الجمعة، 1 أكتوبر 2010

وداعاً يا ماردين

وداعـاً يا مـاردين

ماردين هي احدى المناطق السورية التي انتقلت الى السيطرة التركية بفعل مؤامرة سايكس - بيكو وما جرّته على امتنا من ويلات على صعيد وحدتها، وصولاً الى وعد بلفور وتأسيس دولة الاغتصاب في الجنوب السوري.
سابقاً كنا نشرنا دراسة الامينة ماري شهرستان عن ماردين ومناطق سورية اخرى باتت " تركية " حالياً بالواقع السياسي .
ماردين، كما مناطق اخرى في تركيا، كان يقطنها ارمن أو سريان، تعرّضت للمذابح والتهجير، وهذا ما يعرفه كل مطلع على التاريخ الحديث لامتنا، وللشرق الاوسط، وشكلت - تلك المذابح - قضية سياسية ما تزال تتفاعل حتى يومنا هذا.

" وداعاً يا ماردين " هو الكتاب الصادر عن دار " بترا " بالاشتراك مع دار "الفرات"، للروائية هنرييت عبودي وهو رواية من 312 صفحة، حجم وسط.
التعريف التالي ننقله عن الغلاف الاخير للرواية، ومنه يستدل على مضمون الرواية التي رغبت هنرييت عبودي ان تحكي فيها عن قصة السريان السوريين في مدينة ماردين:
الذاكرة لا تخمد ما دام الراهن يستدعيها. وعندما تمتلئ الذاكرة البعيدة بصور القهر والاضطهاد وعندما تطغى على الذاكرة القريبة الصور ذاتها، مع اختلاف الناس والزمن والجغرافيا، لا يمكن لحاملتها - إن كانت كاتبة - إلا أن تعيد تظهير جميع الصور المتناثرة في ذاكرتها، سواء منها ما عاشته او ما عايشته من خلال ذاكرة الآخرين. فالذكريات الأليمة ما لم تُبلسَم بالتسامح تبقى كالجرح غير المندمل تنكأه أبسط الاحداث فيعاود نز الآلام.
بعمق الروح المتسامحة، غير الغريبة عن هنرييت عبودي التي كانت ترجمت للقارئ العربي رسالة فولتير عن التسامح، تروي لنا الكاتبة بسرد مشوق تاريخ اسرتها السريانية وحكاية مدينة ماردين، وحكاية ديار بكر وولايات الاناضول الشرقية، بل حتى حكاية اهالي مدينة حلب التي فتحت صدرها للمنكوبين. فنتعرف من خلال احداث الرواية على جانب مهم ومؤثر من تاريخ المجتمع السوري الحديث.
وتصور لنا الرواية على لسان ابطالها، وبلغة نابضة بالواقعية، درب الآلام الذي سلكه السريان السوريين هرباً من المذابح وحملات التهجير التي تعرضوا لها في الربع الاول من القرن العشرين عندما عصفت بالامبراطورية العثمانية المحتضرة الرياح المجنونة للعصبية الاثنية الطائفية التي ما برحت تضرب بالجنون نفسه في شتى أرجاء منطقتنا وكأنها قدرنا الذي لا تخمد ناره تحت الرماد.
" من الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون ان تجد من يرثيها ويروي فاجعتها "، فللحقيقة حقها وللتاريخ حقه، وكذلك لروح التسامح الذي ترى هنرييت عبودي فيه وسيلتنا لمواجهة ذلك القدر، لهذا كتبت روايتها مودعة ماردين.
*
وعلى سؤال " لماذا هذه الرواية "، تجيب هنرييت عبودي.
كانت اذا ما استذوقت حبة عنب سارعتْ الى القول: " يبقى عنب ماردين أحلى وازكى ".
وكانت اذا ما اكلتْ قطعة من الجبن الشهي عقّبت على الفور : " لا شيء يمكن ان يضاهي جبن ماردين نكهة ".
وكانت اذا ما اعدّتْ لنا شواءً، يسيل اللعاب لما يفوح منه من الروائح، ضحكتْ من اقبالنا النهم عليه وقالت : " ماذا كنتم ستفعلون لو قدمتُ لكم طبقاً من قليّة ماردين ؟ كنتم ستلتهمون اللحم والطبق معاً ".
حتى قمر حلب - يعلم الله كم هو جميل قمر حلب في لياليها الصيفية - ما كان ينال كامل رضاها : فأين هو من " قمراية ماردين ؟ ذلك انها ثابرت على التكلم بلهجة ماردين مع انها غادرتها وهي طفلة.
وما من مرة اتت فيها بذكر مدينتها، التي تتفوق على سواها بمناخها وبساتينها، بأهلها وعاداتها، بطعامها وسهراتها، إلا وكنت أمازحها قائلة: حتى لو بقي من عمري يوم فسأذهب لزيارة ماردينك هذه.
عندما كنت اتعمد تكرار هذه العبارة كانت امي لا تزال على قيد الحياة وكنت انا لا أزال في مقتبل العمر. عمر كان يبدو لي مديداً، مطاطاً، له نهاية ولا شك، ولكن بعيدة ... ومضت السنوات، وشسعت المسافات الفاصلة بيني وبين مدينة امي، وتضاءلت، الى حد التلاشي، فرص زيارتها. ولكن بقي العهد الذي قطعته على نفسي يلازمني ويلحّ عليّ بالتنفيذ. فعزمت على النهوض بتلك الرحلة، بتلك العودة الى ينابيعي الاولى، ولكن بالوسيلة الوحيدة المتاحة لي: اعني المخيّلة، فانكببت على كتابة هذه الرواية.
ثمة اعتبار آخر دفعني الى محاولة إعادة إحياء أجواء وأحداث لم أكن، بالطبع، شاهدة عليها: شعوري بأن للماضي حق الحضور في ذاكرتنا، وبأن علينا واجب السهر عليه. فمن الظلم أن تكون آلاف مؤلفة من الضحايا البريئة قد قضت في لحظة من لحظات جنون التاريخ من دون أن تجد من يرثيها ويروي فاجعتها. ذلك ان ماردين، التي اختارت أمي ألا تحتفظ عنها إلا بالذكريات الحلوة، كانت في مطلع القرن الماضي مسرحاً لجرائم همجية وتصفيات جماعية أسوة بسائر مناطق ولايات الاناضول الشرقية. ولئن حفظت ذاكرة التاريخ المجزرة الرهيبة التي حلّت بالارمن، بل حرب الابادة التي هدفت الى استئصالهم، فقد اسقطت من حسابها مأساة السريان الذين قدمّوا عشرات الآلاف من الضحايا، لا على مذبح التمييز الإثني، بل على مذبح التمييز الطائفي: فقد جرى الفتك بهم وتهجيرهم لا لسبب إلا لكونهم من دين مغاير.
عندما كنت اصغي الى الفواجع التي ألمّت بهم، ترويها عليّ خالة مسنّة كانت في عداد من هاجر الى حلب واستقر فيها، رغم تأثري الشديد بكل ما اسمع، اشعر أن هذه المآسي هي ملك ماضٍ ذهب إلى غير رجعة. أفلم نكن نردد، منتشين: " الدين للّه والوطن للجميع "، ساخرين من الطائفية، محيلينها، في اذهاننا، الى متحف التاريخ ؟
ولكن احداث لبنان جاءت توقظنا من حلمنا الجميل ! فقد عاد " القتل على الهوية " يحصد الضحايا البريئة، في بلاد الارز اولاً، وفي بلاد الرافدين والعديد من الاقطار العربية الاخرى لاحقاً. وما عادت آلة القتل تكتفي باستهداف التمايز الديني، بل غدت تبحث عن وقودها في التمايز الطائفي داخل الدين الواحد، وهي لا تنسى، تزداد شراسة وضراوة حتى غدا شبه مستحيل ان ينقضي يوم واحد بدون ان نسمع عن سقوط ضحايا لم تقترف من ذنب سوى أنها تمثل " الآخر " الذي امسى ممقوتاً لأسباب يتأبى العقل عن فهمها، فكم بالاحرى عن المصادقة عليها.
" وداعاً يا ماردين " رواية، وهذا يعني أن للخيال فيها دوراً رئيسياً. لكن رجال السياسة والادارة من ابطالها حقيقيون، كما أن احداثها المأسوية هي وقائع تاريخية مثبتة. وفي مطلق الاحوال، كان الخيال سيخونني، كما كان سيخون اي روائي آخر، في تخيّل نظائر تلك الجرائم الهمجية التي اقترفت بحق ابرياء: فالواقع، هنا، يفوق بالفعل كل خيال.
يبقى أن اقول إن بعض المصادر تقدّر إجمالي عدد الضحايا من السريان، في سلسلة الاضطهادات والمجازر التي شهدها الربع الاخير من القرن التاسع عشر والربع الاول من القرن العشرين، بأكثر من خمسمائة الف.

كتـب صادرة للمؤلفـة

الظهر العاري رواية دار لآداب 1999
خماسية الأحياء والأموات رواية دار المدى 2003
الدمية الروسية قصص دار المدى 2005
كيمياء البشر رواية دار المدى 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق