السبت، 11 ديسمبر 2010

السيدة وديعة قدورة خرطبيل: تاريخ من النضال في سبيل فلسطين

السـيدة وديـعة قـدورة خرطـبيل:
تـاريـخ مـن الـنـضـال فـي سـبيل فـلسـطيـن



كتاب السيدة وديعة قدورة خرطبيل: "بحثاً عن الأمل والوطن. ستون عاماً من كفاح احرزته في سبيل قضية فلسطين". كتاب يجب أن يقرأ. ليس لأن السيدة وديعة تقدم شرحاً مستفيضاً عن عائلة قدورة في بيروت، وبينهم شقيقها الأمين أديب، إنما لأن الكتاب غني بالمذكرات التي عاشتها السيدة خرطبيل، بدءأً من طولكرم وصولاً إلى تأسيسها، فترؤسها لفرع الإتحاد العربي النسائي الفلسطيني في لبنان. وفي هذا كانت تسير على خطى عمتها السيدة ابتهاج قدورة التي كانت رائدة من رائدات النهضة النسائية في لبنان والعالم العربي. لذا سننشر ما أوردته عنها، لفائدة الإطلاع على ما كانت عليه في حياتها الغنية بالحضور والعطاء.

مـحتـويـات الـكـتـاب

- الفصل الاول: بيروت- فلسطين.
- الفصل الثاني: نكبات خاصة.
- الفصل الثالث: فلسطين والمرأة.
- الفصل الرابع: أربعون يوماً في الأمم المتحدة.
- الغصل الخامس: القدس أبداً.
- الفصل السادس: سنوات النار والرماد.
- الفصل السابع: عراقيل ونشاط متقطع.
- الفصل الثامن: الحضور زمن الغياب.
- الفصل التاسع: إسعاد الطفولة المعذبة.
- خاتمة ووثائق: مصورة.

والمقدمة لرئيس مكتب منظمة التحرير في بيروت الكاتب شفيق الحوت.
عن شقيقها الامين أديب قدورة (منفذ عام بيروت، عميد الدفاع، رئيس المجلس الاعلى، نقيب الصيادلة)، تورد السيدة وديعة خرطبيل.

....وأصل إلى أخي أديب، فالذين عرفوه شاباً رياضياً أولاً، وصيدلياً ثانياً، ونقيباً للصيادلة لثلاث دورات وأميناً لسر اتحاد الصيادلة العرب، ورئيساً للمجلس الأعلى للحزب السوري القومي الإجتماعي، ونزيل سجون لمرات ومرات، لا يصدقون أنه الطفل الذي تأخر عن دخول المدرسة، تحت وطأة الربو الذي أصابه. فخلافاً لما درجنا عليه من الدخول في سن مبكرة إلى المدرسة، اضطر مرضه والدي لإتخاذ قرار بإبعاده عن بيروت ورطوبتها، وعليه تمَّ إرساله خارجها مع ممرضة لبعض الوقت، وعندما تحسنت حاله تمّ إدخاله إلى مدرسة الشيخ عباس القريبة من منزلنا القديم في "عالسور"، حيث كان انتظامه الدراسي متقطعاً. إلا أن تطور وضعه الصحي أدى إلى دخوله المدرسة ومنها إلى الجامعة الأميركية حيث نال إجازته في العام 1938 كأصغر طلاب دفعته، وخلال إلتحاقه في الأخيرة قرر التغلب على معاناته عبر الأنشطة الرياضية، ومارس السباحة والملاكمة وكرة السلة والتنس وتفوّق في العديد منها.
لكن الاهم في مسار شقيقي أديب كان انتماؤه للحزب السوري القومي الإجتماعي، الذي تعرف عليه طالباً في الجامعة الاميركية، أسوةً بسواه من الطلاب الذي كانت تتوزعهم الأفكار القومية آنذاك. ولعل انتسابه للحزب خلال فترة الدراسة طبع حياته إلى حد ما، إلا أن نشاطه الحزبي قد واكب تخرجه من الجامعة، إذ شغل مراكز هامة في الحزب، فكان عميداً للدفاع والخارجية ورئيساً للمجلس الأعلى للحزب، ومن خلال هذه المواقع مارس أدواراً سياسية في كل من لبنان وسوريا على حد سواء. فقد تعرف شقيقي أديب على مؤسس الحزب أنطون سعادة في مطلع الثلاثينات، وعين منفذاً عاماً لبيروت ولم يتجاوز في حينه الواحد والعشرين عاماً، ولما نشبت الحرب العالمية الثانية وقامت سلطات الإنتداب بحملاتها القمعية على القوميين والشيوعيين، كان أديب من ضمن المستهدفين نظراً لموقعه الحساس في الهرم التنظيمي. وقد تعرض لدخول السجن خمس مرات، أولاها في العام 1939 عندما أمضى في سجن القلعة ثلاثة شهور ومثلها في سجن الرمل. وفي السجنين لم يكن أديب مجرد سجين حزبي، بل لعب دور الطبيب، ومن الذين طببهم فرج الله الحلو القيادي البارز في الحزب الشيوعي اللبناني. وقد تابع أخي نشاطه الحزبي رغم كل المصاعب والمتاعب التي جابهته إلا أنه قرر في النهاية تجميد نشاطه في إطار الحزب احتجاجاً منه على المؤامرة التي قام أحد زعماء الحزب في العام 1955 بتدبيرها واغتيال المرحوم العقيد عدنان المالكي، نائب رئيس أركان الجيش السوري، بدون علم قيادات الحزب. وزاد ابتعاده عن الحزب حين اندفع الحزب في تأييد الرئيس كميل شمعون، إذ اعتبر أن هذا الموقف يعتبر انسياقاً في قتال طائفي لمصلحة فرد مهما كان مركزه ولأن ذلك يتنافى مع فلسفة الحزب القائمة على العلمانية ولأن مصلحة الشعب تأتي قبل مصلحة أي فرد.
ولكن أخي أديب، خلال نشاطه الطويل في صفوف الحزب السوري القومي الإجتماعي دأب دوماً على التوفيق بين اتجاهات الحزب القومي والتيار العربي الشامل، ونظم لقاءات خلال حياة الزعيم أنطون سعادة، بين أخته الدكتورة زاهية قدورة وبينه وجرت بينهما نقاشات مطولة عالجت في العمق موضوع الإنتماء العربي، لأن أخي كان موقناً أن انتماء سوريا ومصيرها مرتبطان بالمصير العربي المشترك.





إبتهـاج قدورة: رائـدة العـمل الـنسائـي.

سأتوقف طويلاً، للحديث عن عمتي ابتهاج قدورة، التي كانت رائدة من رائدات النهضة النسائية في لبنان والعالم العربي، إلى الحد الذي كرست حياتها بتفانٍ رائع لقضية المرأة ورفع مكانتها اجتماعياً ووطنياً وتحصيل حقوقها المهدورة.
ولدت في بيروت العام 1893 إبان الحكم العثماني، وترعرعت ونمت مواهبها الفذة في رحاب مدرستها الاولى، وهي البيت الذي نشأت فيه، العامر بالثقافة والعلم. أما مدرستها الثانية فكانت المدرسة الاميركية للبنات A.S.G، والتي دخلتها برغم اعتراض وجهاء المسلمين آنذاك، واحتجاجهم على تعليم البنات المسلمات في المدارس التبشيرية كما ذكرت. وقد تابعت عمتي دراستها، وحافظت على رصانتها ورفعة أخلاقها، حتى اقتدت بها الكثيرات، وانتسبن إلى المدرسة الاميركية للبنات. ثم نالت على طراوة عودها، شهادتها النهائية عام 1909 بتفوق، وكانت خطيبة حفل التخرج، ألقت وهي مرتدية الحجاب خطاباً حول دور المرأة في الهيئة الإجتماعية، اعتبره بعض معاصريها بداية تاريخية لتحرير المرأة عملياً، إذ كانت من المتعلمات الأوائل اللواتي آلمهن جهل المرأة، إذ فكرت في وجوب تعليمها وتوعيتها، توصلاً إلى الخروج بها من ظلمة التخلف الآسر إلى نور التقدم والمساواة.
كان طموحها أبعد من المدرسة الأميركية للبنات، فأجالت النظر في ما يحيط بها، وفكرت في وسيلة تنمي ثقافتها، وتوفر لها دراسة أعلى تعوضها عن الدراسة الجامعية التي لم تسمح الأوضاع العامة آنذاك بولوج بابها، فعكفت على مكتبة والدها تنهل منها ما تشاء، واستعانت بعالم جليل فتفقهت بأمور الدنيا والدين، ثم استكملت على أيدي مدرسين تعلم اللغات فأجادت العربية والإنكليزية والفرنسية وكانت تخطب بها بطلاقة.
ولما رأت أن الحياة ضمن جدران البيت والتنعم برفاهية العيش لن يرويا طموحها، صممت على الخروج إلى ميدان الحياة العامة فأسست بالإشتراك مع عنبرة سلام وأمينة حمزة وعادلة بيهم ووداد محمصاني وشفيقة غريب سلام وسواهن، "جمعية يقظة الفتاة العربية" في شهر آذار/مارس العام 1914، وكان صغر سن الفتيات المندفعات إلى العمل الإجتماعي حال، حينذاك، دون حصولهن على رخصة لجمعيتهن فالتفتن إلى إحدى سيدات بيروت المعروفات، هي المرحومة نجلا بيهم التي استجابت لهن، وشملت جمعيتهن برئاستها ورعايتها، وعملت معهن بحماسة لا تعرف فتوراً.
باشرت الفتيات العمل، لكن فرحتهن بعملهن لم تكتمل، فالحرب العالمية الاولى التي نشبت في آب/ أغسطس من العام 1914، شتت شملهن، فتعثرت أعمال الجمعية رغم أن عدداً منهن جاهد مدة من الزمن. ومع اندلاع القتال، عمّ القمع وانتشرت المجاعة، وفرض جمال باشا السفاح القائد العام للجيش التركي الرابع، الاحكام العرفية، وأرخى العنان لغرائزه في الفتك والظلم والتنكيل بالوطنيين.
وبدا ان بيروت على عتبة انفجار. ولامتصاص الوضع أسس الأتراك في العام 1916 أربعة ملاجئ لإحتضان الصغار المشردين في الشوارع، بالتعاون مع نخبة من السيدات منهن: نجلاء بيهم، وعنبرة سلام، وثريا طبارة، وشفيقة غريب وعمتي ابتهاج قدورة. وحدث أن جاء جمال باشا إلى بيروت من عاليه وتفقد الملاجئ، ثم عاد إلى اجتماع حضره لفيف من السيدات والوجهاء والقادة العسكريين، حينذاك وقفت ابتهاج وألقت كلمة بالعربية أثارت دهشة القائد العثماني في تجرئها عدم إلقائها بالتركية. ثم دار بينه وبينها الحديث التالي كما تنقله فايزة سعد الدين في كتابها "السيدة ابتهاج قدورة رائدة النهضة النسائية في القرن العشرين".
* هل أنت من رعايا الدولة العثمانية؟
- نعم، سعادة الباشا.
* هل تعرفين اللغة التركية؟
- كلا.
* هل تجيدين لغات أخرى غير العربية؟
- نعم، الإنكليزية والفرنسية.
* كيف لا تعرفين اللغة التركية وأنت من رعايا الدولة العثمانية؟
استأذنت ابتهاج الباشا بسؤال تطرحه، فأذن لها بذلك فقالت: سعادتك مسلم فلماذا لا تعرف قرآنك؟
ذهل الحاضرون وخافوا، ومن بينهم أحمد مختار بيهم أحد أكبر وجهاء بيروت، لكن جمال باشا سرَّ بجوابها وسرعة بديهتها، فرّبت على كتفها قائلاً:
"آمل أن نلتقي في العام المقبل فأجدك تتحدثين التركية وتجدينني أتكلم العربية".
ومضت الايام، وأصيبت عمتي بمرض التيفوس أثناء عملها في ملاجئ الأطفال حتى كادت تفقد حياتها، لكنها، بعد ان استعادت قليلاً من صحتها، عاودت نشاطها وأسهمت في 23 تموز/يوليو من العام 1917 في تأسيس "نادي جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات" بالتعاون مع أمينة حمزة وعادلة بيهم ووداد محمصاني ووحيدة الخالدي وعنبرة سلام. وكان هذا النادي يهدف إلى رفع مستوى الفتيات ثقافياً واجتماعياً، وقد درج على إقامة الحقلات الشهرية التي يحضرها رجال ونساء ينتظمون في قاعة منفصلة، وقد أنشئت في النادي مكتبة للمطالعة، وظل عاملاً لمدة ثلاث سنوات، وربما كان أول ناد ثقافي نسائي في البلاد العربية.
على أن نشاط عمتي لم يتوقف يوماً عند مؤسسة واحدة، بل شمل أكثر من واحدة في وقت واحد، فقد اشتركت مع سلوى محمصاني وشفيقة سلام في "اللجنة النسائية لدار الأيتام الإسلامية"، ثم تسلمت عمادتها منذ العام 1920 إلى العام 1945، عندما أسست "رابطة الجمعيات النسائية الخيرية الإسلامية" لأحياء بيروت، ومارست نشاطها من خلال تشكيلها عشر جمعيات موزعة في أحياء العاصمة. وقد بذلت الرابطة، بتوجيه منها، جهودها لتخليص الأحياء العاملة فيها من التخلف الإجتماعي نتيجة الفقر والجهل والمرض، وعملت على رفع مستوى الأسرة بتوجيهها وتدريبها على حسن استثمار طاقاتها المهملة من أجل حياة فضلى.
وكانت كذلك، وبطلب وإلحاح من السيدة لور خوري زوجة رئيس الجمهورية بشارة الخوري حينذاك، صديقة "لجمعية الصليب الاحمر اللبناني" التي تأسست بفضل جهود المرأة اللبنانية في العام 1945.
* * *
وفي المجال الإقتصادي والإجتماعي، شاركت في تأسيس "جمعية النهضة النسائية" في بيروت العام 1924، بالتعاون مع والدتي خانم الحسامي والسيدات لبيبة ثابت، ونجلاء كفوري، وسلمى صايغ، وجوليا دمشقية، وسواهن. وكانت غاية هذه الجمعية زيادة تشغيل اليد العاملة وتشجيع الصناعة الوطنية. ومن أجل هذه الغاية، أقيمت المعارض، وارتدت السيدات الانسجة الوطنية، وسافر فريق من اللبنانيات إلى سوريا، حيث زرن المصانع واطلعن على كيفية الإنتاج، وطالبن باستبدال الأسماء الأجنبية على حواشي المنسوجات بأسماء المصانع العربية. وقد توقفت هذه الجمعية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم استأنفت بعدها أعمالها، ولا سيما في قرى الجنوب اللبناني، حيث افتتحت هناك المدارس لمحو الامية، وأنشأت بجانب كل مدرسة مركزاً لتعليم الخياطة والأشغال اليدوية.
في حفلة تكريمية أقيمت لإبتهاج قدورة بحضور رئيس الوزراء حينذاك الحاج حسين العويني وعدد من الوزراء والنواب والشخصيات السياسية والدبلوماسية العربية العام 1964، قالت المحامية لور مغيزل: "ابتهاج قدورة من اللواتي بعثن النهضة النسائية، ورعين حبوها وتلمساتها. ورافقن سعيها وتطوراتها، فإذا بها تتلبّس بالحركة النسائية، وإذا بالحركة النسائية تتجسّم فيها، حتى لم يعد بوسعك أن تميز بين الإثنين".(1)
ولقد رافقت عمتي الخطوات الاولى لتشكيل الحركة النسائية المستقلة، لتضم في العام 1921 معظم الجمعيات النسائية في لبنان، ثم يتحول هذا الكيان الإتحادي، في العام 1924، إلى هيئة مرخص لها رسمياً باسم "الإتحاد النسائي في سوريا ولبنان". بقي الإتحاد منذ تأسيسه الهيئة التي تزعمت ووجهت النهضة النسائية اللبنانية، وقد توالى على رئاسته، فضلاً عن عمتي ابتهاج عدد من السيدات اللبنانيات، منهن: إفلين بسترس، حنينة طرشا، لور ثابت، ونجلا صعب.
وقد وجهت في 7 تموز/ يوليو من العام 1938 كتاباً باسم سيدات العراق ولبنان وفلسطين، إلى الرائدة المصرية هدى هانم شعراوي تفوضها فيه الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني لدى الهيئات الدولية، أو لدى أية هيئة يمكنها أن تنصف القضية الفلسطينية وتؤمن لها الحل العادل. ثم وجهت كتاباً آخر إلى الرائدة شعراوي، باسم زعيمات الحركة الفلسطينية ورئيساتها، اللواتي التقين في منزلها العام 1944، اقترحت فيه عقد مؤتمر القاهرة لبحث قضية فلسطين.
بدأ الامر دعوة إلى اللقاء في المنزل، ثم تطورت الفكرة نحو عقد مؤتمر نسائي في لبنان، يخصص للموضوع الفلسطيني الذي كان ينذر بشرّ مستطير، وكان إلحاح الفكرة في محله بعد أن تبين أن عقد المؤتمر في دمشق قد يحرج الحكومة القائمة التي تضع في حسابها أنه لا بد وأن يتحول إلى مشاغبة على سلطات الإنتداب في فلسطين، ولتلافي احتمال مماثل في لبنان جرى استمزاح رئيس الحكومة الذي ارتأى ألا يتم الحصول على إذن رسمي، فنحن في موسم اصطياف، وسيدات البلدان المجاورة جئن مصطافات، "أعقدن حلقتكن، واطلعن بعد ذلك على الناس بمقررات لها صفة نتائج المؤتمر، وهذا يعني وضع الحكومة أمام الامر الواقع...." رغم إغراء مثل هذا الإتجاه، خاطبت ابتهاج الجمع خلال اللقاء في منزلها بالقول " أرى أن مؤتمراً ابن ساعته لا يأتينا بالنتائج التي نهدف إليها، إذ كل امرأة منتمية إلى جمعية نسائية في لبنان وسوريا ومصر والعراق تعرف مشكلة فلسطين، هدفنا هو إسماع الرجال صوتنا، هو استفزاز الرجل تجاه كارثة تستنفره إليها المرأة. وهذا لا يكون إلا في مؤتمر تسبقه الدعاية المنظمة ويحضره مراسلو الصحف الأجنبية وأصحاب الرأي من الرجال. وقد ارتأيت أن أكتب إلى الصديقة هدى هانم شعراوي رئيسة الإتحاد المصري. أن رغبتها لا تقل عن رغبتنا، ولو لم نكتب إليها لكتبت إلينا. لهذا أقول إن المؤتمر سيعقد في مصر هل توافقن يا ستات.
وافقت السيدات بالإجماع على الرأي السديد الوادع، رأي هذه اللبنانية التي إذا ما خطر في بال أحد أن يحصي ستات الستات "في الدنيا، فهي دون ما ريبة إحداهن".(2)
* * *
ثمة مجال آخر على المستوى القومي اتجه إليه نضال عمتي وهو اهتمامها بالقضية الفلسطينية، فقد أصبح الوضع في فلسطين لا يطاق بسبب السياسة الإستعمارية البريطانية والتآمر البريطاني الصهيوني، والإضطهاد الذي حلّ بشعب فلسطين، رجالاً ونساءً. وقد أدركت المرأة الفلسطينية أن عليها واجبات وطنية إلى جانب الرجل، ولذلك فقد طلب وفد من سيدات القدس العاملات في الحقل الإجتماعي برئاسة زليخة الشهابي إلى عمتي ابتهاج بحث موضوع فلسطين ودور المرأة في الأقطار العربية، فاقترحت أن يعقد مؤتمر عام لجميع السيدات العربيات بدعوة من الزعيمة هدى هانم شعراوي في القاهرة. وهكذا أرسلت عمتي هذا الطلب ونفذ بعقد المؤتمر العام في 12 تشرين الاول أكتوبر من سنة 1944 فحضرته أنا عن فلسطين، كوني رئيسة لإحدى الجمعيات النسائية في فلسطين. ولسوء الحظ لم تذهب عمتي إلى المؤتمر بسبب وعكة صحية ألمت بها. ولكنها أرسلت برقية وطلبت من أختي زاهية أن تحضره بمناسبة وجودها في القاهرة (تحضر أطروحة الدكتوراة) وكان الوفد اللبناني برئاسة السيدة روز شحفة، أما الرعاية وكلمة الإفتتاح فللملك فاروق.
أما عضوية الوفد اللبناني فكانت لكل من نجلاء كفوري، وإفلين تويني بسترس، ونازك عابد بيهم وحياة بيهم. وقد تحدثت في المؤتمر كلٌّ من كفوري وبسترس اللتين لم تشيرا في كلمتيهما إلى عمتي ابتهاج، مما أدى إلى انزعاجي واحتجاجي فسارعت السيدة كفوري إلى الإعتذار، لأن "هذا التجاهل لم يكن مقصوداً، وقيمة زعامة ابتهاج قدورة محفوظة ولا جدال حولها فهي رئيستنا ورائدتنا".
وفي اليوم التالي أقيم احتفال كبير في قاعة الإحتفالات التابعة لمقر الإتحاد النسائي المصري العام، بحضور حشد من شخصيات الحكومة المصرية والنواب والسفراء، واحتضنتني هدى هانم وأجلستني في الصف الامامي، وافتتحت كلمتها بتحية إلى الزعيمة ابتهاج قدورة صاحبة الفضل في عقد هذا الإجتماع، وأشادت بمناقبها ومآثرها. بعدها ألقت رئيسات الوفود النسائية العربية كلماتهن، وبصفتي رئيسة الإتحاد النسائي العربي الفلسطيني في طولكرم، ألقيت كلمة فلسطين وموضوعها، "نداء الأرض" نبهت فيها إلى ضرورة العمل بسرعة قبل ضياع الأرض الفلسطينية كلها.
دام الإتصال بين الرائدة ابتهاج قدورة وزعيمة النهضة العربية رئيسة الإتحاد النسائي العربي العام هدى هانم شعراوي سنوات طويلة، لتنسيق العمل النسائي العربي، وتطوير الحركة النسائية، وخدمة القضية الفلسطينية، وعندما توفيت هدى شعراوي في 17 تشرين الأول 1947، تمّ انتخاب ابتهاج قدورة خلفاً لها. وهذا أمر طبيعي باعتبار أن العلاقة بينهما هي التي أدت إلى قيام الإتحاد النسائي العربي العام، ويضم الإتحادات النسائية في جميع البلدان العربية ويعقد دوراته في مختلف عواصمها. وقد فازت عمتي بالتزكية لدى ترشحها في مؤتمر الإتحاد العربي العام الذي عقد في اليونيسكو العام 1948، وامتدت رئاستها اثني عشر عاماً على حقبتين، امتدت الاولى من العام 1949 إلى العام 1957 والثانية من العام 1962 إلى العام 1967. وقد اشتركت عمتي أيضاً في عدة محافل دولية نقلت خلالها صوت المرأة اللبنانية والعربية إلى أعلى المحافل.
ومن مآثرها فيها رفعها بتاريخ 26 أيار/ مايو من العام 1948، باسم الإتحاد النسائي العربي اللبناني، احتجاجاً شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية، بواسطة سفير بريطانيا في بيروت، على المأساة الأليمة التي يمثلها الساسة البريطانيون على المسرح السياسي في فلسطين العربية، حتى أصبحت ميداناً للفتنة وإراقة الدماء بدلاً من أن تكون ميداناً للأمن والسلام. ولكن نضالها لم يقتصر فقط على الدفاع عن حقوق المرأة بل تعداها إلى النطاق السياسي إذ سجلت العديد من المواقف الوطنية، ففي 8 تموز/يوليو من العام 1919، استقبلت في منزلها ببيروت لجنة كينغ- كراين الاميركية التي جاءت إلى بلاد الشام للوقوف على رغبة سكانها في الحكم الذي يريدونه لبلادهم التي انفصلت عن الدولة العثمانية، وقرأت عمتي أمام اللجنة بالنيابة عن زميلاتها: عنبرة سلام، وأمينة حمزة، وليلى وعادلة بيهم، مذكرة باللغة الإنكليزية عنوانها: "تمنيات المرأة العربية"، طالبت فيها ببرنامج دمشق الذي تضمن: طلب الإستقلال التام لسوريا بحدودها الطبيعية، ورفض أية حماية أو وصاية، ومنع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، كما طالبت في مذكرتها بحق سوريا في فرص التنمية والتطوير لتحتل مكانتها بين أمم العالم.(3) يقول Howard هاورد في بحثه "هذه هي المرة الاولى التي تطرح فيها المرأة اللبنانية قضيتها" لقد استحوذ الإعجاب على لجنة كينغ- كراين لذكاء ابتهاج قدورة "وطلاقة لسانها بالإنكليزية وحجتها وجرأتها ووقوفها على خفايا السياسة.. وكان اسم ابتهاج قدورة من أبرز الاسماء في خواطرها وأوراقها".(4)
وفي العام 1936، وبعد إطلاعها على نص المعاهدة الفرنسية – اللبنانية في الصحف، قدمت إلى رئيس الجمهورية إميل إده مذكرة تاريخية باسم الإتحاد النسائي في لبنان ورد فيها ما يلي:
قلتم يا فخامة الرئيس: لي الشرف أن أثبت لفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية أن الحكومة اللبنانية تضمن لجميع تابعيها، من دون تمييز، المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وأنا أتساءل هنا: "هل المرأة من أصل لبناني، وهل المولودة والمقيمة في لبنان تدعى تابعية لبنانية أم لا؟ فإذا كانت كذلك فقد نالت اعترافاً صريحاً من فخامتكم بمساواتها بالرجل في الحقوق المدنية والسياسية". فأجابها الرئيس إده على الفور بأن الدستور اللبناني ضمن لها الحق، إلا أن قانون الإنتخابات حصر الحقوق السياسية بالذكور دون الإناث.
وتابعت النضال، وتولت رفع العرائض كلما انعقد مجلس نيابي أو تألفت وزارة. ففي العام 1943 رفعت إلى المجلس النيابي عريضة باسم الإتحاد النسائي العربي اللبناني، طالبت فيها بالحقوق السياسية للمرأة اللبنانية، فتبناها عشرة نواب ثم قدموا عام 1944 اقتراحاً إلى المجلس بمنح المرأة حقوقها الإنتخابية والتمثيلية كاملة، لكن المجلس النيابي رفض هذا الاقتراح، فأعادت الكرة العام 1945 بطرح الموضوع بإلحاح، متأثرة بوثبة المرأة السورية التي نالت، ذلك العام بالذات، حقها أن تنتخب ممثلي الشعب في الندوة النيابية. ونتيجة للمثابرة، ولموقف الإتحاد النسائي وأصوات النساء في جميع مناطق لبنان، اقترحت اللجنة التشريعية في المجلس النيابي الإعتراف التدريجي بحقوق المرأة السياسية على أن يكون لها الحق بأن تنتخب ولا تُنتخب. قابلت النساء هذا الإقتراح بالإحتجاج الشديد، وقادت عمتي في 20 آذار/مارس 1951 مظاهرة كبيرة سارت فيها المتظاهرات نحو المجلس النيابي، حيث سلمت رئيسه مذكرة تضمنت احتجاج النساء على ذلك الإقتراح المبتور. بعدئذٍ منحت الحكومة اللبنانية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1952 المراة المتعلمة فقط حق الإنتخاب، إلا أن النساء رفضن القبول بهذا الشرط، إذ كيف يجوز للرجل الامي أن يمارس حقه الإنتخابي ولا يجوز للمرأة الامية؟!. ولهذا جدّت النساء في طلب المساواة، فوافق مجلس الوزراء في شباط/فبراير من العام 1953 على إعطاء المراة حق الإنتخاب. وفي العام نفسه، انتخبت عمتي وزميلتان لها، هما لور تابت والين ريحان، لعضوية المجلس البلدي لمدينة بيروت، فقطفت المرأة ثمار جهادها بهذه المبادرة الرسمية من الحكومة اللبنانية التي اعترفت بمساواة المرأة بالرجل.
إنني أخشى أن اكون أطلت في الكلام عن إبتهاج قدورة، إلا أني حاولت قدر الإمكان إبعاد العاطفة التي أحملها لها. واختصاراً لما يستحق أن تفرد له صفحات، وقد أفردها آخرون سواي، وأود أن أشير إلى أنها ترأست سنة 1961 وفد لبنان النسائي إلى المؤتمر الآفرو- آسيوي الذي عقد في القاهرة للبحث في قضيتي فلسطين والجزائر، وألقت كلمة عبرت فيها عن وجهة نظر المرأة اللبنانية الداعية إلى استمرار النضال حتى ينال القطران استقلالهما بجلاء الإستعمار الفرنسي والاحتلال الصهيوني، وقد شاركت في أعمال المؤتمر كرئيسة لوفد الإتحاد النسائي العربي، ثم توجهت بعئذٍ مع رئيسات الإتحادات النسائية الافرو- آسيوية لزيارة الرئيس جمال عبد الناصر الذي استقبلنا بالترحاب مثنياً على جهودنا الخيرة.
وقد حضرت اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر المذكور، بوصفي رئيسة للوفد الفلسطيني، وانتخبت في الهيئة الإدارية التي تمثل آسيا وأفريقيا.
أختم بالقول إن عمتي توفيت في صيف العام 1967، بعد أن امضت عمرها في خدمة المرأة اللبنانية والعربية من دون تفكير في جزاء وحين علمت الاديبة المصرية أمينة السعيد بوفاتها قالت:
" لقد توارى بفقدها وجه من أكرم الوجوه العربية في تاريخنا الحديث، وبموتها ماتت هدى هانم شعراوي للمرة الثانية".
لقد كرّست عمتي حياتها للجهاد والخدمة العامة، ولم تتزوج قط، على الرغم من أنها كانت جميلة المحيا وثرية، وسيدة من الطراز الاول، أذكر أنه عندما أصبحنا في سن الزواج خاطبتنا قائلة:
"لا تفعلوا مثلما فعلت عمتكم ابتهاج، فأنا رفضت الزواج من أفضل الرجال، وكان ينبغي ألا أرفضه، ذلك كان خطأ، لا يكفي أن تتعلموا، وتحصلوا على الشهادات العالية، بل ينبغي أن تتزوجوا أيضاً. هذه هي سنة الحياة، والعلم والزواج يجب أن يتحققا معاً".

(1): الدكتورة فايزة سعد الدين: السيدة ابتهاج قدورة رائدة النهضة النسائية. مجلة تاريخ العرب والعالم: العدد 25. الجدير ذكره أن حفل التكريم أقيم في التاسع من آذار العام 1964.
(2): المصدر السابق ص 21 – 22.
(3): سلمى صايغ، صور ومذكرات ص 162.
(4): سلمى صايغ، صور ومذكرات ص 163.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق