الوطنـية عند المـعلم بطـرس البسـتاني
ومـضـامـينها الاجـتماعـية (*)
بقلم شحادة الغاوي
قبل الدخول في صلب الموضوع أود أن أوضح ما يلي:
لن أكتفي بمجرد تقديم معلومات عن المعلم بطرس البستاني معرفاً بأفكاره وأعماله الوطنية، بل سأتناول أيضاً الفائدة والعبرة التي يمكن استخراجها من تلك المعرفة "فالمعرفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر".
وسأفعل ذلك عن طريق عقد مقارنتين:
بين الظروف الوطنية والسياسية التي عمل فيها من جهة والظروف الوطنية والسياسية الحاضرة من جهة أخرى. ثم بين موقف البستاني في ظروفه وموقف ما تسميه الصحف اليوم بالقيادات الوطنية في الظروف الحاضرة.
إن المعلم بطرس البستاني عاش ما بين 1819 و 1883 وابتدأ إنتاجه العملي والفكري في الحقل الوطني عندما عين أستاذاً في مدرسة عين ورقة الشهيرة التي كان يتعلم فيها وكان عمره أقل من عشرين سنة، ثم في الجمعية السورية فالجمعية العلمية السورية ثم في جريدة نفير سورية ثم في المدرسة الوطنية التي أنشأها وأدارها، ثم في دائرة المعارف أول انسيكلوبيديا علمية في اللغة العربية والتي أصدر منها تسعة أجزاء قبل وفاته سنة 1883.
ولكنني أستطيع ان أقول أن زبدة أفكاره ومواقفه الوطنية وأشدها وضوحاً وقوة هي التي كانت رداً على فتنة الستين وبعد هذه الفتنة مباشرة. وإذا عرفنا ماذا ينطوي تحت اسم فتنة الستين عرفنا الظروف السياسية والإجتماعية والوطنية التي كانت سائدة يومذاك.
دعونا على لسان البستاني نفسه نتعرف على تلك الظروف.
يقول في العدد الثامن من جريدة نفير سورية ما يلي:
"ومن جال في مدن سورية وقراها وطاف في جبالها وسهولها وعلى الخصوص في الأماكن التي كانت مسرحاً للحروب والارتكابات لا يقع نظره إلا على مناظر مكدرة للغاية ولا يسمع إلا أصوات التذمر وعدم الإرتضاء وتعاسة الحال، ويحكم بأن هذه الحركة ربما تكون نتيجتها خلو البلاد من المال والرجال حتى يمسي أهلها في حالة المذلة والمسكنة ويصبح أكثرهم فقراء متسولين".
ويقول في العدد السادس ما يلي:
"إن الذين أكلهم حد السيف والذين قتلوا هدراً وغدراً وقصاصاً والذين ماتوا لسبب الرعبات والمخاوف ورداءة المعيشة والاطفال الذين ضحتهم شهوات الأردياء الخبثاء وذهبوا شهداء بربرية أقوام متوحشين، يبلغ عددهم نحو عشرين ألفاً. وكلما غابت شمس يزيد العدد وكلما أشرقت شمس ينتقل كثيرون من دفاتر الأحياء إلى سجلات الموتى. ويا ليت الخراب وصل إلى نهايته ووضع حد لهذه المصايب والخساير لكي نختم حسابها، ان أحوال المستقبل إلى الآن مظلمة، نعم مظلمة جداً، ولا نعلم متى يأت الوقت الذي تشرق فيه شمس الراحة في سوريا إشراقاً لا غياب بعده، نسأل الله أن ينظر باللطف والرحمة نحو هذه البلاد المنكودة الحظ".
وفي مكان آخر يقول: "إن الخسائر المادية مما أحرق من البيوت يقدر بمدخول سوريا من موسم الحرير في ثلاث سنين ونصف تقريباً على حساب ألفي قنطار سنوياً".
هذا ما يقوله المعلم بطرس البستاني، أما نحن فنقول بأن ظروفنا اليوم، في بعض جوانبها، هي مشابهة إلى حد كبير لتلك الظروف.
لكننا سنرى أن موقف البستاني وفكره الوطني في ظروفه يتقدم كثيراً بل يتفوق كثيراً جداً على موقف وفكر من تتصدر أقوالهم وأخبار مواقفهم عناوين صحف اليوم وأخبارها الرئيسية.
أولاً: لم تكن وطنيته شعاراً جذاباً ولا أدباً أو كلاماً جميلاً ولا دبلوماسية ولياقة تظهر بمظهر وطني جامع وتخفي ولاء فئوياً وموقعاً فئوياً طائفياً في معظم الأحيان.
المعلم بطرس لم يتكلم باسم طائفته ولم يدافع عن مصالح طائفته ولم يسع لتمثيل طائفته أو حتى منطقته المحدودة المتعددة الطوائف والمذاهب. لأنه من جهة كان يرى الدين والإيمان الديني أمراً داخلياً شخصياً وان أبناء طائفة معينة هم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ووطنياً يشتركون في ما يسميه "صوالح عامة" واحدة من أبناء وطنهم من الطوائف الأخرى، وبالتالي فإن مصلحتهم هي من مصلحة الكل الواحد، وغير صحيح أن مصلحة الكل هي مجموع مصالح الأجزاء، فلا أجزاء عنده بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي السياسي الوطني، بل وطن واحد ومجتمع واحد كما سنرى.
في سلسلة مقالاته في جريدته "نفير سورية"، هذه المقالات التي كان يسميها وطنيات، وهي إحدى عشرة وطنية، في هذه السلسلة لم يجد أي مبرر أو اي سبب للفتنة الطائفية غير قلة الدين وقلة الوعي وانعدام التمدن والإنصياع لأهل السوء والشر وإرادة الأجانب الذين لا يهمهم "نجاح الاهالي وتقدم البلاد" حسب تعبيره.
كان يوقع مقالاته باسم "محب الوطن" دون ذكر اسمه وكان يتوجه في مقالاته لهيئة اجتماعية واحدة (التعبير له) قائلاً: يا أبناء وطني أو يا أبناء الوطن.
إن من يقرأ مقالاته ونداءاته في نفير سورية لا يستطيع أن يكتشف أكاتبها درزي أم مسيحي ولا يستطيع أن يجد أي إشارة تفيد ان الكاتب يتعاطف مع هذه الفئة الطائفية أو تلك، فقط من محب الوطن، وإلى أبناء الوطن.
ولا ادري إذا كان توقيع من "محب الوطن"، دون ذكر الاسم الصريح بطرس، كان يقصد نزع أي احتمال لتأويل المسؤولين وتفسير كلامه تفسيراً فئوياً على أساس أن فلان من الطائفة الفلانية لا بد له أن ينحاز إلى طائفته ويدافع عنها.
ولا بد هنا، ومن اجل التأكيد على صحة ما قلته لحد الآن، من الاستشهاد بفقرات من مقالاته على صلة بهذه النقطة الاولى.
في الوطنية الخامسة يشنع في مبدأ صراع المصالح الطائفية بين أبناء الوطن الواحد ويقول:
"هذا المبدأ الحيواني الخبيث الموروث من البرابرة كثيراً ما رفع رأسه وهاج فأوقع البلاد في الخراب والوبال وبدد المال والعيال".
ويزيد: "ومن شأن هذا المبدأ الخبيث أن يتلون في كل دور بلون ومن أشنع هيئاته وأقبحها الهيئة التي ظهر بها في هذه السنين القريبة العهد التي أنتحل فيها ألقاباً قديمة مقدسة عند أهلها كنصراني ودرزي ثم مسلم ومسيحي...".
ولنقرأه في الوطنية التاسعة يقول قوله العميق الرقيق الرفيع الرائع التالي، محدداً شروط التمدن للسوريين:
"إنهم لا ينظرون في ما بعد إلى أخوتهم في الوطن من حيث المذهب والجنسية الدينية بل من حيث الاخوة الوطنية، وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الانسان وابن وطنه او بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين، لا يؤمل نجاحهما في أحدهما ولا فيهما جميعاً كما لا يخفى".
"يا أبناء الوطن إنكم تشربون من ماء واحدة وتشتمّون هواء واحداً ولغتكم التي تتكلمون بها وأرضكم التي تطأونها وصوالحكم وعاداتكم فهي واحدة".
ثانياً: لا تجد في كل كتابات وأعمال البستاني أثراً لمقولات التوازن والتعايش، هذه المقولات الرائزة في قاموسنا السياسي اليوم، أنه يتكلم عن مجتمع واحد بكل ما لكلمة مجتمع من معنى، وحدة البناء المادي والنفسي.
يتكلم عن مجتمع واحد أهم خصائصه التماذج والإختلاط بين مختلف عناصره. صحيح أنه لم يعقد بحثاً علمياً حول معنى المجتمع والامة ووحدة الحياة في دورتها الاقتصادية الاجتماعية ومبدأ التفاعل الاجتماعي على أرض الوطن والبيئة الطبيعية الواحدة، كما فعل سعاده في كتابه نشوء الامم مثلاً، ولكنه لم يفعل ذلك لأن ذلك لم يكن مشروعه المباشر وهو لم يكن يضع عقيدة أو فلسفة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل كما قلنا كان يكتب مقالات رداً على فتنة الستين، ومن هذه المقالات أمكننا استخراج ما يمكن تسميته المضامين الاجتماعية لفكرته الوطنية.
يقول في وطنيته السابعة: "ولعلمنا بأن نجاح أموركم يتوقف على الإختلاط والإمتزاج ونتيجة ذلك تكون الألفة والإتحاد، نأمل، مع ما يرد علينا من الإعتراضات والمناقضات أن شيئاً من الإلفة سينبت إن شاء الله تعالى مع الزروع وينمو بنموها".
إذا علمنا أن مئة وثلاثين سنة تفصل بين تبني مقولة التفاعل، أي الإختلاط والتمازج بتعبير البستاني، وبين مقولات التعايش والتوازن التي يرفعها أمراء الحرب الأهلية في بلادنا اليوم ومن جاراهم من المثقفين ثقافة سطحية ناقصة، وإذا عرفنا أن مقولة التفاعل الاجتماعي ووحدة الحياة والمصالح التي هي أصل وسبب وأساس كل صفات أخرى من وحدة العادات والتقاليد والثقافة وحتى اللغة، إذا عرفنا أن هذه المقولة يتبناها علم الإجتماع الحديث كمسلمة علمية لا جدال فيها، وإن مقولة التعايش هي خاصة بالقطعان وليس بالإنسان المتحضر، إذا عرفنا ذلك عرفنا كم هو متقدم المعلم بطرس البستاني وكم هو متفوق على من تفرضه عليكم الصحف اليوم كقادة رأي وقادة وطنيين يجملّون أنفسهم وسياساتهم ومواقعهم الطائفية بعبارات التعايش والتوازن وهم عاجزون وغير مؤهلين حتى لتحقيق هذا التعايش رغم فقر مضمونه وعدم قدرته على بناء مجتمع ودولة وتقدم.
ثالثاً: لم تكن قيم البستاني مطلقة دون تحديد وتعيين. ولم يكن عنده شعار الوطنية مطلقاً دون تحديد وتعيين. فالوطن عنده هو الوطن السوري، إنه سورية، وأبناء وطنه هم السوريون كلهم.
ففضلاً عن أنه يمكننا استخراج ذلك بشكل غير مباشر من كتاباته وعباراته كما سمعتم عندما استشهدت بالكثير منها فيما تقدم، فإنه بإمكاننا أن نجده يوضح ذلك تصريحاً بشكل مباشر. انه يقول مثلاً في الوطنية الرابعة ما يلي:
"سورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا.
وتتكرر عبارة أهالي سورية أبناء وطننا عدة مرات في مقالاته.
ان هذا الموضوع قد يكون غريباً اليوم عند البعض وقد يكون مادة جدال ونقاش بعد أن نفذت معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية وبعد إعلان قائد جيش الإحتلال الاجنبي الفرنسي الجنرال غورو "باسم حكومة فرنسا الحرة" قيام دولة لبنان الكبير ضمن حدود وضعت في حينها على الورق، وعندما جاءت فرق المساحة لتنفذها على الأرض تبين أن خط الحدود الجنوبي يمر في قلب قرية دير سريان وبالتحديد في أحد بيوتها فيضع المطبخ والصالون في لبنان وغرف النوم والحمام في فلسطين فقالوا إن حدود لبنان الجنوبية هي خط غير طبيعي يمتد من الناقورة إلى بانياس.
قد يكون غريباً اليوم أن نعرف أن البستاني واليازجي والمطران يوسف الدبس وبعدهم جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم وكلهم من جبل لبنان يقولون بأن سورية هي وطنهم وأن السوريين هم أبناء وطنهم.
قد يكون غريباً ذلك عند البعض بعدما صير إلى خلط علم الإجتماع والتاريخ والجغرافيا بالسياسة والمصالح السياسية الطائفية وبعدما شوّه معنى الوطن ليصبح مساوياً لمعنى الدولة، ومعنى المجتمع الطبيعي ليصبح مساوياً لمعنى المجتمع السياسي أما عند البستاني وسائر رواد النهضة الفكرية والوطنية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي فكانت الأمور تسمى بأسمائها الصحيحة ولم تكن الإرادة الاجنبية واليهودية قد نفذت فصولها في تقسيم وطننا وتغييب هويتنا الوطنية شرطاً مسبقاً ليمكنها السيطرة على أمورنا وإنشاء "دولة إسرائيل". عندما كان البستاني وغيره يقولون بأن سورية هي وطننا وأن السوريين هم أبناء وطننا لم يكن يوجد من يعترض على ذلك، الامر كان محسوماً ومسلماً به لأنه يتعلق بالهوية وبالذات الوطنية الغالية العزيزة قبل أن يشوهها تحالف الإرادة الأجنبية مع لعنة الطائفية المحلية.
واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان يمكن للبستاني أن يقول لو وجد في زمانه من يقول بوطنيات متعددة وقرارات وطنية متعددة ومستقلة لا عن شيء إلا عن بعضها في قلب الوطن الواحد وبين أبناء الوطن الواحد، واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان موقف البستاني من المطالبة بتحرير جزء من البلاد من الجزء الآخر من البلاد نفسها انطلاقاً من عاصمة دولة أجنبية احتلت بلادنا واستعمرتها واضطهدت أحرارها وساهمت في بذر بذور الفتنة الطائفية فيها.
رابعـاً: عـروبـة الـبستـانـي
كما كانت وطنية البستاني ثابتة واضحة قوية نقية غير خاضعة لمتغيرات السياسة والإرادة الاجنبية، كذلك كانت عروبته عروبة واقعية صحيحة وليس عروبة عاطفية ذات خلفية دينية.
إنه يميز بين عروبة قبل الإسلام التي يقصرها على أبناء الجزيرة العربية، وعروبة ما بعد الفتح الإسلامي التي حملت كثيراً من طابع وحضارة سورية والسوريين. في خطاب عنوانه آداب العرب، يقول المعلم بطرس البستاني:
"إن العرب قبل ظهور الإسلام أي في أيام الجاهلية كانوا قوماً أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا القليل منهم، والعلوم التي كانوا يتفاخرون بها هي علم لسانهم ولغتهم ونظم الإشعار وتأليف الخطب".
وهذا يفيد أن السوريين الذين كانوا يعملون القراءة والكتابة ويتقنون علوماً كثيرة ويتفوقون في الفلسفة والشرائع وفن الدولة وإنشاء الإمبراطوريات هم خارج معنى العرب قبل الإسلام، وإن كان العنصر العربي داخلاً في مزيجهم الدموي كما سنرى.
بعد ذلك يقول عن نفسه، وهو عاش بعد الإسلام بأكثر من ألف وثلاثمئة سنة بأن فيه دماً عربياً. في الوطنية الثامنة يقول أنه قد هاج الدم العربي فيه عندما كان يحدث رجلاً يطعن في الجنس العربي. وفي خطابه حول آداب العرب يقول:
"لا تهج أيها الدم العربي ولا تغتظ من الحق عندما تسمع واحداً مشتركاً فيك يبين لك حقيقة حالك...".
لقد نطق البستاني في هذا الموضوع بالحقيقة العلمية المجردة عن كل هوى سياسي أو عاطفي، فمن الناحية الدموية السوريون يتكونون من مزيج دموي سلالي وإن دخول العنصر العربي في هذا المزيج قبل وبعد الاسلام هو حقيقة قام عليها الدليل والملفت أن عروبة البستاني العلمية الواقعية لم تكن بديلاً عن وطنيته السورية.
خـامسـاً: فـصل الـدين عـن الدولـة عـند البستانـي
هنا يظهر المضمون الاجتماعي الحقوقي لوطنية البستاني بوضوح وقوة.
انظروا كيف يبدأ بمقارنة هذا الموضوع وكيف يسند دعوته إلى فصل الدين عن الدولة إلى مبدأ أساسي سابق وهو أن أبناء الوطن الواحد هم مجتمع واحد لهم حقوق مدنية وسياسية واحدة. يقول في الوطنية الرابعة:
"يا أبناء الوطن، ان لأهل الوطن حقوق على وطنهم كما للوطن حقوق على أهله. فبمقدار ما تكون تلك الحقوق مستوفية حقها يزيد التعلق بالوطن والرغبة واللذة في تأدية تلك الواجبات، ومن الحقوق التي على الوطن لبنيه الحرية في حقوقهم المدنية، ومما يزيد أبناء الوطن حباً لوطنهم الإشعار أن البلاد بلادهم، سعادتهم في عمارها وراحتها، وتعاستهم في خرابها وشقاوتها. ومما يزيدهم رغبة في نجاحه وخيره وغيرة على تقدمه أن تكون لهم يد في أعماله وتداخل في صوالحه".
ويتدرج في التمهيد لدعوة فصل الدين عن الدولة، وهو يسميها فصل السياسة عن الرياسة، يتدرج في ذلك ويعلن تصريحاً وتوضيحاً أنه ليس ضد الدين وان دعوته لا تحمل خلفية كفر أو تقليل من شأن الدين. فيقول في الوطنية السابعة:
"لا يخفى أن رجوع الإلفة لا بل وجودها وثباتها ونموها تتوقف على امور أخصّها ما يأتي وهو أولاً أديان حية منتبهة تنظر وتعلّم بنيها أن ينظروا إلى من يخالفهم أمر المذهب لا بعين الإحتقار والبغضة كما هو الواقع إلا في ما ندر بل بعين الإعتبار والمحبة كأعضاء عائلة واحدة أبوها الوطن وأمها الارض وخالقها واحد هو الله وجميع اعضائها من طين واحد قد تساووا في المصير".
بعد ذلك ينتقل لاول تصريح عن مبدأ فصل الدين عن الدولة فيقول:
"يظهر جلياً ما يلتحق بالناس والاديان نفسها من الاضرار من تعرضها لأمور السياسة ومزجها الامور الدينية بالأمور المدنية، وكم كان لهذا المزج الذي ينبغي ان يكون غير جائز ديانة ولا سياسة من اليد في الخراب الحالي".
وكأني بالبستاني كان حريصاً على ان لا يبقي مبدؤه شعاراً مطلقاً عرضة للتأويل فقد الحق قوله الآنف بقول أكثر تفصيلاً وطالب "بشرائع متفقة وتنظيمات غير ممتزجة بالشرائع المذهبية". وكأني به يقول بإزالة كافة الحواجز الحقوقية بين مختلف الطوائف والمذاهب وبمنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء.
بعد ذلك يستفيض وفي أماكن عديدة من مقالاته، بشرح مبدئه وإعطاء الحجج التي تجعله واجب التطبيق، ولعل أبلغ حجة هي التي لفظها في الوطنية العاشرة حيث يقول:
"وجوب وضع حاجز بين الرياسة أي السلطة الروحية والسياسة أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرياسة تتعلق ذاتاً وطبعاً بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والاحوال بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغيير والإصلاح حسب المكان والزمان والأحوال، ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين الممتازتين طبعاً والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما من شأنه أن يوقع خللاً بيّناً وضرراً واضحاً في الأحكام والاديان حتى لا نبالغ إذا قلنا أنه يستحيل معه وجود التمدن".
أخيراً لا بد من أن نلاحظ أن البستاني لم يتكف بإعلان أفكار ومبادئ بل أنه عمل لتطبيقها فعلياً، أما الطريقة التي توفرت له فهي إنشاء مدرسة أسماها المدرسة الوطنية التي استمر بها خمس عشرة سنة تخرج منها كثير من رواد النهضة على المبادئ ذاتها التي علّمها المعلم بطرس وطبقها في مدرسته. يقول الباحث جان دايه المتخصص في إنتاج رواد النهضة ان البستاني هو رائد من رواد النهضة، ويقول عنه أنه "ما انتهى من كتابة ونشر وطنياته في جريدته نفير سوريا حتى راح يعد العدة لإيجاد المؤسسة التي تنقل فكره العلماني القومي الحضاري من حيّز النظر إلى حيّز العمل وكان يمكن أن يكون الحزب هو المؤسسة المؤهلة لتنفيذ طموح البستاني ولكن البلاد كانت تابعة للسلطنة العثمانية وخاضعة لقوانينها التي تحظر قيام الاحزاب بقوة، عندئذ لم يجد المعلم البستاني أفضل من المدرسة إطاراً لخلق نخبة من الجيل الجديد وستاراً يحول دون إلغاء هذا المشروع الجليل والتنكيل بصاحبه".
مـلاحـظة: جميع النصوص الواردة بين أهلّة مأخوذة من وثائق للبستاني جمعها الأستاذ جان داية وضمنها كتابه "المعلم البستاني". الصادر عن منشورات مجلة فكر سنة 1981.
(*) نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ شحاده الغاوي خلال ندوة حول فكر ومواقف المعلم بطرس البستاني أقامها نادي النهضة الثقافي الاجتماعي في مدينة سدني – أوستراليا بتاريخ 26/06/1994.
ومـضـامـينها الاجـتماعـية (*)
بقلم شحادة الغاوي
قبل الدخول في صلب الموضوع أود أن أوضح ما يلي:
لن أكتفي بمجرد تقديم معلومات عن المعلم بطرس البستاني معرفاً بأفكاره وأعماله الوطنية، بل سأتناول أيضاً الفائدة والعبرة التي يمكن استخراجها من تلك المعرفة "فالمعرفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر".
وسأفعل ذلك عن طريق عقد مقارنتين:
بين الظروف الوطنية والسياسية التي عمل فيها من جهة والظروف الوطنية والسياسية الحاضرة من جهة أخرى. ثم بين موقف البستاني في ظروفه وموقف ما تسميه الصحف اليوم بالقيادات الوطنية في الظروف الحاضرة.
إن المعلم بطرس البستاني عاش ما بين 1819 و 1883 وابتدأ إنتاجه العملي والفكري في الحقل الوطني عندما عين أستاذاً في مدرسة عين ورقة الشهيرة التي كان يتعلم فيها وكان عمره أقل من عشرين سنة، ثم في الجمعية السورية فالجمعية العلمية السورية ثم في جريدة نفير سورية ثم في المدرسة الوطنية التي أنشأها وأدارها، ثم في دائرة المعارف أول انسيكلوبيديا علمية في اللغة العربية والتي أصدر منها تسعة أجزاء قبل وفاته سنة 1883.
ولكنني أستطيع ان أقول أن زبدة أفكاره ومواقفه الوطنية وأشدها وضوحاً وقوة هي التي كانت رداً على فتنة الستين وبعد هذه الفتنة مباشرة. وإذا عرفنا ماذا ينطوي تحت اسم فتنة الستين عرفنا الظروف السياسية والإجتماعية والوطنية التي كانت سائدة يومذاك.
دعونا على لسان البستاني نفسه نتعرف على تلك الظروف.
يقول في العدد الثامن من جريدة نفير سورية ما يلي:
"ومن جال في مدن سورية وقراها وطاف في جبالها وسهولها وعلى الخصوص في الأماكن التي كانت مسرحاً للحروب والارتكابات لا يقع نظره إلا على مناظر مكدرة للغاية ولا يسمع إلا أصوات التذمر وعدم الإرتضاء وتعاسة الحال، ويحكم بأن هذه الحركة ربما تكون نتيجتها خلو البلاد من المال والرجال حتى يمسي أهلها في حالة المذلة والمسكنة ويصبح أكثرهم فقراء متسولين".
ويقول في العدد السادس ما يلي:
"إن الذين أكلهم حد السيف والذين قتلوا هدراً وغدراً وقصاصاً والذين ماتوا لسبب الرعبات والمخاوف ورداءة المعيشة والاطفال الذين ضحتهم شهوات الأردياء الخبثاء وذهبوا شهداء بربرية أقوام متوحشين، يبلغ عددهم نحو عشرين ألفاً. وكلما غابت شمس يزيد العدد وكلما أشرقت شمس ينتقل كثيرون من دفاتر الأحياء إلى سجلات الموتى. ويا ليت الخراب وصل إلى نهايته ووضع حد لهذه المصايب والخساير لكي نختم حسابها، ان أحوال المستقبل إلى الآن مظلمة، نعم مظلمة جداً، ولا نعلم متى يأت الوقت الذي تشرق فيه شمس الراحة في سوريا إشراقاً لا غياب بعده، نسأل الله أن ينظر باللطف والرحمة نحو هذه البلاد المنكودة الحظ".
وفي مكان آخر يقول: "إن الخسائر المادية مما أحرق من البيوت يقدر بمدخول سوريا من موسم الحرير في ثلاث سنين ونصف تقريباً على حساب ألفي قنطار سنوياً".
هذا ما يقوله المعلم بطرس البستاني، أما نحن فنقول بأن ظروفنا اليوم، في بعض جوانبها، هي مشابهة إلى حد كبير لتلك الظروف.
لكننا سنرى أن موقف البستاني وفكره الوطني في ظروفه يتقدم كثيراً بل يتفوق كثيراً جداً على موقف وفكر من تتصدر أقوالهم وأخبار مواقفهم عناوين صحف اليوم وأخبارها الرئيسية.
أولاً: لم تكن وطنيته شعاراً جذاباً ولا أدباً أو كلاماً جميلاً ولا دبلوماسية ولياقة تظهر بمظهر وطني جامع وتخفي ولاء فئوياً وموقعاً فئوياً طائفياً في معظم الأحيان.
المعلم بطرس لم يتكلم باسم طائفته ولم يدافع عن مصالح طائفته ولم يسع لتمثيل طائفته أو حتى منطقته المحدودة المتعددة الطوائف والمذاهب. لأنه من جهة كان يرى الدين والإيمان الديني أمراً داخلياً شخصياً وان أبناء طائفة معينة هم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ووطنياً يشتركون في ما يسميه "صوالح عامة" واحدة من أبناء وطنهم من الطوائف الأخرى، وبالتالي فإن مصلحتهم هي من مصلحة الكل الواحد، وغير صحيح أن مصلحة الكل هي مجموع مصالح الأجزاء، فلا أجزاء عنده بالمعنى الاجتماعي الاقتصادي السياسي الوطني، بل وطن واحد ومجتمع واحد كما سنرى.
في سلسلة مقالاته في جريدته "نفير سورية"، هذه المقالات التي كان يسميها وطنيات، وهي إحدى عشرة وطنية، في هذه السلسلة لم يجد أي مبرر أو اي سبب للفتنة الطائفية غير قلة الدين وقلة الوعي وانعدام التمدن والإنصياع لأهل السوء والشر وإرادة الأجانب الذين لا يهمهم "نجاح الاهالي وتقدم البلاد" حسب تعبيره.
كان يوقع مقالاته باسم "محب الوطن" دون ذكر اسمه وكان يتوجه في مقالاته لهيئة اجتماعية واحدة (التعبير له) قائلاً: يا أبناء وطني أو يا أبناء الوطن.
إن من يقرأ مقالاته ونداءاته في نفير سورية لا يستطيع أن يكتشف أكاتبها درزي أم مسيحي ولا يستطيع أن يجد أي إشارة تفيد ان الكاتب يتعاطف مع هذه الفئة الطائفية أو تلك، فقط من محب الوطن، وإلى أبناء الوطن.
ولا ادري إذا كان توقيع من "محب الوطن"، دون ذكر الاسم الصريح بطرس، كان يقصد نزع أي احتمال لتأويل المسؤولين وتفسير كلامه تفسيراً فئوياً على أساس أن فلان من الطائفة الفلانية لا بد له أن ينحاز إلى طائفته ويدافع عنها.
ولا بد هنا، ومن اجل التأكيد على صحة ما قلته لحد الآن، من الاستشهاد بفقرات من مقالاته على صلة بهذه النقطة الاولى.
في الوطنية الخامسة يشنع في مبدأ صراع المصالح الطائفية بين أبناء الوطن الواحد ويقول:
"هذا المبدأ الحيواني الخبيث الموروث من البرابرة كثيراً ما رفع رأسه وهاج فأوقع البلاد في الخراب والوبال وبدد المال والعيال".
ويزيد: "ومن شأن هذا المبدأ الخبيث أن يتلون في كل دور بلون ومن أشنع هيئاته وأقبحها الهيئة التي ظهر بها في هذه السنين القريبة العهد التي أنتحل فيها ألقاباً قديمة مقدسة عند أهلها كنصراني ودرزي ثم مسلم ومسيحي...".
ولنقرأه في الوطنية التاسعة يقول قوله العميق الرقيق الرفيع الرائع التالي، محدداً شروط التمدن للسوريين:
"إنهم لا ينظرون في ما بعد إلى أخوتهم في الوطن من حيث المذهب والجنسية الدينية بل من حيث الاخوة الوطنية، وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الانسان وابن وطنه او بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين، لا يؤمل نجاحهما في أحدهما ولا فيهما جميعاً كما لا يخفى".
"يا أبناء الوطن إنكم تشربون من ماء واحدة وتشتمّون هواء واحداً ولغتكم التي تتكلمون بها وأرضكم التي تطأونها وصوالحكم وعاداتكم فهي واحدة".
ثانياً: لا تجد في كل كتابات وأعمال البستاني أثراً لمقولات التوازن والتعايش، هذه المقولات الرائزة في قاموسنا السياسي اليوم، أنه يتكلم عن مجتمع واحد بكل ما لكلمة مجتمع من معنى، وحدة البناء المادي والنفسي.
يتكلم عن مجتمع واحد أهم خصائصه التماذج والإختلاط بين مختلف عناصره. صحيح أنه لم يعقد بحثاً علمياً حول معنى المجتمع والامة ووحدة الحياة في دورتها الاقتصادية الاجتماعية ومبدأ التفاعل الاجتماعي على أرض الوطن والبيئة الطبيعية الواحدة، كما فعل سعاده في كتابه نشوء الامم مثلاً، ولكنه لم يفعل ذلك لأن ذلك لم يكن مشروعه المباشر وهو لم يكن يضع عقيدة أو فلسفة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بل كما قلنا كان يكتب مقالات رداً على فتنة الستين، ومن هذه المقالات أمكننا استخراج ما يمكن تسميته المضامين الاجتماعية لفكرته الوطنية.
يقول في وطنيته السابعة: "ولعلمنا بأن نجاح أموركم يتوقف على الإختلاط والإمتزاج ونتيجة ذلك تكون الألفة والإتحاد، نأمل، مع ما يرد علينا من الإعتراضات والمناقضات أن شيئاً من الإلفة سينبت إن شاء الله تعالى مع الزروع وينمو بنموها".
إذا علمنا أن مئة وثلاثين سنة تفصل بين تبني مقولة التفاعل، أي الإختلاط والتمازج بتعبير البستاني، وبين مقولات التعايش والتوازن التي يرفعها أمراء الحرب الأهلية في بلادنا اليوم ومن جاراهم من المثقفين ثقافة سطحية ناقصة، وإذا عرفنا أن مقولة التفاعل الاجتماعي ووحدة الحياة والمصالح التي هي أصل وسبب وأساس كل صفات أخرى من وحدة العادات والتقاليد والثقافة وحتى اللغة، إذا عرفنا أن هذه المقولة يتبناها علم الإجتماع الحديث كمسلمة علمية لا جدال فيها، وإن مقولة التعايش هي خاصة بالقطعان وليس بالإنسان المتحضر، إذا عرفنا ذلك عرفنا كم هو متقدم المعلم بطرس البستاني وكم هو متفوق على من تفرضه عليكم الصحف اليوم كقادة رأي وقادة وطنيين يجملّون أنفسهم وسياساتهم ومواقعهم الطائفية بعبارات التعايش والتوازن وهم عاجزون وغير مؤهلين حتى لتحقيق هذا التعايش رغم فقر مضمونه وعدم قدرته على بناء مجتمع ودولة وتقدم.
ثالثاً: لم تكن قيم البستاني مطلقة دون تحديد وتعيين. ولم يكن عنده شعار الوطنية مطلقاً دون تحديد وتعيين. فالوطن عنده هو الوطن السوري، إنه سورية، وأبناء وطنه هم السوريون كلهم.
ففضلاً عن أنه يمكننا استخراج ذلك بشكل غير مباشر من كتاباته وعباراته كما سمعتم عندما استشهدت بالكثير منها فيما تقدم، فإنه بإمكاننا أن نجده يوضح ذلك تصريحاً بشكل مباشر. انه يقول مثلاً في الوطنية الرابعة ما يلي:
"سورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا.
وتتكرر عبارة أهالي سورية أبناء وطننا عدة مرات في مقالاته.
ان هذا الموضوع قد يكون غريباً اليوم عند البعض وقد يكون مادة جدال ونقاش بعد أن نفذت معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية وبعد إعلان قائد جيش الإحتلال الاجنبي الفرنسي الجنرال غورو "باسم حكومة فرنسا الحرة" قيام دولة لبنان الكبير ضمن حدود وضعت في حينها على الورق، وعندما جاءت فرق المساحة لتنفذها على الأرض تبين أن خط الحدود الجنوبي يمر في قلب قرية دير سريان وبالتحديد في أحد بيوتها فيضع المطبخ والصالون في لبنان وغرف النوم والحمام في فلسطين فقالوا إن حدود لبنان الجنوبية هي خط غير طبيعي يمتد من الناقورة إلى بانياس.
قد يكون غريباً اليوم أن نعرف أن البستاني واليازجي والمطران يوسف الدبس وبعدهم جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم وكلهم من جبل لبنان يقولون بأن سورية هي وطنهم وأن السوريين هم أبناء وطنهم.
قد يكون غريباً ذلك عند البعض بعدما صير إلى خلط علم الإجتماع والتاريخ والجغرافيا بالسياسة والمصالح السياسية الطائفية وبعدما شوّه معنى الوطن ليصبح مساوياً لمعنى الدولة، ومعنى المجتمع الطبيعي ليصبح مساوياً لمعنى المجتمع السياسي أما عند البستاني وسائر رواد النهضة الفكرية والوطنية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي فكانت الأمور تسمى بأسمائها الصحيحة ولم تكن الإرادة الاجنبية واليهودية قد نفذت فصولها في تقسيم وطننا وتغييب هويتنا الوطنية شرطاً مسبقاً ليمكنها السيطرة على أمورنا وإنشاء "دولة إسرائيل". عندما كان البستاني وغيره يقولون بأن سورية هي وطننا وأن السوريين هم أبناء وطننا لم يكن يوجد من يعترض على ذلك، الامر كان محسوماً ومسلماً به لأنه يتعلق بالهوية وبالذات الوطنية الغالية العزيزة قبل أن يشوهها تحالف الإرادة الأجنبية مع لعنة الطائفية المحلية.
واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان يمكن للبستاني أن يقول لو وجد في زمانه من يقول بوطنيات متعددة وقرارات وطنية متعددة ومستقلة لا عن شيء إلا عن بعضها في قلب الوطن الواحد وبين أبناء الوطن الواحد، واترك لكم أن تتصوروا ماذا كان موقف البستاني من المطالبة بتحرير جزء من البلاد من الجزء الآخر من البلاد نفسها انطلاقاً من عاصمة دولة أجنبية احتلت بلادنا واستعمرتها واضطهدت أحرارها وساهمت في بذر بذور الفتنة الطائفية فيها.
رابعـاً: عـروبـة الـبستـانـي
كما كانت وطنية البستاني ثابتة واضحة قوية نقية غير خاضعة لمتغيرات السياسة والإرادة الاجنبية، كذلك كانت عروبته عروبة واقعية صحيحة وليس عروبة عاطفية ذات خلفية دينية.
إنه يميز بين عروبة قبل الإسلام التي يقصرها على أبناء الجزيرة العربية، وعروبة ما بعد الفتح الإسلامي التي حملت كثيراً من طابع وحضارة سورية والسوريين. في خطاب عنوانه آداب العرب، يقول المعلم بطرس البستاني:
"إن العرب قبل ظهور الإسلام أي في أيام الجاهلية كانوا قوماً أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا القليل منهم، والعلوم التي كانوا يتفاخرون بها هي علم لسانهم ولغتهم ونظم الإشعار وتأليف الخطب".
وهذا يفيد أن السوريين الذين كانوا يعملون القراءة والكتابة ويتقنون علوماً كثيرة ويتفوقون في الفلسفة والشرائع وفن الدولة وإنشاء الإمبراطوريات هم خارج معنى العرب قبل الإسلام، وإن كان العنصر العربي داخلاً في مزيجهم الدموي كما سنرى.
بعد ذلك يقول عن نفسه، وهو عاش بعد الإسلام بأكثر من ألف وثلاثمئة سنة بأن فيه دماً عربياً. في الوطنية الثامنة يقول أنه قد هاج الدم العربي فيه عندما كان يحدث رجلاً يطعن في الجنس العربي. وفي خطابه حول آداب العرب يقول:
"لا تهج أيها الدم العربي ولا تغتظ من الحق عندما تسمع واحداً مشتركاً فيك يبين لك حقيقة حالك...".
لقد نطق البستاني في هذا الموضوع بالحقيقة العلمية المجردة عن كل هوى سياسي أو عاطفي، فمن الناحية الدموية السوريون يتكونون من مزيج دموي سلالي وإن دخول العنصر العربي في هذا المزيج قبل وبعد الاسلام هو حقيقة قام عليها الدليل والملفت أن عروبة البستاني العلمية الواقعية لم تكن بديلاً عن وطنيته السورية.
خـامسـاً: فـصل الـدين عـن الدولـة عـند البستانـي
هنا يظهر المضمون الاجتماعي الحقوقي لوطنية البستاني بوضوح وقوة.
انظروا كيف يبدأ بمقارنة هذا الموضوع وكيف يسند دعوته إلى فصل الدين عن الدولة إلى مبدأ أساسي سابق وهو أن أبناء الوطن الواحد هم مجتمع واحد لهم حقوق مدنية وسياسية واحدة. يقول في الوطنية الرابعة:
"يا أبناء الوطن، ان لأهل الوطن حقوق على وطنهم كما للوطن حقوق على أهله. فبمقدار ما تكون تلك الحقوق مستوفية حقها يزيد التعلق بالوطن والرغبة واللذة في تأدية تلك الواجبات، ومن الحقوق التي على الوطن لبنيه الحرية في حقوقهم المدنية، ومما يزيد أبناء الوطن حباً لوطنهم الإشعار أن البلاد بلادهم، سعادتهم في عمارها وراحتها، وتعاستهم في خرابها وشقاوتها. ومما يزيدهم رغبة في نجاحه وخيره وغيرة على تقدمه أن تكون لهم يد في أعماله وتداخل في صوالحه".
ويتدرج في التمهيد لدعوة فصل الدين عن الدولة، وهو يسميها فصل السياسة عن الرياسة، يتدرج في ذلك ويعلن تصريحاً وتوضيحاً أنه ليس ضد الدين وان دعوته لا تحمل خلفية كفر أو تقليل من شأن الدين. فيقول في الوطنية السابعة:
"لا يخفى أن رجوع الإلفة لا بل وجودها وثباتها ونموها تتوقف على امور أخصّها ما يأتي وهو أولاً أديان حية منتبهة تنظر وتعلّم بنيها أن ينظروا إلى من يخالفهم أمر المذهب لا بعين الإحتقار والبغضة كما هو الواقع إلا في ما ندر بل بعين الإعتبار والمحبة كأعضاء عائلة واحدة أبوها الوطن وأمها الارض وخالقها واحد هو الله وجميع اعضائها من طين واحد قد تساووا في المصير".
بعد ذلك ينتقل لاول تصريح عن مبدأ فصل الدين عن الدولة فيقول:
"يظهر جلياً ما يلتحق بالناس والاديان نفسها من الاضرار من تعرضها لأمور السياسة ومزجها الامور الدينية بالأمور المدنية، وكم كان لهذا المزج الذي ينبغي ان يكون غير جائز ديانة ولا سياسة من اليد في الخراب الحالي".
وكأني بالبستاني كان حريصاً على ان لا يبقي مبدؤه شعاراً مطلقاً عرضة للتأويل فقد الحق قوله الآنف بقول أكثر تفصيلاً وطالب "بشرائع متفقة وتنظيمات غير ممتزجة بالشرائع المذهبية". وكأني به يقول بإزالة كافة الحواجز الحقوقية بين مختلف الطوائف والمذاهب وبمنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء.
بعد ذلك يستفيض وفي أماكن عديدة من مقالاته، بشرح مبدئه وإعطاء الحجج التي تجعله واجب التطبيق، ولعل أبلغ حجة هي التي لفظها في الوطنية العاشرة حيث يقول:
"وجوب وضع حاجز بين الرياسة أي السلطة الروحية والسياسة أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرياسة تتعلق ذاتاً وطبعاً بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والاحوال بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغيير والإصلاح حسب المكان والزمان والأحوال، ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين الممتازتين طبعاً والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما من شأنه أن يوقع خللاً بيّناً وضرراً واضحاً في الأحكام والاديان حتى لا نبالغ إذا قلنا أنه يستحيل معه وجود التمدن".
أخيراً لا بد من أن نلاحظ أن البستاني لم يتكف بإعلان أفكار ومبادئ بل أنه عمل لتطبيقها فعلياً، أما الطريقة التي توفرت له فهي إنشاء مدرسة أسماها المدرسة الوطنية التي استمر بها خمس عشرة سنة تخرج منها كثير من رواد النهضة على المبادئ ذاتها التي علّمها المعلم بطرس وطبقها في مدرسته. يقول الباحث جان دايه المتخصص في إنتاج رواد النهضة ان البستاني هو رائد من رواد النهضة، ويقول عنه أنه "ما انتهى من كتابة ونشر وطنياته في جريدته نفير سوريا حتى راح يعد العدة لإيجاد المؤسسة التي تنقل فكره العلماني القومي الحضاري من حيّز النظر إلى حيّز العمل وكان يمكن أن يكون الحزب هو المؤسسة المؤهلة لتنفيذ طموح البستاني ولكن البلاد كانت تابعة للسلطنة العثمانية وخاضعة لقوانينها التي تحظر قيام الاحزاب بقوة، عندئذ لم يجد المعلم البستاني أفضل من المدرسة إطاراً لخلق نخبة من الجيل الجديد وستاراً يحول دون إلغاء هذا المشروع الجليل والتنكيل بصاحبه".
مـلاحـظة: جميع النصوص الواردة بين أهلّة مأخوذة من وثائق للبستاني جمعها الأستاذ جان داية وضمنها كتابه "المعلم البستاني". الصادر عن منشورات مجلة فكر سنة 1981.
(*) نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ شحاده الغاوي خلال ندوة حول فكر ومواقف المعلم بطرس البستاني أقامها نادي النهضة الثقافي الاجتماعي في مدينة سدني – أوستراليا بتاريخ 26/06/1994.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق