السبت، 11 ديسمبر 2010

الرفيق الدكتور شكر الله حداد باقٍ في صور رغم رحيله

الــرفـيـق الــدكـتــور
شـكراللـه حـداد
باقٍ فـي صـور رغـم رحـيله
الأمين لبيب ناصيف

حتى اليوم، ما زال المتقدمون بالعمر من أبناء مدينة صور، يذكرون بكثير من التقدير الدكتور شكر الله حداد الذي امتهن الطب مهنة إنسانية، فجسّدها في كافة تصرفاته مع المرضى، لا يبغي منها ربحاً ولا يطمح من ورائها إلى بناء قصور أو اقتناء يخوت، وسيارات فخمة.
لأنه كان انتمى إلى الحزب واعياً بعمق عقيدته ودستوره، والغاية التي دفعت سعاده إلى تأسيس حزبه نهضةً لأمته، عاش الرفيق الدكتور شكر الله حداد حياته مناضلاً قومياً اجتماعياً، ومواطناً فواحاً بعطر العطاء، ومشكلاً في محيطه قدوة ما زالت حية في ضمير وذاكرة أبناء صور الذين عرفوه جيداً أو سمعوا عنه الكثير.
*
الرفيق حسن مرتضى الذي ساهم بتزويدنا بالكثير من المعلومات عن الرفيق شكرالله حداد مما جعلنا نكتب عنه هذه النبذة، يقول: أن سعادة عندما زار مدينة صور صيف 1947 كان بيت الدكتور شكر الله حداد محطته الأولى، لما كان قد سمع عنه من مآثر ومناقب قومية كانت حديث الناس في المجتمع، لما يتمتع به من محبة واحترام في جميع الأوساط وبين جميع الفئات من الأحزاب والجمعيات والنوادي وإفساح المجال له ليعبر من على منابرها بآرائه الوحدوية البعيدة عن التعصب الديني والمذهبي والموالاة لأي متزعم أو إقطاعي.
ويضيف أن مدينة صور عبّرت عن تقديرها ووفائها في حضوره كما في غيابه فانتخب رئيساً فخرياً لكثير من نوادي وجمعيات المدينة، كما أطلقت بلدية صور بقرار اتخذ بإجماع أعضائها اسمه على الساحة الفسيحة قبالة عيادته حيث تطالعك هناك لوحة رخامية حُفر عليها بالخط العريض "ساحة الدكتور شكر الله حداد". أما يوم وداعه فلا يزال حديث الناس حتى اليوم إذ زحفت جموع أبناء المدينة من أحيائها، كباراً وصغاراً، وسارت وراء نعشه تتقدمها لأول مرة مكبرات الصوت تتعالى منها آيات القرآن الكريم فتتناغم مع تراتيل الإنجيل المقدس لتشكل ظاهرة قد لا تتكرر في حياة أي إنسان آخر.
"يوم فلسطين" في صور:
في أدبيات الحزب أن الرفيق شكر الله حداد كان من بين الذين خطبوا في المهرجان الحاشد الذي أقيم في صور يوم الأحد 28 تموز 1946 بعنوان "يوم فلسطين".
هيأ للمهرجان عميد الداخلية والرياضة (عمدة الدفاع) الرفيق جورج عبد المسيح، منفذ عام صور الرفيق خليل حلاوي، منفذ عام الطلبة الرفيق فوزي معلوف ورئيس مكتب الدعاية للرأي العام الرفيق فكتور أسعد والرفقاء أعضاء هيئة منفذية صور.
حضرت المهرجان وفود حزبية من مختلف قرى وبلدات قضائي صور وبنت جبيل، ومن منفذيات طرابلس، الشوف، الساحل الجنوبي، الغرب، مرجعيون، الكورة، ومديرية النبطية المستقلة.
تحدث في المهرجان منفذ عام صور الرفيق خليل توفيق الحاوي، عميد المالية الرفيق عبد الله محسن (الأمين، رئيس الحزب لاحقاً)، الرفيق نظمي عزقول، وكيل عميد الإذاعة الرفيق وديع الأشقر، الرفيق ممتاز الخطيب، عميد الإذاعة فايز صايغ، الرفيق شكر الله حداد، وختاماً رئيس المجلس الأعلى نعمة ثابت، وأنشد الرفيق يوسف تاج قصيدة قومية عن فلسطين.
كلمة الرفيق شكر الله حداد:

عندما دعيت للكلام في هذا اليوم قيل لي أنه " يوم فلسطين " وإن لي تعليقاً على هذه التسمية .
إن حق فلسطين علينا ليس يوماً من أيام حياتنا فحسب ولا أسبوعاً من أصل جهادنا ولا سنة مما قسم الله لنا في عمرنا .
إن حق فلسطين علينا يلزمنا منذ تشتد سواعدنا وتتفتح بصيرتنا ونقلب صفحة ، عليها في كتاب التاريخ مآثر تاريخنا .
إنكم تدركون ولا ريب أية وصمة عار في جبينكم وأي خطر بعيد المدى على مستقبلكم تنطوي عليه كارثة تهويد فلسطين .
وكأنني بمنظمي هذا المهرجان في بلدتنا هذه يسألوننا وجهة نظرنا ، إننا هنا في صور وفي جبل عامل بالنسبة للخطر الصهيوني في الصفوف الأمامية من جهة القتال وخط النار .
نحن نعلم أن الجهاد في سيبل فلسطين عبء يقوم على أكتاف الدول العربية مجتمعة متكتلة . ولكنها لا يسعها أكثر من أن تنسق المجهود العام وتوحد التوجيه للجهود الفردي الذي نقوم به ونحب أن يقوم به كل واحد منا .
تأكدوا أيها الإخوان أنكم أياً كنتم يمكنكم أن تعملوا شيئاً لأجل فلسطين في بيئتكم الخاصة وعملكم الخاص . يجب ألا يثبط من عزائمنا ، إننا شعب قليل العدد ، فليس اليهود بأكثر منا عدداً ويمكننا أن نكون أوفر منهم عدداً لكنهم وحدوا جهودهم واسمعوا أصواتهم صوتاً واحداً حتى كادوا يفرضون إرادتهم في غيابنا فليس المال ولا الرجال كل شيء ، إنما الكفاح يجب أن يكون فوق كل شيء ، عزيمة وإيماناً ويقيناً ، ومتى كان كفاحنا على هذه الصورة عندئذ نفرض على العام احترامنا ، وتفسح لنا الطريق واسعة للوصول إلى حقوقنا .
وفاتـه:
في 26 تشرين الثاني من العام 1970 وافت المنية الرفيق شكر الله حداد عن عمر يناهز السبعة وخمسين عاماً فأقيم له مأتم حافل عبرّت فيه مدينة صور على وفائها ، وعن تقديرها لطبيبها الإنساني . وفي الذكرى السنوية الأولى لغيابه أقيمت في 25 تشرين الثاني 1971 في قاعة سينما ريفولي في صور حفلة تأبينية بدعوة من جمعيتي الشبيبة المسيحية وسيدة البحار ، تكلم فيها كل من الرفيق حسن مرتضى ، والسادة خليل شرف الدين ، الشيخ أحمد مغنية ، مصطفى شرف الدين ، وأسعد برادعي الذي ألقى كلمة جمعيتي الشبيبة المسيحية وسيدة البحار . مجلة الحزب " البناء " التي نشرت الخبر في عددها رقم 47 بتاريخ 11 كانون أول 1971 أفادت: " أن أهالي مدينة صور شاركوا في الاحتفال التأبيني بجميع فئاتهم تقديراً لذكرى الرفيق الفقيد الذي وقف حياته حتى آخر لحظة وهو يناضل في سبيل أمته " . وإلى جانب الخبر نشرت " البناء " نص الكلمة التي ألقاها الرفيق حسن مرتضى ، نقتطف منها المقاطع التالية :
" أيها الغائب الذي يملأ حضورنا...
بعدك الحرف شراع ممزق على رصيف الموانئ ...
بعدك الكلمة سفينة مثقوبة تغوص في الأعماق ...
تقرع الأجراس ، تهلل المآذن وتكبر ، تختلط التواشيح بالتراتيل في طلّة العيد ، والفرح ما زال يمعن في نزوحه عنا .
لماذا أيها الصوري العنيد تهاويت على حدود الرؤيا ؟؟
لماذا تركناك تتهاوى كأننا بأيدينا ندفعك ؟؟
أجل أيها الأخوة، إن شكر الله الحداد لم يمت بل اغتيل ونحن أصدقاؤه قبل كل الناس شاركنا في دم هذا الصديق؟! شكر الله حداد الذي كرس حياته مستنفراً في غرفة العمليات، يضمد جراحنا ، يخفف أوجاعنا ويعالج همومنا، لماذا لم نعطه راحة المحارب ؟؟ لماذا لم نلزمه بها ؟؟؟
شكر الله حداد الذي قضى أيامه ، كل أيامه منتصباً كعمود الهيكل تداعت رجلاه أخيراً تحت وطأة جبروته ، لماذا ؟؟ لأنه كان بحاجة لأكثر من رجلين ، هذا الذي يتحرك كمجموعة متباينة من الناس ، كان يعمل عنا جميعاً ، يتصدى ولو وحيداً لكل طارئ ، ليرفع أي حيف ، ليملأ مطلق فراغ . يداوي جراح الناس ، ولا يبالي بجراحه ، يعطي حتى الحرمان ، يعطي من سأله ويعطي من لم يسأله .
وكان مع بلده ، مع تطلعات شبابه وأحلام شيوخه ، فلم تتحرك جماعة في صور إلا وشحنها بطاقة من عزم ، ورواها بعصارة من دم ، كانت تسكره الحركة . لم يتحزب شكر الله حداد طوال حياته رغم التزامه ، كان أبعد من التحزب وأكثر انفتاحاً من محدودية الالتزام حتى أن كل فئة وكل جماعة ، بل وكل طائفة تفاخر بعدّه بين رجالاتها .
على نغمات المحبة وحدها دوزن خطاه ، وحروفه لم تكن يوماً إلا فعل إيمان يزرعه في كل ما حوله ومن حوله ، يستقطب الإمكانات ويجمع الطاقات ، يحول الروافد ، كل الروافد لتصب في مجتمعه .
لقد أداننا شكر الله حداد بموته ، أدان فرديتنا وتقاعسنا ، أدان تفسخنا وتنازعنا ، أدان هروبنا من التصدي والمواجهة ، أدان فلسفة النعامة فينا . في عصر الذرة وغزو الفضاء لم نعط أن نصبح مجتمعاً موحداً في هذا الحين الضيق من الأرض ، فما زلنا نراوح في قبليتنا وعشائريتنا ، نقتتل أفراداً ونقتتل جماعات على التوافه نقتتل ، على القشور ... نقتتل على السماء والأرض تضيع من تحتنا شبراً شبراً ...
ويسقط الأبطال من رجالنا في ميدان الواجب وساحات الشرف ، يتحررون من جاذبية الماضي وهذيان الحاضر ، يموتون على حدود المستقبل فلا نملك إلا كلمات الرثاء ... "

ذكرى مرور 20 عاماً على غيابه
في تشرين الثاني من العام 1990 وفي ذكرى مرور 20 عاماً على غياب الرفيق شكر الله حداد أقيمت له ذكرى حافلة في " نادي التضامن " تحدث فيها أيضاً الرفيق حسن مرتضى ، إلى جانب آخرين .
في كتابه " ونبقى معه " يورد الرفيق مرتضى نص الكلمة التي ألقاها وقد جاء فيها :
" تراها محبة الله هي التي غيبتك باكراً حتى لا يدمى فؤادك وأنت ترى أرتال الجراد وهي تنهش الأخضر واليابس من حولنا... ولا حول لك ولا قوة... يشرد الفكر بعيداً وهو يستعرض همومنا التي حملت بعضها يا راعي الجمالات عندنا !! ألم ننتخبك يومها رئيساً للجنة قدموس رائد الحرف والمعرفة !!
أذكر يا حكيم حين كنا في رحاب العاملية ووقفت بعد الشيخ عبد الله العلايلي تلقي كلمتك في تأبين مرجع ديني كبير... ربما كان السيد محسن الأمين ، كيف كان هذا العلامة العبقري يطيّب لك عند كل مقطع فيها وكيف تقدم وعانقك وسط موجة الإعجاب التي أحاطت بك من كل صوب ..
كبيراً كنت يا حكيم في زمن عزّ فيه الرجال.. الرجال
لم تكن فرداً في مجتمع.. بل مجتمعاً في فرد...

وفي 22 كانون الثاني 1994 أقيمت في نادي التضامن في صور حفلة خطابية تكريمية للرفيق شكر الله حداد تناوب على الكلام فيها كل من الرفيق حسن مرتضى ، المطران يوحنا حداد ، السيد جعفر عبد الحسين شرف الدين ، واختتم الحفلة الأستاذ جورج غنيمة باسم آل حداد شاكراً منظمي الاحتفال وخصوصاً اللجنة الثقافية في نادي التضامن .

بعض ما قيل فيه:
في الحفل التكريمي الذي أقيم في نادي الإمام الصادق ، ألقى كل من الإمام السيد موسى الصدر ، النائب العام للمطرانية المارونية في صور مارون صادق ، والشاعر سعيد عقل كلمات مؤثرة بالرفيق الفقيد نقتطع منها التالي :
• الإمام السيد موسى الصدر :
" إن شكر الله الحداد من خلال اختصاصه وفي أغلب مشاركاته الاجتماعية الواسعة وفي صداقاته وعلاقاته الخاصة كان يمتاز بالسلوك الحي .
إنه كان يذوب في سلوكه ، أو قل أن سلوكه كان قطعة منه ولذلك كان رسالياً في ممارسة طبه لا تاجراً .
وكان إنساناً متجدداً باستمرار في مشاركاته العامة لا يتجمد في القطر والعناوين .
وكان اتساعاً لوجود صديقه أو قريبه في علاقاته الخاصة .
وهو في كل هذه الحقول يدخل إلى القلب ويبني جسراً حياً موثوقاً بينه وبين الآخرين ، ذلك الجسر الذي كان قطعه منه ، إنه الشمعة التي تذوب خلال إشراقاته المضيئة لتنير الدرب للآخرين " .

• النائب العام للمطرانية المارونية في صور مارون صادق :
" كثيراً ما يقال أن الانتماء في لبنان هو انتماء طائفي ثم وطني . أما المرحوم الدكتور شكر الله حداد فوحد في انتمائه المرحلتين في مرحلة واحدة لا بل تجاوزهما ليصل إلى مرحلة الإنسان الموحد بين الصعيد الإيماني والصعيد الاجتماعي والصعيد الوطني فصاغ لنفسه وبنفسه الإنسان المحب ، المنفتح ، المؤمن ، غير المتزمت وغير المنطوي على نفسه ، البعيد عن الإيثار والاستئثار ، عن الأنانية والطائفية ، عن حب الذات والمصلحة الفردية ، عن الصنمية والتبعية . فجعل من التضحية هدفاً وشعاراً ومن العطاء غاية ووسيلة فأعطى بلا حساب ولا منّة وبقي في الآن معاً متمسكاً بإيمانه ، متكاملاً معه وفيه تكامل السراج مع الزيت والزهرة مع عبيرها .
• الشاعر الأستاذ سعيد عقل :
" ما أروع التكلم على البطل في بيت مضمخ باسم الإمام البطل
شكر الله حداد اسم أثير إلى قلبي . وسيبقاه .
لبناني كما قلائل ومناضل جنوبي أقولها كما يقال عن ابن فرنسة أنه باريسي إذ باريس هي التاج وطبيب كما بروح قسم أبقراط يريد الطبيب .
في جنوبيته يتفرد .
أنا الذي أكاد أكون جنوبياً لوفرة ما فتح علي بنتيجة ما قرعت أبواب صيدا وصور وقانا أنا نفسي أشهد له بها . كيف أحب هذا العلامة في التاريخ رقعة اليسا وإقليدس رقعة مؤسسي الإمبراطوريات وكاشفي أسرار الطبيعة ؟ أماطة اللثام عن ذلك سعادة وفورة قلب . وكأني به أحد الذين كان ينبغي اختراعهم " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق