسؤولية منفذ عام في الكورة، تعرض للاعتقال أكثر من مرة، غادر إلى استراليا وفيها وافته المنية .
ب. تسمية "ناظر التدريب" في حينه .
(4) لصاحبها جورج اسحق الخوري (1912-1984) .
(5) من بين الأسماء التي يوردها الأديب محسن أ. يمين في كتابه "وجوه ومرايا": غسان تويني، الاستاذ عبدالله قبرصي، المحامي ألبير لحام ، الأب رومانوس جوهر، المحامي فوزي غازي، المربي نسيم حنا نصر ، الأستاذ موسى سليمان ، الشاعران سليمان نصر ويوسف الخال، جورج اسحق الخوري (صاحب جريدة "الأفكار" الطرابلسية) والشاعر عبدالله شحادة (من كوسبا) .
(6) ضمت اللجنة في البرازيل (عن مقالة الأديب محسن أ. يمين) كلاً من البرتو شكور، د. فضلو حيدر، فؤاد لطف الله ، يوسف فاخوري، حبيب مسعود، الدكتور جورج نجار، جورج حسون، الصحافي موسى كريّم، توفيق الريس، الشاعر مخايل مخول الخوري، الشاعر توفيق بربر، عبدالله بلحوس، شفيق معلوف، سامي جبارة، خير الله حداد، فؤاد نصر الله، أنطون حيدر، إيلي حايك، ظافر مكاري وأديب دمعة .
(7) يورد الأديب محسن يمين أن الحفلة التكريمية للشاعر عودة أقيمت في نادي راشيا في سان باولو وتكلم نثراً وشعراً كل من: ظافر جبران مكاري، البرتو شكور (منفذ عام الحزب السوري القومي الاجتماعي في البرازيل) فيليب لطف الله (قصيدة) توفيق الريّس، يوسف فاخوري (قصيدة) حبيب مسعود، توفيق بربر (الشاعر المهجري المعروف، من الحاكور، عكار) وراتب خوري عن آل الفقيد .
(8) يورد الأديب يمين أسماء الخطباء والشعراء على الوجه التالي: الاستاذ موسى سليمان (عن الجامعة الأميركية)، المحامي ألبير لحام (عن حركة الشبيبة الأرثوذكسية)، المحامي عبدالله قبرصي (عن الحزب القومي الاجتماعي)، سلوى محفوظ (عن المغتربين - البرازيل)، المحامي فوزي غازي (عن الكورة)، الشاعر كمال خير بك (عن "الشعر الواعي")، الاستاذ غسان تويني (عن الصحافة)، الشيخ عبدالله العلايلي (عن "الأدب الرفيع") وعزيز جبور (باسم عائلة الفقيد) .
(9) توفي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي .

الرئيس سليمان فرنجية شهادات وذكريات

الرئيـس سليـمان فرنجـية
شـهادات وذكـريـات
الكاتب جورج فرشح


بعد أن كان أصدر الكاتب والصحافي جورج فرشح مؤلفاته: فرنسوا متيران والقضايا العربية (1981) خيط رفيع من الدم (1987) كي لا تنتهي الحرب (1988) فوق أكياس الرمل (1991) الدكان(1993) حميد فرنجية (1997) أصدر عام 2002 عن دار نشر بيسان كتابه عن الرئيس سليمان فرنجية، ضمنه شهادات وذكريات من تاريخ 13 حزيران 1978 لغاية 23 تموز 1992.
الكتاب من الحجم الوسط، 222 صفحة، ومن محتوياته:

زمن المحنة:
- اهدن- بيت طوني بيك- 13 حزيران 1978: فدى لبنان!
- قبل المجزرة وبعدها.
- زغرتا- ساحة السيدة: موكب الصمت.
- حاجز كرمسده – طريق اهدن.
- بيروت – الجامعة الأميركية.
- اهدن- قصر الرئيس: لم يقتلوا الأمل.
- واشنطن- مؤتمر تضامن الإغتراب الزغرتاوي.
- "زغرتا في العالم" تعلن الحرب على الكتائب.
- نيويورك- دموع السفير غسان تويني.
- والأجهزة اللبنانية؟
- بلاد الله واسعة، فليرحلوا!
- بيروت – النهار – قصيدة من الستينات.
زمن الإجتياح:
- نيويورك – المؤتمر الماروني.
- زغرتا- ترحيل الفدائيين يساوي توطين اللاجئين.
- مجدليا – جرافات بين طرابلس وزغرتا.
- دمشق – وزارة الخارجية السورية.
- زغرتا- الألمان لا يصدقون أننا سنقاوم.
- اهدن – القصر: الرئيس مرتاح لكامل الأسعد.
- زغرتا- تأسيس تلفزيون لبنان الحر الموحد.
- اهدن – كنيسة مار سمعان وقائد الجوقة.
- جورج يمين.
- زغرتا- الواشنطن بوست- 18 أيلول 1982.
- جسر المدفون – حاجز الجيش والأسرى الإسرائيليون.
- المنيا- مخطوفون في مستوعب / كونتينر.
- زغرتا- الرئيس سليمان فرنجية وبيار صادق بين الغداء والعشاء.
- زغرتا- الإستماع فن عند الرئيس فرنجية.
- روما – الرقم الضائع.
زمن الحوارات المقطوعة:
- جنيف والموعد المفوّت.
- دمشق- قصر الضيافة.
- لوزان- فندق بوريفاج- مؤتمر الحوار الوطني الثاني.
- لوزان – خلاف واصطدام ومؤتمر صحافي واسترضاء.
- لوزان- الياس الشربين وسيدة زغرتا والرئيس فرنجية.
- لوزان- قداس على ضفاف بحيرة ليمان.
- لوزان – مندوب سانا أداة لفرط جبهة الخلاص.
- لوزان- الورقة المجهولة الهوية.
- نويي- الفرق بين اليهودية والصهيونية.
- نويي- صليبا الدويهي يناقر.
- دمشق- الإتفاق الثلاثي والئيس المريض.
- جرود القبيات- قتلى وجرحى من أجل رئيس لن ينتخب.
زمن الخلاص:
- زغرتا – ثكنة المردة: السيرة والموضوعية.
- بيت الكهنة: سليمان فرنجية وحركة الشباب الزغرتاوي.
- بيروت- وزارة الداخلية: ضربوا الطلاب وأهانوهم.
- بيروت- شركة التلفزيون اللبنانية: زيارة وواسطة.
- زغرتا – القصر: لا تحكِ بموضوع "النهار".
*
يقول الكاتب في شرحه لمؤلفه أنه شهادة وليست بحثاً ولا سيرة. السيرة والبحث تلزمها أدوات ووثائق ومراجع ليست متوفرة لديّ. طبيعة الشهادة أنها شخصية. فيها ذكريات وخواطر ووقائع عن علاقة كانت دائماً مصانة بالحب والإحترام والأمانة. حتى في أوقات التوتر. كانت لي ساعات شعرت وأشعرني فيها أني من أقرب الناس إليه. لا أذكر ولا لحظة أنه أشعرني بشيء من اللامبالاة أو الشك. على كل حال، احترام الآخر، أيّا كان، ميزة جوهرية من مزاياه الكثيرة. كان يشعرني بعدم رضاه عن تصرّف أو موقف أو كتابة....
وهذه الشهادة هي جملة مشاهد، حضرتُ بعضها وتحقّقت من البعض الآخر لدى أصحاب العلاقة مباشرة. وسأقصرُ هذه المشاهد على حياته الأخيرة، مع اختراقات سريعة للمراحل الماضية، عندما يساعد ذلك على فهم حدث أو تفسير موقف.
وقد حرصتُ على عدم ذكر مشاهد ومواقف ليس عليها شهود أحياء. مثلاً، حمّلني الرئيس فرنجية رسالة سياسية إلى العميد ريمون اده في باريس، قبل حلول المهلة الدستورية لإنتخاب رئيس للجمهورية في عام 1988. وقد بلّغت. وأحتفظ بالرسالة وبالجواب الشفهيين، على أمل أن يأتي زمان تتوفي فيه امكانية تأكيدهما بوثائق أو شهود.
*
الرئيس سليمان فرنجية في سطور:
- ولد سليمان فرنجية في 4 حزيران 1910 في زغرتا.
- تابع دراسته في مدرسة عينطورة.
- ترك المدرسة باكراً وانصرف لرعاية الشؤون العائلية والسياسية.
- خاض المعارك الإنتخابية كلها لحساب أخيه حميد فرنجية، وتدخل شخصياً لدى عبد الحميد كرامي، في انتخابات 1943، ليقنع الزعيم الطرابلسي بأخذ أخيه حميد على لائحته.
- 16 حزيران 1957، مجزرة مزيارة، واضطراره اللجؤ إلى سوريا بسبب الإتجاه إلى إلقاء مسؤوليتها عليه، حتى قبل انتهاء التحقيق.
- عاد إلى زغرتا بعد انتهاء ولاية كميل شمعون وتسلم الرئيس فؤاد شهاب السلطة. واثبت التحقيق القضائي براءته من أي مسؤولية في مجزرة مزيارة.
- انتخب نائباً للمرة الاولى عام 1960، خلفاً لأخيه حميد الذي أقعده المرض عن متابعة نشاطه السياسي، وأعيد انتخابه في دورتي 1964 و 1968.
- أول آب 1960، وزير للمرة الاولى في حكومة صائب سلام، وسيتولى حقائب البريد والبرق والهاتف والإقتصاد والداخلية، عام 1968، حين أشرف على الإنتخابات النيابية.
- انتخب رئيساً للجمهورية في 17 آب 1970، بفارق صوت واحد، هو "صوت الشعب"، وأقسم اليمين وتسلم السلطة في 23 أيلول 1970.
- شكّل الرئيس صائب سلام حكومة العهد الأولى التي اشتهرت بحكومة الشباب.
- نيسان – أيار 1973، على أثر اغتيال القياديين الفلسطينيين الثلاثة يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، قدم الرئيس سلام استقالته، وتوتر الوضع ووقعت اشتباكات بين الجيش اللبناني والفدائيين.
- تشرين 1973: عند اندلاع حرب تشرين، قدم تسهيلات لوجستية كثيرة لسوريا التي كانت تخوض الحرب إلى جانب مصر، فقامت بينه وبين الرئيس السوري حافظ الأسد علاقة مميزة.
- 15 تشرين الثاني 1974، حمل الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، بتكليف من مؤتمر القمة العربية في الرباط، وتكلم باسم العرب جميعاً.
- 13 نيسان 1975، حادثة عين الرمانة كانت الشرارة التي فجرت الحرب الأهلية.
- 23 أيار 1975، كلّف العميد المتقاعد نورالدين الرفاعي بتأليف أول حكومة عسكرية في تاريخ لبنان، لكنها لم تمثل أمام مجلس النواب، بسبب معارضة المؤتمر الإسلامي لها.
- 24 كانون الثاني 1976، وقع 66 نائباً عريضة تطالب باستقالته لكنه رفض الأستقالة وأصر على إنهاء ولايته.
- 14 شباط 1976، أعلن الوثيقة الدستورية بعد الإتفاق عليها مع الرئيس رشيد كرامي ومع الرئيس حافظ الأسد في دمشق.
- 11 آذار 1976، قام العميد الركن عزيز الأحدب بانقلاب تلفزيوني أكثر منه عسكرياً.
- 15 آذار 1976، غادر قصر بعبدا بعد أن تعرض للقصف على يد الجيش اللبناني العربي.
- حزيران 1976، طلب من الرئيس حافظ الأسد إرسال قوات سورية إلى لبنان لوقف القتال، وذلك بعد إلحاح من أعضاء الجبهة اللبنانية وبعد زيارات قام بها إلى دمشق الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل ونجلاه أمين وبشير الجميل والآباتي شربل قسيس.
- 23 أيلول 1976، غادر السلطة وسلّم الأمانة إلى خلفه سركيس وانضم فوراً إلى الجبهة اللبنانية.
- 13 حزيران 1978، هاجمت مجموعة من القوات اللبنانية اهدن واغتالت ابنه طوني وزوجته فيرا وابنتهما جيهان وثمانية وعشرين زغرتاوياً.
- جريمة اهدن دفعته إلى تعزيز تحالفه مع رشيد كرامي ووليد جنبلاط وإلى دعم قوات الردع السورية واتهام الكتائب بالتعامل مع إسرائيل.
- حزيران 1982، منذ بدء الإجتياح الإسرائيلي وضع امكاناته بتصرف الدولة وأعلن أن الشمال سيقاوم إذا عبرت القوات الإسرائيلية جسر المدفون.
- 23 آب 1982، فور انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في ظل الدبابات الإسرائيلية، أعلن أنه يقطع الحوار ولن يتعاون معه على الإطلاق، ولم يعرب عن أسفه عند اغتيال بشير الجميل، كما لم يعلن مقاطعة أمين الجميل حين انتخب رئيساً خلفاً لأخيه بشير.
- 17 أيار 1983، وقف بعنف ضد اتفاق 17 أيار، وساهم بقوة بإلغائه.
- 23 تموز 1983، أسّس جبهة الخلاص الوطني مع رشيد كرامي ووليد جنبلاط ونبيه بري وأحزاب سياسية أخرى.
- 31 تشرين الأول 1983، و12 آذار 1984، شارك في مؤتمر الحوار الوطني اللذين عُقدا تباعاً في جنيف ولوزان دون التوصل إلى نتيجة مجدية.
- 30 نيسان1984، رفض الإشتراك في حكومة "الإتحاد الوطني" عبر ممثله (صهره) عبدالله الراسي(أرثوذكسي) محتجاً على حصر تمثيل الموازنة بشخص كميل شمعون وبيار جميل.
- صاحب شعار "وطني دائماً على حق" 1969. من مسلماته: عروبة لبنان- العداء المطلق لإسرائيل.
- رؤساء الحكومة في عهده: صائب سلام، أمين الحافظ، تقي الدين الصلح، رشيد الصلح، نور الدين الرفاعي، رشيد كرامي.

الشاعر الراحل الرفيق عبد الكريم صبح

الـرفـيـق الـراحـل الشـاعـر
عـبد الـكريـم صـبـح


بتاريخ 2005/07/13 أوردت عمدة شؤون عبر الحدود النص التالي في نعي الرفيق الشاعر عبد الكريم صبح. قالت:
نعت منفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي في الساحل البرازيلي، وعصبة الأدب العربي في البرازيل، وفاة الشاعر والكاتب الرفيق عبد الكريم صبح.
ولد الرفيق عبد الكريم في قرية "بوردي" قرب نهر العاصي في محافظة حمص.
بعد أن تابع دراسته في ثانويات حمص وتخرج منها، غادر في العام 1951 إلى البرازيل وفيها عمل في التجارة المتنقلة والثابتة إلى أن استقر في مدينة سان باولو.
عمل مساعداً في تحرير بعض الصحف العربية الصادرة في سان باولو، وكلف بتأسيس وإصدار مجلة باسم "الاتحاد"، إلا أنه تخلى عنها بعد إصدار العدد الثالث منها لخلافه مع الممولين حول الكتابة الوطنية العربية والنهج القومي.
انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي على يد المؤرخ والروائي الأمين نواف حردان، وبمساعدته أصدر عام 1981 كتابه "المعجزات في مكارم الاخلاق" وأهداه إلى "المارد العملاق الذي يصارع الدهر والإمبريالية والصهيونية والقبلية والطائفية والانانية، إلى صانع الحضارات ومؤسس سنن الاخلاق ومنشئ الدساتير، إلى شعبي السوري الجبار، أهدي هذا الكتاب".
ثم صدر له عام 1988 ديوان شعري باسم "العواصف" كتب مقدمته، الامين نواف حردان.
أهدى الرفيق عبد الكريم صبح ديوانه إلى "الأحرار المخلصين والأبطال المناضلين من شعبي الكريم الاصيل،المتحررين من العنصرية والطائفية والعشائرية والفئوية".
ولأن مقدمة الأمين نواف تضيء بشكل شامل وصادق عما كان عليه صديقه ورفيقه الشاعر عبد الكريم صبح، ننشرها كما جاءت في ديوان "العواصف" :
هذا ديوان شعر، جديد لشاعر جديد، يطل علينا في هذا المهجر، ليقول لنا إن الادب ما زال بخير، وإنه لم "يفطم" ويتعقم، كما يحاول بعض المتشائمين أن يذيعوا، بل على العكس، ما زالت مواسمه طيبة غنية، سخية العطاء، صافية الرواء.
ديوان شعر جديد هو باكورة انتاج الشاعر عبد الكريم صبح.. القادم إلينا من ربوع الإلهام وفراديسه الظليلة المعطرة.. حيث كان يفكر ويتأمل ويشعر ويحلم ويطمح.. ثملاً بحب الادب الحقيقي.. مأخوذاً بنور المعرفة وقوتها.. مسحوراً بموسيقى الاهة الشعر وبوحها وهمسها.. وتألق الفن الرفيع الوضاح الرائع المياس المقدس.
عرفته منذ ثماني سنوات.. في مكتب جريدة الأنباء وهو في الخمسين من عمره، ولمست في حديثه طرافة وعطشاً للثقافة، وشوقاً للمطالعة، ومحبة للكتب تبلغ حد التقديس، كما عرفت بأنه "راوية " للشعر، يحفظ عن ظهر قلب ألوف الأبيات لشعراء قدامى ومعاصرين.
رأيت في نظراته البارقة عمقاً وذكاءً وقلقاً، وتلهفاً وتحفزاً للإقدام على أمر ما، فقلت له:
- إني أقرأ في نظراتك شعراً.
فابتسم بتواضع وتهذيب خجولاً متهيباً، ثم أجابني:
- إني أنظم بعض الابيات بين الوقت والآخر.
أجبته بأني افتح صدر "الأنباء" له لينشر ما يريد. وصح ظني إذ راح بين الوقت والآخر، يأتيني بقصيدة من نظمه فأنشرها له، وأشجعه وأنعشه، إلى أن صار كما هو عليه اليوم في ديوانه "العواصف" هذا.
وبعد، فماذا نقرأ في شعر عبد الكريم صبح، هذا الشاعر المتواضع الظريف، الذي بدأ النظم وهو في الخمسين من عمره؟ والذي نشأ نشأة دينية، وقرأ وحفظ الكثير من الشعر القديم، والشعر الديني، وظل متأثراً بهما، ولم يستطع حتى الآن أن ينزع عن شعره الجديد، مسحة الدين والقديم.
ماذا نقرا في شعره الجديد؟
إن شعر عبد الكريم صبح يذوب شعوراً رقيقاً وحنيناً طوراً عندما يذكر ربوع صباه، واهله وأحباءه، ويتفجر ثورة على القدر لبعده عن بلاده وما يلاقيه من عذاب ومرارة في ديار الغربة، هكذا:
تركـت الحـمى والأقـربين مغـامـراً وراء سـراب يـلـمـعـي مـعـذب
ثـلاثـون عـاماً بـين نـفي وغربـة أجـدّ وأشـقى فـي طمـوح ومطـلب
ومـا أدركـت كـفي ثـراء وراحـة وفارقـت أمـي والبشـاشـة مـن أبـي
وعيـشا كوجـه الأقحـوانة ضاحـكاً أطـارد فـيـه ربـربـاً بـعـد ربـرب
رعـى اللـه أيـام الصبـابـة والصـبا تقـضت سـريعـاً بين حمـص وادلـب
ويتألق كالأشعة الساطعة تارة، ويتراقص كالنسيمات المتهادية عندما يقع نظره على غادة جميلة شقراء، فيقول فيها:
مـاذا أقول بمـن أوصـافها اكتمـلت أقـول أبـدع فـي تـكوينـها القـدر؟
مليـحـة فـالجمـال الـحق ألبسـها ثـوباً لـه ملكـات الـحـسن تفـتقر
تكـاد من عـفة فيـها ومـن شـمـم تخـتال تيـها بـهـا الأثـواب والحـبر
هيـفـاء فاتـنة عـجـراء سـاحـرة من لحظـها أمراء الشـعر قـد سـكروا
ويدوي ويزأر قاصفاً عاصفاً "كالعواصف" الغاضبة حيناً، عندما يهاجم حصون الرجعية والتخلف ومعاقل الطائفية والجهل والفردية، هكذا:
فـي كـل نـاد ودكـان وجامعـة وجـامـع وجـمـاعـات وعـمّـال
وكـل حـي وحـانوت وحاضـرة صـوت الطـوائـف هـدّار كـشلال
ما رن فـي مـسمعي من كل ناحـية إلا صـداها البغـيض السـاقـط البـالي
يتـاجـرون بـأديـانٍ مـقـدسـة عنـها بـعيـدون بعـد المـاء عـن آل
كـم اتخـمت تاجراً لصـاً تـجارتها فـراح يكتـال ألـماسـا بـمـكـيال
كـم سـائل ملـحف تدمـي وقاحته يقـول في لهـجـة المسـتكبر العـالـي:
مـن أنـت من أين مـن أي الطـوائف مـن أي المـذاهـب غـال أنت أم قال؟
تعـطل السـمـع من تـكرار أسئـلة تسـود الـوجه فـي حـل وتـرحـال
إنـي تمـنيت لـو يجتاحـني صـمـم يحـرر السـمع مـن الـحـاف تسـآل
هكذا يتألق شعر عبد الكريم صبح ويرتسم أمامنا مثقلاً بالمعاني الكبيرة، حافلاً بالشعور القومي الخفّاق مندداً بالأمراض النفسية الخبيثة التي يشكو منها شعبنا هكذا:
حملـت فـي مهـجتي الفـيحاء ثـائرة وفـي ضمـيري وعقـلي والرؤى حـلـبا
ومـا أردت سـوى سـوريـتي بـدلاً ولا اتـخــذت أبــا إلا الأبـاء أبـا
ولا سـجـدت إلـى لات ولا صـنم أكـنت فـي وطـني أم كنـت مغـتـربا
ولا كـرهـت لأجـل الديـن طائفـة فـلتـعبد الـلـه أو فلتـعـبد النـصـبا
وبعد.. فأنا متفائل بشعر هذا الشاعر القوي العارضة.. الطويل النفس، الغزير الإنتاج.. الذي تدور في نفسه اليوم معركة شديدة بين القديم والجديد وأعتقد بأنه سيخرج من هذه المعركة ظافراً.. ويطل علينا مستقبلاً مرة أخرى.. متجدد الأسلوب والنهج والقوى.. متجدد الآمال والطموح.. خفاق الجناحين.. على عزم وتصميم غلابين.. وينطلق في طيرانه ويحلق ويحلق.. فيبلغ الاعالي.. ويتربع في مكانه هناك.. بين الشعراء النابغين المنتصرين.




مـن قصـائـده:

ســنــاء مـحـيدلـي

سـناء يا نغـمة الاحـرار فـي وطـني وقـبلة الـثورة الـحمراء فـي الـجبـل
رأيـت رسـمك في التـلفاز مبتـسمـا لـلـموت أحـلى من الصـهباء والأمـل
فـراح يوحـي لقـلبي خـير ملـحمـة غـراء تنـشد في الأعـياد مـن جـذل
نسـجت من شـعرها شـعرا وبينـهـما دنـيا مسـندسـة الروضـات والـحلل
ومضت مـن عـزمها العـملاق رائـعة عـذراء تياهـة كالنـصل فـي الأسـل
قـم صـل لله وارحـم روحـها سـحرا وبـعد ذلـك مهـما شئـت فيـها قل
تقمـصـت روح "زنّـوب" وثـورتـها فـي سـهل "أنطاكة " بالبـيض والذبل
ورافـقت نـفـس "أسمـاء" وعـزتـها "وزينـبا" بالفـدا بنـت الإمـام عـلي
كـأنـها بلـسان الـحـال قـائـلـة بالكـف، والصـدر، لا بالـشعر والزحل
تخـدر السـمع مـن تهـديـد قـادتـنا وانـتن القـول بالتـزوير، والـدجـل
خـمسون عامـا على التـقريب ضـائعة بيـن الوعـيد، وتـهـديد بلا عـمل
باعـوا "فلسطـين" والأخـلاق واتـفقوا علـى العـمالة بيـع الـشاة، والـجمل
يـثـرثـرون كثـيرا فـي منـابـرهـم بلا حـيـاء ووجـدان، بـلا مـلـل
تـزور اسـماعـنا عـنهـم واعـينـنا لأنـهم رمد فـي السمـع والـمقـل
واقبـلت وجنـود الـموت فـي يـدها لسحـق جيـش لئـيم الأصـل متكل
ودمـدمت بالـرزايا وهـي ضـاحـكة "كنيـزك" في سـمـاء الله مشـتعـل
فاجـفلوا عـند رؤيـاها ومـا قـدروا أيـن الفـرار مـن الثورة والاجـل؟!
رمـتـهـم بسـلاح لا عــلاج لـه بالـذعر والـخوف، والتدمير والشلل
ودمـرت ثكنـات الـجيش ماحـقـة اعـتى الـجيوش، باعتى البطش والسبل
لم ينـفع الـجيـش تحـصين واجـهزة ولا سـلاح اتـى من اجـرم الـدول
ما راعـها الـجند في "الفنطوم" مرتفـع فـوق الثـريا يـعد الـذر في الطـلل
لو قيـض الله عشـرا فـي شجـاعتـها مـن النـساء ذوات الأعـين النـجل
لم يبـق شـعب "ليهوى" في الوجـود ولا حـي بصهـيون مـن أنثـى ولا رجـل
مرت تقـود الـحـسان العـين باسـمة للخـلد بالنـار والصـاروخ والـكـلل
قدمـن أجسـادهن الـهيـف تضـحيـة كـما تـضحي كرام الـخـيل والابـل
نـذرت شـعري لربـات "الفـداء" ومـا وفـيتهن جلـيل الـمدح مـن قبـلـي
انـي سأنـظم فيـهن الـروائع بالاجـلال والـفـخـر، لا بالـهـزل والـغـزل
رداح قـومـي شقـيقـاتـي بنـات ابـي ارواحـهـن رفيـقـاتـي مـن الأزل
أقـول والـقـول لا يـجـدي بـأمـتنـا برغـم مصـدرها من قـمة الـملـل
دعـوا الـكراهـيـة الـحمـقاء نـائـمة فالـكره حـمر وجه الشـمس بالخجل
روحـوا اعبـدوا الله فـي تـوجـيه أمتـه وحـرروها مـن الأحـقاد والـزغـل
ووحـدوا الأمة الـكبـرى فكـم صنـعت مـن مصـلح ونبـي مرسـل وولـي
فـالطـائفـية مـن يـدعـو لـدولتـها لـم يرتفـع قدره في الـخلق عن جعل
* * *

أيــن آذار

انـا نبـاهـي اعـتزازا بـابـن آذار باقـي الشهـور وما بالفـخر مـن عـار
وقـال آذار فـي كبـر ودغـدغـة نيـسان نـيـسان أنّـي سيـد الـغـار
أصبحـتم خـولا من بـعد مـولـده بأولـي وزهـت فـي الـخلد أزهـاري
فاغتـاظ نيسـان مـن أقـوال صاحبه وراح مضـطربـا يـهـذي كـثرثـار
وقـام نيـسان يستقـصي بفـطـنـته آراء مـلـهـمـه الفـنـان أيــار
وصـاح تـموز بشـرا وهـو مسـتند عـلى حـزيـران فـي غنـج وأكـبار
وثــار آب وأيـلـول وجـارهـمـا تشـرين أولـه والآخــر الـجـاري
وبـات كانـون صـخّابـا كـتوأمــه عـلى شبـاط بعـزم الضيغم الـضاري
تـحـالـفـوا ضـد آذار ومهـجـته مـع كـلّ نجـم كبـير الحـجم سيـّار
فقـالت الشـمس ما شـأن الشهور فقد رأيـتـهـا بـيـن اقـبـال وادبــار
هـذا يصـفّـق كـبرا وهـو مغـتبـط وذاك غـيـرتـه أضـرى مـن الـنـار
صـراخـهـم مـلأ الآفـاق زمـجـرة تقسـّمـت بـيـن تـبـشـر وانـذار
وأرسـلت خـلف بسدر التّـم تسـألـه كحـارس لشـهـور الـدهــر أمّـار
ورافـق البـدر مـريــخ وزهـرتــه والمشتـري جنّ مثـل البائـع الـشاري
واحمّـر سخـطا وغيـظا بينـهم زحـل كـأنـه شـارب فـي بيـت خمـّـار
واهتّـزت الأرض فـي أرجـائها وربـت وانبـتت خـيـر نسـريـن وجـلنـار
والبـحـر أنـشـد بالأمـواج رائـعـة أكبـر وأعظـم بـه مـن منـشد قاري
واخـضوضلت في الربـى الأرزات من فرح واخـصوصب النـخل فـي زهـر وأثمار
والغـيد من أثـمن الياقـوت قـد لبـست فأصبـح الثـغر مـنـها ضـوء ديـنار
والشعـب يرقـص اجـلالا وتـكـرمـة فـي كـلّ حقـل بديـع الصنع مدرار
والشيـخ بالـغ فـي تـدويـر عـمـته والقـسّ ابـدع فـي تـلـفيف زنّـار
وانـدسّ بـيـنهــم قـوم زعـانـفـة أدنـى وأرذل من وجـدان سـمـسار
بعـمق آبـارهم كـانـت خـيانـتـهم لا در درك مــن مــلـك وآبـار
قد ألبـسوا الفاجـرات التـبر مـن شـره وصـاحب الـتاج مـن إيـمانه عار
والـشعـب مـات هـزالا لا معيـن لـه والتـبر يـجمع قنـطـار لقـنطـار
فـي كـلّ مـزرعـة تـاج ومـملكـة حيـكت ارائـكها مـن عـهر دولار
ومدعـي العـام كـان البـدر مسـتويـا عـلـى أريـكـة أضـواء وأنـوار
وصـار يصـغي لشـكوى الكون في أسف شـكوى الشهـور إلى مـولـود آذار
وصـاح صـائـحـهـم آذار ذلـلـنـا واسـتأثر المجـد مـبروكا مـن الباري
بالبـحر بالـعالـم المفضـال بالأسد الرئـ بال في صاحـب الـعرزال بـالـمار
فـي صاحب الوحـدة الكـبرى التي ربطت هضـاب سيـناء في أطـلال سنـجار
فصـاحت الشمـس تيها وهي ضاحكة مـا ذاك إلا الزعـيم المنـقـذ الـدار
نـذرت دفـئي ووجـداني لوحـدتـه وضـوء وجـهي واشـعاعي واكبـاري
فـجـاء حكـم ذكـاء قاطـعا ابـدا أعـظم بـجبّـارة تقـضـي لـجـبّار
* * *

قــم حــيّ آذار

قـم حـيّ آذار لا خـوفـا ولا حـذرا وقـل ملكـت الجـمال الطـلق مـحتكرا
وحـيّ مـولـوده مـن راح مـنفـردا يغـالـب الدهـر والاعـصـار والقـدرا
وغـاص فـي لـجج الأحـقاب مخـتبرا يستـخـرج الـحق والأضـواء والـدررا
وأيقـظ الشعـب مـن أعـماق نومتـه لـوحـدة تـمـلأ الأسـماع والبـصـرا
وقـام ينـهـض فـي أعـبـاء أمـتـه حيـث العـمالة فـيـه تـدعـم السـررا
وقـدّم الـروح قربـانـا لـمـوطـنه أكـبـر بـمـا قـدّم الـفادي إليـه قـرا
مضـى إلى الـموت تيّـاها ومبـتسـما يعانـق الـخلـد والـتاريـخ والـظـفرا
وقـال في لهـجـة الـحاني لـقاتـلـه شـكرا لمـن عـصب العيـنين مـعـتذرا
ومـات فـردا ليـحيا فـي ضـمائـرنا شعـبا قـويا أبّـي النـفـس مـزدهـرا
والـمرء شـيء بسيـط عـنـد مبـدأه إذا تعـالـى لـدى الأوطـان وانـتـشرا
وصـار دسـتوره كالـضـوء منبـلـجا وظّـل فـي مـقل الأجـيـال مـنتـصرا
وامـتدّ فـي الأرض مواجـا ومنـطلـقا يرافـق الشـمس والـجوزاء والـقـمرا
مـن قـوله الفـذ أن الأرض مصـهـرة تصـيغ شعـبا علـى اطـلالـها ظـهرا
فإنّ أطـلالنا السـمـراء قـد صـهرت الفـرس والتـرك والـرومـان والتـتـرا
وكـل مـن لم يكـن بالأرض مرتـبطا نـعـدّه جـاهـلا أو ملـحـدا كفـرا
انّ السـعادة فـي ذكـرى سعـادتـنـا ذكـرى الزعـيم الـذي للخـير قد فطرا
يا صـاحب المـجد والعـرزال شـعبك قد شلّـت به قـيـم الأخـلاق فـانفـجرا
أخ يــمـزّق اخــوانــا ووالــدة وأقـرباء لـه يـختـال مـفـتـخـرا
أمّـا المـذاهب أمسـت في عـداوتـها سـكرى تـحفّر في نيـرانـهـا سقـرا
قـد حـوّلوا الأمـّة الـكبرى إلى امـم ضعيـفة ليـس تعـطي الخـبز والثـمرا
وشـعـبها لـعصـابـات مـدمـّرة لم تبـق للـحبّ فـي سـاحاتـنا أثـرا
أضـف عـلى القـوم مـن آلائـي رو حـك والعـزم المـجيد رداء ينسخ الخطرا
لأن صهـيـون بالتـمزيـق صـائـلة وشعـبها لم يـكن فـي الغـير منصـهرا
هـي العـدوّ بلا ذنـب ولا سبــب لكـل شعـب أبـرّ الشـعب أو كـفرا
لا فـرق فـي دينـهم أو عنصـريتهـم مـن يعـبد الله أو مـن يعـبد الشـجرا
ما دام دستـورك الـراقـي بأنـفسـنا سنـسـتردّ بـه مـا جيـشنا خسـرا
وان تركنـاه طـيّ الـدرج منـطـويا سيصـبح الوطـن العـملاق منـدثـرا
لكـنّ حزبـك بالـمرصـاد منتـظـر جيـش العـدى بسـلاح يرهـب البشرا

الاخوان فليفل

الأخـوان فـليـفـل

معظمنا سمع بالأخوين فليفل. إنما القلّة منا، عرف عنهما نشأةً وانتاجاً موسيقياً. عن كتاب "بيروتنا" الذي كنا تحدثنا عنه في مرحلة سابقة، اخترنا التالي:

ولد الأخوان محمد وأحمد سليم فليفل أوائل القرن العشرين في محلة الأشرفية. ختما القرآن الكريم في كتّاب الشيخ مصباح دعبول الكائن في حي آل بيضون قرب جامع الأشرفية. ثم انتقلا إلى مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية فالمدارس السلطانية وحوض الولاية.
منحهما الله تعالى موهبة فنية ورثا جزءاً منها عن والديهما، وتعهداها بالعلم والتدريب والمراس. كان والدهما يتمتع بحس موسيقي فطري وشعور بالكرامة العربية، اشترى سيرة عنترة وطلب من أبنيه قراءتها له إعجاباً منه ببطولات العرب وأمجادهم. وعندما انتقل إلى السكن في محلة البسطة الفوقا، كان يتوجه إلى دكان زين لبيع الألبان في تلك المحلة، ويأخذ معه وعاءً خاصاً، ويقف منتظراً دوره وهو يردد:

لَبنـك لَبنـك يـا لبـان
طيـب لَبنـك يـا لبـان

وكان ديب صبرا، جد محمد وأحمد لأمهما، يتمتع بصوت جميل ويتولى الأذان وفرقة الإنشاد الديني في الجامع العمري الكبير، يصطحب معه حفيده محمد فليفل لحضور حفلة الإنشاد وسماع القصائد.
هذا الإستعداد الفني دفع الشقيقين فليفل إلى دراسة الموسيقى، فتابع محمد دراستها في دار المعلمين التركية، فيما كان أحمد يدرس البيانو والنوتة. وكانا يحضران مع والديهما حفلات موسيقية، كانت تؤديها فرقة موسيقى المتصرفية التي تأتي إلى بيروت، وتعزف في منشية المتحف وفي حديقة رستم باشا بإشراف ضابط إيطالي.
استدعي محمد خلال الحرب الأولى إلى المدرسة الحربية في استانبول، فوجدها فرصة سانحة لمتابعة دراسة الموسيقى في معهد الفنون التركية. فيما كانت فكرة تكوين فرقة موسيقية قد اختمرت في ذهن أحمد في بيروت، الذي كان قد تعرفَّ على عدد من الشباب الملمين بالموسيقى، وما أن عاد محمد من استانبول حتى باشرا بشراء الآلات وأسسا فرقة من ستة وعشرين شاباً، كانا يجمعانهم في حديقة بيتهما في البسطة، يعزفون الأناشيد والألحان الشائعة، ثم أخذت الفرقة تعزف للمدارس والجمعيات وفي الأعياد الشعبية، وعرفت باسم " موسيقى الأفراح الوطنية".
وفي عام 1942، وفي عهد الرئيسين ألفرد نقاش وسامي الصلح، اتصل العميد سليمان نوفل بالأخوين فليفل من أجل تأسيس فرقة موسيقى عسكرية، فصدر المرسوم رقم 6439 تاريخ 1/ 10/ 1942 بتأسيس موسيقى الدرك.
اشتهر الأخوان فليفل بأنهما لحنا أكثر من ألف قصيدة في موضوعات وطنية وقومية واجتماعية وتربوية، لشعراء وأدباء من مختلف أرجاء العالم العربي. مثل الأخطل الصغير(بشارة الخوري) وعمر فروخ وفخري البارودي وجورج غريب وابراهيم طوقان ومحمد يوسف حمود (الأمين في الحزب السوري القومي الاجتماعي) وشبلي الملاط وعمر أبو ريشة وسعيد عقل وعبد الرحيم قليلات وغيرهم.
ولم يفرّقا بين دين وآخر، بل كانا رسل سلام ومحبة وخير للمجتمع، لحنا قصائد بمدح النبي محمد(ص) والمسيح عليه السّلام والعذراء مريم.
تعرَّض الأخوان فليفل إلى معارك عنيفة مع سلطات الإنتداب. فقد وضعا لحناً يتغنّى بالوطن الأكبر، فطردا من وظيفتهما، ثم أعيدا إليها بعد تدخل الشيخ محمد الجسر وجبران التويني والرئيس شارل دباس. وفي سنة 1939 لحّنا نشيد العلى للعرب من نظم الشاعر المصري عبد الحميد زيدان، فهددتهما حكومة الإنتداب بالكف عن تلحين مثل هذه الأناشيد تحت طائلة النفي إلى معتقل المية ومية ورحّلت الشاعر المذكور.
كان أول نشيد لحّناه في العشرينات من نظم مختار التنير:
سـوريـا يـا ذات المـجـد والعـزة فـي ماضـي العـهد
إن كنـت لنـا أهـنى مهـد فـثـراك لنـا أهـنـى لحـد
ولحّنا نشيد الشهداء الذي نظّمه الشاعر الشهيد عمر حمد:
نـحـن أبـنـاء الألـى شـادوا مـجـداً وعـلا
نسـل قحـطـان فأصـلا لـيـس نـرضـى الأسـر
وكان الشاعر عبد الرحيم قليلات من أول من شجع الأخوين فليفل ونظّم لهما عدة قصائد وأناشيد منها نشيد المدارس:
تـعـهـدي دروسـنــا وبـيـضـي طـروسـنـا
وهـذبـي نـفـوسـنـا وروضــي الــبــدن
وأناشيد: المرشدات، ويا حياة المجد، والكشاف.
وعرّفهما عبد الرحيم قليلات على الشاعر ابراهيم طوقان فلحّنا له نشيد موطني:
موطـني الـجـلال والجـمـال والـسناء والـبـهاء فـي ربـاك
والـحيـاة والنـجـاة والهنـاء والــرجـاء فــي هــواك
يــا رعــاك يــا رعــاك
ولحّنا نشيد يا تراب الوطن للأخطل الصغير، ونالا الدرجة الاولى للحن نشيد الشجرة الذي نظّمه الشاعر (الأمين) محمد يوسف حمود وأصبح شائعاً:
جـنـة فـي وطـنـي مـن صـبـاح الـزمـن
تـمـلأ الأرض اخضـراراً والسـمـات افتـراراً
بـالشـجر يتعـالى فـي الـهـوا والثـمـر يـتـلالى كـالضـيا
مـا أحـب الشـجرا
يمنـح الدنـيـا شبـابـاً أخضـرا
وربـيـعـاً أنـورا
وثـمـاراً سـكـرا
وخـيـالاً
وتعرّفا إلى فخري البارودي فلحنا له عدة اناشيد شاعت في العالم العربي كله، منها:
بـلاد العـرب أوطـانـي مـن الشـام لبـغـدان
ومـن نجـد إلـى يـمـن إلـى مصـر فتـطـوان
ونشيد:
أنـت سـوريـا بـلادي أنـت عنـوان الفـخـامة
كـل مـن يأتيـك يومـاً طـعامـاً يلـقـى حمـامـه
كما لحنا للجامعة العربية نشيداً من نظم محمد المجذوب (مصر) اعتمد رسمياً:
أشـرق الفـجر فسـيروا فـي الضـياء ودعـا الـحـق فهـبوا للـنـداء
إنــه وحـي السـمـاء إنــه صــوت الآبـاء
* * *
لم يفز اللحن الذي وضعاه للنشيد الوطني اللبناني، ولكن كان الفوز لهما في تلحين النشيد الوطني السوري (حماة الديار) الذي نظمه خليل مردم بك.
يروى أن نشيدين ولحنين نجحا في التصفية النهائية أمام اللجنة التي تألفت لإختيار النشيد الوطني اللبناني. أولهما جاء فيه:
اسرجوا الخيول، واقرعوا الطبول، واقحموا السهول، واحرسوا الجبل.
من تأليف شاعر لبناني من بلدة شحيم في الشوف، جبل لبنان، هو عبد الحليم الحجار، لحنه فليفل اخوان. والثاني "كلنا للوطن" من تأليف شاعر لبناني من بلدة الباروك في الشوف، جبل لبنان هو رشيد نخلة لحنه وديع صبرا.
استبعد النشيد الأول واعتمد الثاني. وقيل في حينه إن اللجنة، وكان الإنتداب في أول عهده، لم تستمرئ قرع الطبول وإسراج الخيول للدفاع عن الوطن والإحتلال مازال حديثاً، وفضلت النشيد الثاني لأن إيقاعه مشابه، بل يكاد يطابق لحن المارسلياز، نشيد فرنسا الوطني.
* * *
وضع الأخوان فليفل للجيش اللبناني عدة مارشات ومعزوفات للطبول والأبواق والتشريفات والثكنات، حلّت محل الألحان الفرنسية.
ارتبط اسم فليفل بالألحان الوطنية والقومية في لبنان والعالم العربي، منها:

يـا تـراب الـوطـن


يـا تـراب الـوطـن ومـقــام الــجـدود
هـا نـحـن جـيـنا لمـا دُعـينا إلـى الخـلود
* * *
نصـدُّ عـنّا كـل بـاغٍ عـنـيد نفتـح للـمجـد طريقـاً جـديـد
صـفاً فصـفاً لـلعُـلى لا نحيـد ولا نــعــود ، ولا نــعــود
إلا وبـنـد الـحـق فـوق الـبنـود
الـلازمـة: يـا تـراب الـوطـن.....
* * *

الفـخـر فـي بـلادنـا

الفـخر في بـلادنـا والعـزُّ باتحـادنا وعـن ذرى أطـوادنـا والأرز لا تـسلْ
حـبـذا لُبـنـان جنّـَة الخـلـود مـهـبـط الـبـيان تُـربـة الجـدود
يـا بَـنِـي الأوطـان عُـصـْبـةَ الأُسـودْ
إذا دعـا داعـي الحمـى يثير فينـا الهممـا وسـالـت الأرض دمـا وروّع الجبـل
الـلازمــة
أسـرجـوا الخيـول، واقـرعـوا الطبـول واقحموا السهـول واحرسـوا الجبـل

إلا أن ما لم يشر إليه كتاب "بيروتنا" هو أن "الأخوان فليفل" كانا وراء تلحين نشيد "المقاومة" للأمين الشاعر محمد يوسف حمود:
نـشيـد الـمـقـاومـة

للتـراب وللسـما
دمـي وروحـي، فَهُـما
مِـنهُـمـا إليـهِـمَـا
فـي الصـعاب يا شبـاب
من غـيرنا يلـتاع مـن؟ إذا بكـت عين الوطـن!
مقـاومـه! مـقاومـه!
بالـنار لا مـسالمـة!

إنـي فـتى المقـاومـة! لا صـمـت لا مسـاومـه
فـي منـطق القـنابـل! أنـقـضُّ، مــا الـزلازل؟
بـالـحـق، فـالـبركـان بـات اسـمـه لـبـنـان!
يـفـجِّـر الـحـمـم بـالـعـزِّ فـي الـقـمـم!
الــلازمــة
بـطـولــةٌ تـُزغـردُ ومـهـجـةٌ تستـشـهـدُ
عيـنايَ، مـا الصـواعق؟ يــدايَ ، مـا الـبنـادق؟
تُرابُنـا الـغـضـبـان يُـطـاردُ الـطُـغـيـان!
نـيـرانـنـا قســم! فـلـتـشـهد الأمـم!
الــلازمــة
محـرراً مـن الـعـدى ومـوطـنـاً مـوحّـدا!
نـريــده مـنـائـر إطــلالــة الحـرائـر!
آفــاقــنـا أمـان طُـمُـوحُ عُــنْـفُـوان!
وَعِــزُّنـا عَــلَـمْ مُسَــيَّــجٌ بـالــدَّم!

الرفيق الدكتور شكر الله حداد

الــرفـيـق الــدكـتــور
شـكراللـه حـداد
باقٍ فـي صـور رغـم رحـيله
الأمين لبيب ناصيف

حتى اليوم، ما زال المتقدمون بالعمر من أبناء مدينة صور، يذكرون بكثير من التقدير الدكتور شكر الله حداد الذي امتهن الطب مهنة إنسانية، فجسّدها في كافة تصرفاته مع المرضى، لا يبغي منها ربحاً ولا يطمح من ورائها إلى بناء قصور أو اقتناء يخوت، وسيارات فخمة.
لأنه كان انتمى إلى الحزب واعياً بعمق عقيدته ودستوره، والغاية التي دفعت سعاده إلى تأسيس حزبه نهضةً لأمته، عاش الرفيق الدكتور شكر الله حداد حياته مناضلاً قومياً اجتماعياً، ومواطناً فواحاً بعطر العطاء، ومشكلاً في محيطه قدوة ما زالت حية في ضمير وذاكرة أبناء صور الذين عرفوه جيداً أو سمعوا عنه الكثير.
*
الرفيق حسن مرتضى الذي ساهم بتزويدنا بالكثير من المعلومات عن الرفيق شكرالله حداد مما جعلنا نكتب عنه هذه النبذة، يقول: أن سعادة عندما زار مدينة صور صيف 1947 كان بيت الدكتور شكر الله حداد محطته الأولى، لما كان قد سمع عنه من مآثر ومناقب قومية كانت حديث الناس في المجتمع، لما يتمتع به من محبة واحترام في جميع الأوساط وبين جميع الفئات من الأحزاب والجمعيات والنوادي وإفساح المجال له ليعبر من على منابرها بآرائه الوحدوية البعيدة عن التعصب الديني والمذهبي والموالاة لأي متزعم أو إقطاعي.
ويضيف أن مدينة صور عبّرت عن تقديرها ووفائها في حضوره كما في غيابه فانتخب رئيساً فخرياً لكثير من نوادي وجمعيات المدينة، كما أطلقت بلدية صور بقرار اتخذ بإجماع أعضائها اسمه على الساحة الفسيحة قبالة عيادته حيث تطالعك هناك لوحة رخامية حُفر عليها بالخط العريض "ساحة الدكتور شكر الله حداد". أما يوم وداعه فلا يزال حديث الناس حتى اليوم إذ زحفت جموع أبناء المدينة من أحيائها، كباراً وصغاراً، وسارت وراء نعشه تتقدمها لأول مرة مكبرات الصوت تتعالى منها آيات القرآن الكريم فتتناغم مع تراتيل الإنجيل المقدس لتشكل ظاهرة قد لا تتكرر في حياة أي إنسان آخر.
"يوم فلسطين" في صور:
في أدبيات الحزب أن الرفيق شكر الله حداد كان من بين الذين خطبوا في المهرجان الحاشد الذي أقيم في صور يوم الأحد 28 تموز 1946 بعنوان "يوم فلسطين".
هيأ للمهرجان عميد الداخلية والرياضة (عمدة الدفاع) الرفيق جورج عبد المسيح، منفذ عام صور الرفيق خليل حلاوي، منفذ عام الطلبة الرفيق فوزي معلوف ورئيس مكتب الدعاية للرأي العام الرفيق فكتور أسعد والرفقاء أعضاء هيئة منفذية صور.
حضرت المهرجان وفود حزبية من مختلف قرى وبلدات قضائي صور وبنت جبيل، ومن منفذيات طرابلس، الشوف، الساحل الجنوبي، الغرب، مرجعيون، الكورة، ومديرية النبطية المستقلة.
تحدث في المهرجان منفذ عام صور الرفيق خليل توفيق الحاوي، عميد المالية الرفيق عبد الله محسن (الأمين، رئيس الحزب لاحقاً)، الرفيق نظمي عزقول، وكيل عميد الإذاعة الرفيق وديع الأشقر، الرفيق ممتاز الخطيب، عميد الإذاعة فايز صايغ، الرفيق شكر الله حداد، وختاماً رئيس المجلس الأعلى نعمة ثابت، وأنشد الرفيق يوسف تاج قصيدة قومية عن فلسطين.
كلمة الرفيق شكر الله حداد:

عندما دعيت للكلام في هذا اليوم قيل لي أنه " يوم فلسطين " وإن لي تعليقاً على هذه التسمية .
إن حق فلسطين علينا ليس يوماً من أيام حياتنا فحسب ولا أسبوعاً من أصل جهادنا ولا سنة مما قسم الله لنا في عمرنا .
إن حق فلسطين علينا يلزمنا منذ تشتد سواعدنا وتتفتح بصيرتنا ونقلب صفحة ، عليها في كتاب التاريخ مآثر تاريخنا .
إنكم تدركون ولا ريب أية وصمة عار في جبينكم وأي خطر بعيد المدى على مستقبلكم تنطوي عليه كارثة تهويد فلسطين .
وكأنني بمنظمي هذا المهرجان في بلدتنا هذه يسألوننا وجهة نظرنا ، إننا هنا في صور وفي جبل عامل بالنسبة للخطر الصهيوني في الصفوف الأمامية من جهة القتال وخط النار .
نحن نعلم أن الجهاد في سيبل فلسطين عبء يقوم على أكتاف الدول العربية مجتمعة متكتلة . ولكنها لا يسعها أكثر من أن تنسق المجهود العام وتوحد التوجيه للجهود الفردي الذي نقوم به ونحب أن يقوم به كل واحد منا .
تأكدوا أيها الإخوان أنكم أياً كنتم يمكنكم أن تعملوا شيئاً لأجل فلسطين في بيئتكم الخاصة وعملكم الخاص . يجب ألا يثبط من عزائمنا ، إننا شعب قليل العدد ، فليس اليهود بأكثر منا عدداً ويمكننا أن نكون أوفر منهم عدداً لكنهم وحدوا جهودهم واسمعوا أصواتهم صوتاً واحداً حتى كادوا يفرضون إرادتهم في غيابنا فليس المال ولا الرجال كل شيء ، إنما الكفاح يجب أن يكون فوق كل شيء ، عزيمة وإيماناً ويقيناً ، ومتى كان كفاحنا على هذه الصورة عندئذ نفرض على العام احترامنا ، وتفسح لنا الطريق واسعة للوصول إلى حقوقنا .
وفاتـه:
في 26 تشرين الثاني من العام 1970 وافت المنية الرفيق شكر الله حداد عن عمر يناهز السبعة وخمسين عاماً فأقيم له مأتم حافل عبرّت فيه مدينة صور على وفائها ، وعن تقديرها لطبيبها الإنساني . وفي الذكرى السنوية الأولى لغيابه أقيمت في 25 تشرين الثاني 1971 في قاعة سينما ريفولي في صور حفلة تأبينية بدعوة من جمعيتي الشبيبة المسيحية وسيدة البحار ، تكلم فيها كل من الرفيق حسن مرتضى ، والسادة خليل شرف الدين ، الشيخ أحمد مغنية ، مصطفى شرف الدين ، وأسعد برادعي الذي ألقى كلمة جمعيتي الشبيبة المسيحية وسيدة البحار . مجلة الحزب " البناء " التي نشرت الخبر في عددها رقم 47 بتاريخ 11 كانون أول 1971 أفادت: " أن أهالي مدينة صور شاركوا في الاحتفال التأبيني بجميع فئاتهم تقديراً لذكرى الرفيق الفقيد الذي وقف حياته حتى آخر لحظة وهو يناضل في سبيل أمته " . وإلى جانب الخبر نشرت " البناء " نص الكلمة التي ألقاها الرفيق حسن مرتضى ، نقتطف منها المقاطع التالية :
" أيها الغائب الذي يملأ حضورنا...
بعدك الحرف شراع ممزق على رصيف الموانئ ...
بعدك الكلمة سفينة مثقوبة تغوص في الأعماق ...
تقرع الأجراس ، تهلل المآذن وتكبر ، تختلط التواشيح بالتراتيل في طلّة العيد ، والفرح ما زال يمعن في نزوحه عنا .
لماذا أيها الصوري العنيد تهاويت على حدود الرؤيا ؟؟
لماذا تركناك تتهاوى كأننا بأيدينا ندفعك ؟؟
أجل أيها الأخوة، إن شكر الله الحداد لم يمت بل اغتيل ونحن أصدقاؤه قبل كل الناس شاركنا في دم هذا الصديق؟! شكر الله حداد الذي كرس حياته مستنفراً في غرفة العمليات، يضمد جراحنا ، يخفف أوجاعنا ويعالج همومنا، لماذا لم نعطه راحة المحارب ؟؟ لماذا لم نلزمه بها ؟؟؟
شكر الله حداد الذي قضى أيامه ، كل أيامه منتصباً كعمود الهيكل تداعت رجلاه أخيراً تحت وطأة جبروته ، لماذا ؟؟ لأنه كان بحاجة لأكثر من رجلين ، هذا الذي يتحرك كمجموعة متباينة من الناس ، كان يعمل عنا جميعاً ، يتصدى ولو وحيداً لكل طارئ ، ليرفع أي حيف ، ليملأ مطلق فراغ . يداوي جراح الناس ، ولا يبالي بجراحه ، يعطي حتى الحرمان ، يعطي من سأله ويعطي من لم يسأله .
وكان مع بلده ، مع تطلعات شبابه وأحلام شيوخه ، فلم تتحرك جماعة في صور إلا وشحنها بطاقة من عزم ، ورواها بعصارة من دم ، كانت تسكره الحركة . لم يتحزب شكر الله حداد طوال حياته رغم التزامه ، كان أبعد من التحزب وأكثر انفتاحاً من محدودية الالتزام حتى أن كل فئة وكل جماعة ، بل وكل طائفة تفاخر بعدّه بين رجالاتها .
على نغمات المحبة وحدها دوزن خطاه ، وحروفه لم تكن يوماً إلا فعل إيمان يزرعه في كل ما حوله ومن حوله ، يستقطب الإمكانات ويجمع الطاقات ، يحول الروافد ، كل الروافد لتصب في مجتمعه .
لقد أداننا شكر الله حداد بموته ، أدان فرديتنا وتقاعسنا ، أدان تفسخنا وتنازعنا ، أدان هروبنا من التصدي والمواجهة ، أدان فلسفة النعامة فينا . في عصر الذرة وغزو الفضاء لم نعط أن نصبح مجتمعاً موحداً في هذا الحين الضيق من الأرض ، فما زلنا نراوح في قبليتنا وعشائريتنا ، نقتتل أفراداً ونقتتل جماعات على التوافه نقتتل ، على القشور ... نقتتل على السماء والأرض تضيع من تحتنا شبراً شبراً ...
ويسقط الأبطال من رجالنا في ميدان الواجب وساحات الشرف ، يتحررون من جاذبية الماضي وهذيان الحاضر ، يموتون على حدود المستقبل فلا نملك إلا كلمات الرثاء ... "

ذكرى مرور 20 عاماً على غيابه
في تشرين الثاني من العام 1990 وفي ذكرى مرور 20 عاماً على غياب الرفيق شكر الله حداد أقيمت له ذكرى حافلة في " نادي التضامن " تحدث فيها أيضاً الرفيق حسن مرتضى ، إلى جانب آخرين .
في كتابه " ونبقى معه " يورد الرفيق مرتضى نص الكلمة التي ألقاها وقد جاء فيها :
" تراها محبة الله هي التي غيبتك باكراً حتى لا يدمى فؤادك وأنت ترى أرتال الجراد وهي تنهش الأخضر واليابس من حولنا... ولا حول لك ولا قوة... يشرد الفكر بعيداً وهو يستعرض همومنا التي حملت بعضها يا راعي الجمالات عندنا !! ألم ننتخبك يومها رئيساً للجنة قدموس رائد الحرف والمعرفة !!
أذكر يا حكيم حين كنا في رحاب العاملية ووقفت بعد الشيخ عبد الله العلايلي تلقي كلمتك في تأبين مرجع ديني كبير... ربما كان السيد محسن الأمين ، كيف كان هذا العلامة العبقري يطيّب لك عند كل مقطع فيها وكيف تقدم وعانقك وسط موجة الإعجاب التي أحاطت بك من كل صوب ..
كبيراً كنت يا حكيم في زمن عزّ فيه الرجال.. الرجال
لم تكن فرداً في مجتمع.. بل مجتمعاً في فرد...

وفي 22 كانون الثاني 1994 أقيمت في نادي التضامن في صور حفلة خطابية تكريمية للرفيق شكر الله حداد تناوب على الكلام فيها كل من الرفيق حسن مرتضى ، المطران يوحنا حداد ، السيد جعفر عبد الحسين شرف الدين ، واختتم الحفلة الأستاذ جورج غنيمة باسم آل حداد شاكراً منظمي الاحتفال وخصوصاً اللجنة الثقافية في نادي التضامن .

بعض ما قيل فيه:
في الحفل التكريمي الذي أقيم في نادي الإمام الصادق ، ألقى كل من الإمام السيد موسى الصدر ، النائب العام للمطرانية المارونية في صور مارون صادق ، والشاعر سعيد عقل كلمات مؤثرة بالرفيق الفقيد نقتطع منها التالي :
• الإمام السيد موسى الصدر :
" إن شكر الله الحداد من خلال اختصاصه وفي أغلب مشاركاته الاجتماعية الواسعة وفي صداقاته وعلاقاته الخاصة كان يمتاز بالسلوك الحي .
إنه كان يذوب في سلوكه ، أو قل أن سلوكه كان قطعة منه ولذلك كان رسالياً في ممارسة طبه لا تاجراً .
وكان إنساناً متجدداً باستمرار في مشاركاته العامة لا يتجمد في القطر والعناوين .
وكان اتساعاً لوجود صديقه أو قريبه في علاقاته الخاصة .
وهو في كل هذه الحقول يدخل إلى القلب ويبني جسراً حياً موثوقاً بينه وبين الآخرين ، ذلك الجسر الذي كان قطعه منه ، إنه الشمعة التي تذوب خلال إشراقاته المضيئة لتنير الدرب للآخرين " .

• النائب العام للمطرانية المارونية في صور مارون صادق :
" كثيراً ما يقال أن الانتماء في لبنان هو انتماء طائفي ثم وطني . أما المرحوم الدكتور شكر الله حداد فوحد في انتمائه المرحلتين في مرحلة واحدة لا بل تجاوزهما ليصل إلى مرحلة الإنسان الموحد بين الصعيد الإيماني والصعيد الاجتماعي والصعيد الوطني فصاغ لنفسه وبنفسه الإنسان المحب ، المنفتح ، المؤمن ، غير المتزمت وغير المنطوي على نفسه ، البعيد عن الإيثار والاستئثار ، عن الأنانية والطائفية ، عن حب الذات والمصلحة الفردية ، عن الصنمية والتبعية . فجعل من التضحية هدفاً وشعاراً ومن العطاء غاية ووسيلة فأعطى بلا حساب ولا منّة وبقي في الآن معاً متمسكاً بإيمانه ، متكاملاً معه وفيه تكامل السراج مع الزيت والزهرة مع عبيرها .
• الشاعر الأستاذ سعيد عقل :
" ما أروع التكلم على البطل في بيت مضمخ باسم الإمام البطل
شكر الله حداد اسم أثير إلى قلبي . وسيبقاه .
لبناني كما قلائل ومناضل جنوبي أقولها كما يقال عن ابن فرنسة أنه باريسي إذ باريس هي التاج وطبيب كما بروح قسم أبقراط يريد الطبيب .
في جنوبيته يتفرد .
أنا الذي أكاد أكون جنوبياً لوفرة ما فتح علي بنتيجة ما قرعت أبواب صيدا وصور وقانا أنا نفسي أشهد له بها . كيف أحب هذا العلامة في التاريخ رقعة اليسا وإقليدس رقعة مؤسسي الإمبراطوريات وكاشفي أسرار الطبيعة ؟ أماطة اللثام عن ذلك سعادة وفورة قلب . وكأني به أحد الذين كان ينبغي اختراعهم " .

الرفيق الدكتور سعيد شهاب الدين

الرفـيق الدكـتـور سعـيد
شـهـاب الـديـن


رفقاء الخمسينات من القرن الماضي يعرفون جيداً الرفيق سعيد شهاب الدين، إنما نشك أن كثراً هم الرفقاء الذين سمعوا به لاحقاً أو عرفوا عنه.
فالرفيق سعيد شهاب الدين الذي صعد نجمه في فضاء الحزب، وصولاً إلى أن يتولى مسؤوليات مركزية ويمنح رتبة الأمانة، رحل بعد حوادث العام 1958 متأثراً بالانقسام الحزبي عام 1957 ثم بواقع عائلته التي عرف عنها حضورها الكبير في منطقة البسطة الفوقا، وكان فيها فاروق شهاب الدين الأبرز من بين القيادات الشعبية في القوى الناصرية في تلك الفترة الدامية من صيف العام 1958. أضيف إلى ذلك الخلاف الذي دبّ مع عائلته الرافضة إقترانه من إمرأة مسيحية، فأوقعه يأسه وقنوطه ووضعه الحزبي والعائلي في مرض نفسي أودى بحياته.
في مقالة له في جريدة " السفير" بتاريخ 3 كانون الأول 2004 يشير الكاتب أسامة العارف في معرض البحث الذي نشره بعنوان "النزول في ترامواي البربير إلى "داون تاون" تلك الأيام إلى الرفيق الدكتور سعيد شهاب الدين، فيقول:
" تحت المدرسة المذكورة يقع في مقهى آخر صاحبه مفوض في شرطة بيروت. شقيق المفوض المذكور أستاذ لنا في مدرسة " الطريق الجديدة" يعلّمنا الجغرافيا. وحين أتى للمرة الأولى إلى المدرسة علِمنا أنه قومي سوري. وقد أعجبنا شديد الإعجاب بأسلوبه في التدريس فدخل إلى قلوب التلامذة واستطاع أن يؤكد حضوره بيننا. وعندما شاهد مدى تأثيره فينا أخذ عناوين جميع الطلاب وأرقام هواتفهم ليبقى على إتصال بهم خارج إطار الدراسة. إلا أن ثمة من أخبر مدير المدرسة المرحوم "محي الدين بواب" بذلك، فطلب إليه أمامنا أن لا يقيم أية علاقة مع الطلاب خارج المدرسة، فوعد بذلك ووفى بوعده".
حصل الرفيق سعيد على شهادة دكتوراه في الجغرافيا ومن إنجازاته وضع خريطة الوطن السوري. منح في الخمسينات رتبة الأمانة، فرفع رسالة يعترض فيها على القرار ويصحح الخطأ حيث أنه لم يكن مضى على إنتمائه إلى الحزب ثلاث سنوات فيما كان من الشروط التي يجب أن تتوفر لنيل الرتبة حينذاك أن يكون قد مرّ خمس سنوات على إعتناق الرفيق للعقيدة السورية القومية الإجتماعية.

*

عنه يقول عَارَفُوه من الرفقاء:
الأمين إبراهيم غندور: كانت المديرية تنظم إجتماعات إذاعية ومناظرات شبه أسبوعية وكان الدكتور سعيد شهاب الدين أحد الوجوه البارزة ومناظراته مع أقطاب التيار العربي مثل رمضان لاوند وإنعام الجندي من المناظرات المهمة والفاعلة.
الرفيق مارون حنينة: أتذكر عميد المالية سعيد شهاب الدين ونشاطه وحيويته ودماثة خلقه وتواضعه، واهتمامه بأنشطة متنوعة تدرّ مبالغ مالية للحزب. رحمه الله، فقد مات باكراً. أذكر أنه كلفني بمهمة الاتصال بالمؤسسات الحرفية والصناعية في منطقة الجميزة حيث كان للحزب مديرية فاعلة باسم "التضامن"، من أجل معرض أقامه الحزب في برج البراجنة.
الرفيق إميل أبو رزق: اقترن الرفيق سعيد من السيدة راحيل جبور، أشقاؤها الياس، جبران، نعمة كانوا رفقاء ويقطنون رأس بيروت، إنما غادروا الوطن، وشقيقتها ماري اقترنت من المحامي جورج زيدان.
الرفيق محمد خليفة: كان لا يخشى من أي حدث مهما كان جسيماً. حتى لو أدى ذلك إلى عزله من عمله في وزارة التربية كمدرس لمادة الجغرافيا، ففي سنة 1956 هاجم أفراد من حزب الكتائب مدرسة رسمية في الأشرفية لضرب الرفيق محمد خليفة بعد إشكال له مع طلبة كتائبيين.
وصدف أن الرفيق خليفة لم يكن ساعتئذ في المدرسة. فاعتدوا على الرفيق خليل بطرس عوضاً عنه. مع ذلك صدر قرار من وزير التربية في الحكومة اللبنانية بطرد الرفيق محمد خليفة من المدرسة كما عدم قبوله في أي مدرسة حكومية، فما كان من الرفيق سعيد شهاب الدين، وهو أستاذ موظف في وزارة التربية ممنوع عليه أن يكون حزبياً، إلا أن ذهب بصحبة الرفيق محمد خليفة لمقابلة مدير المدرسة آنذاك الأستاذ موريس اقليموس للبحث معه في إعادة الرفيق خليفة إلى المدرسة فقال مدير المدرسة للرفيق سعيد شهاب الدين أن محمد خليفة أحدث فوضى في المدرسة، فما كان من الرفيق سعيد شهاب الدين إلا أن أجاب المدير المذكور أن الرفيق محمد خليفة سوري قومي اجتماعي ونحن السوريون القوميون الاجتماعيون نظاميون في تصرفنا وتربيتنا وحياتنا ولا مكان للفوضى عندنا.

* لمن يملك أية معلومات عن الرفيق الدكتور سعيد شهاب الدين، اكتبوا لنا، أو اكتبوا عنه.