الجمعة، 5 مارس 2010

سيف سنحريب للأمين نواف حردان

وفاءً وتقديراً لانتاج أمين تميّز بنضاله الحزبي المتوقّد في الوطن، والمهجر البرازيلي، نعرض اليوم روايته التاريخية "سيف سنحريب" التي اصدرها عام 1999 وقدم لها الامين عادل شجاع، الذي عرفناه، كما حزبه، مميزاً بوعيه وصدقه واخلاقه والتزامه بالنهضة.
مقدمة الامين عادل شجاع نوردها بالنص لقيمتها الادبية والتعريفية بكتاب "سيف سنحريب"
***
هذا الكتاب هو رواية تاريخية جديدة يضعها المؤلف بين يدي القارئ مشعالاًَ آخر يضيء السبيل.
وهذا المشعال، مثل كل المشاعل التي سبقته، هو أيضاً مقتبس من الشعلة الأولى أياها.
أما زيته فمن دم القلب
وأما حرارته فمن شغف الروح الى العطاء
وأما نوره فمن وهج الحق
في هذه الرواية كما في غيرها من رواياته التاريخية السابقة، يرفع المؤلف مشعاله عالياً... يمسح الظلمة عن وجه الطريق ويدعوك لترافقه رحلة طويلة عبر دهاليز التاريخ.
قد لا تستهويك الرحلة في بادئ الامر ولكنك ما أن تبدأ القراءة حتى تنتقل من المؤلف اليك عدوى المغامرة فتشبك يدك بيده وتروح تشاطره حماسه في اقتحام خبايا التاريخ وفي توقه العارم الى كشف ما تحتويه تلك الخبايا من مفاخر تاريخنا المغمور.
يبهرك اسلوبه القصصي الشيّق... يملك عليك حواسك... ينتشلك مما انت فيه ويلقي بك في احضان الماضي، فإذا بك تعيش أحداث ذلك الماضي البعيد بنضارة الساعة الحاضرة، وبحرارة الدهشة البكر.
قلمه يقتحم أسوار الاهمال... يحرر أمجادنا الغابرة من سراديب النسيان... يعيد صنعها في الوجدان، ثم يبعثها فيك وهجاً وحرارة تيارهما العارم يختزل الزمن في تدفقه اليك فيفجر في أعماقك قوة وعزيمة ما كنت تحسب انهما لديك لولا فضل قلمه عليك.
ما أن تبدأ بقراءة الرواية حتى تقع في حبها... يأسرك تسلسلها النابض بالحياة بكل ما تحمله في جعبتها من نبل وخيانة، من سعادة وعذاب، من لقاء وفراق، ومن خير وشر.
وتلتقي فيها بأناس يجسدون هذي وتلك في مفارقات مثيرة آسرة. وأنت في كل ذلك تعايش أشخاص الرواية كأنهم أحياء يرزقون... تشاطرهم فرحهم وحزنهم وسعادتهم وشقاءهم كأنك واحد منهم، وتكتشف في أعماقك شعوراً قاصراً يشدك اليهم بعفوية آسرة كأن خيطاً خفياً يربط بينك وبينهم برغم القرون التي تفصلك عنهم. أو كأن مزاياهم وقيمهم تلك انغام تصعِّدها قيثارة في أول الزمان، ترتعش مع جرسها البعيد- القريب أوتار قلبك أنت، وأنت هنا في آخر الزمان.
تتعرف اليهم عن كثب فتجد ان الصراع عندهم خُلَّه، وكرامة الانسان قيمه، وان الخنوع لديهم محرَّم والاستسلام مرفوض والبكاء ممنوع، ممنوع في الشكوى وممنوع في الالم وممنوع في الحزن، ومع ذلك تفاجأ بمواقف تهزك في الاعماق فتبكيك... هنا مشهد لصراع عنيد بين باطل معزز بالقوة الغاشمة وحق محصن بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة، وهناك مشهد لصراع طويل بين بغضاء تعتمد النميمة والجريمة والغدر ومحبة تكتمل بفضائل التضحية والتفاؤل والصبر. ثم يطول المشهد بسلبياته، ويطول الصراع، حتى تتفجر المفاجأة بين يديك، فإذا النصر للحق دون الباطل والغلبة للمحبة دون البغضاء. أمام هكذا مشاهد لا ضير عليك اذا خالفت الوصية واقترفت خطيئة البكاء. فالبكاء هنا مسموح به، ما دمتَ تعبِّر بالدمعة الساخنة عن سعادة عارمة تتفجر من الاعماق فرحاً يطغى على مشاعرك وعلى وصية المؤلف وعلى فضيلة الصمود لديك... ان دموع الفرح الكبير في حضرة الموقف الكبير كفيلة بغسل الخطيئة التي اقترفت.
***
ولعل أبرز ما في هذه الرواية هو انها جادة وموفقة باتجاه رأب الصدع الذي يفصل بين واقعنا الهجين وتاريخنا الغني بالامجاد والعطاءات. أما هدفها فهو الاسهام في اعادة الثقة بالذات الى شعبنا الذي ما كان ليعاني من مرض فقدان الثقة لو لم يفقد تواصله مع تاريخه.
رواية "سيف سنحاريب" هي جرعة دوائية تشكل علاجاً لمرض فقدان ذاكرتنا التاريخية، الذي يصفه المؤرخ البريطاني هوبل بقوله:
"إذا أردت أن تلغي شعباً ما تبدأ بشل ذاكرته التاريخية ثم تلغي ثقافته وتاريخه وتجعله يتبنى ثقافة أخرى غير ثقافته وتخترع له تاريخاً آخر غير تاريخه وتجعله يتبناه، عندئذٍ ينسى هذا الشعب من هو وماذا كان وبالتالي ينساه العالم"
قاعدة هوبل هذه طبِّقت على شعبنا في اعقاب معاهدة سايكس- بيكو التي قسمت بلادنا الى كيانات سياسية مغايرة للواقع الاجتماعي الموروث وللوضع السياسي القائم ولحقائق التاريخ.
لذا كان شل ذاكرتنا التاريخية هو هدف المستعمر الأهم بعد التقسيم الجغرافي. فاستُكتبنا تاريخاً غير تاريخنا الحقيقي، تقبلناه بتوجيه المستعمر وإغرءاته ثم تبنيناه في مدارسنا وجامعاتنا بدعم منه، ورحنا نلقنه لأولادنا في المدرسة وفي الجامعة وفي البيت حتى أمَّحت مع الوقت، صورة الوطن الحقيقي من الاذهان لتحل محلها صور الكيانات المفتعلة واقعاً أنجب دوله وحكوماته وناسه ودفعهم جميعاً الى التمسك به والدفاع عنه بايمان افقي يعوزه العمق ويفتقد الارضية التاريخية تربةً صالحة تستوطن فيها الجذور وتتحصن بها شجرة الوطن ضد العواصف والمحن.
وفي المنحى الثقافي واجهت ثقافتنا الاصلية هجمة مركزة بدعم من الارساليات الاجنبية وأدواتها. أما نحن فقد واجهنا تلك الهجمة بشعور المهزوم امام الغالب فتحول شعورنا بالهزيمة الى اعجاب بالغالب وثقافته جاعلاً منا نحن أيضاً شركاء في تهميش ثقافتنا، وأدوات طيعة ساهمت في محوها من الاذهان.
من هنا أهمية هذه الرواية التاريخية ومثيلاتها من روايات نواف حردان ومؤلفاته، فهي ومثيلاتها مما كُتب ويُكتب في هذا الاتجاه تؤدي مهمة فريدة وجليلة تعيد الحياة الى ثقافتنا الاصلية حتى "لا ننسى من نحن وماذا كنا فينسانا العالم" ويصح فينا قول هوبل كما لو أنه قدر مكتوب علينا بقلم الآخرين.

في هذه الرواية كما في غيرها من رواياته التاريخية الاخرى يعتمد المؤلف نهجاً ذا فرادة لافتة فهو يتناول خيوط الوقائع التاريخية بحنكة الحائك الفنان الذي يحول الخيوط الى نسيج والنسيج الى صورة ذات معنى. انه لا يكتفي باستعراض احداث الرواية منفردة ومبعثرة بل يضفرها في لوحة متكاملة ثم يقدمها للقارئ مؤطرة برؤية تاريخية/اجتماعية تبرز العلاقة بين تسلسل الاحداث وتيار التكامل القومي مصيراً حتمياً يحكمها في العمق.
بهذا المفهوم المتقدم يقيّم المؤلف الحروب البابلية الاشورية وغيرها من النزاعات الداخلية في سورية الطبيعية فلا يرى فيها حرباً افنائية بل صراعاً طبيعياً بين شرائح الشعب الواحد في عملية انصهار ذاتية تذوب فيها مع الوقت العصبيات الجزئية في المجتمع الاتم، في الامة الواحدة.
بنفس هذا المفهوم التاريخي العميق يصف المؤرخ والاديب الاميركي، كارل ساندبرغ، الحرب الاهلية في امريكا الشمالية بقوله:
"ان تلك الحرب التي دارت رحاها بين الشمال والجنوب والتي كلفت الشعب الاميركي ما يزيد على المليون ضحية، كانت في حقيقتها المصهر الذي طبخت على ناره اللاهبة، شخصية الشعب الاميركي كما نعرفها اليوم في الولايات المتحدة الاميركية".
***
ما أن تنتهي من قراءة هذه الرواية وترجع من سفرك الطويل مع مؤلفها إن مضرجاً بدم المغامرات أو مترع القلب بفرح الانتصارات، تحس وكأن بينك وبين النحلة صلة قربى، هي تعود من فسيحات الحقول محملة برحيق يغتني به القفير، وانت تعود من رحلتك مع "سيف سنحاريب" محملاً بشذى تاريخ مجيد تغتني به روحك الوطنية فيغتني بك الوطن.
وأخيراً لا بد من كلمة اقولها في وصف شخصية المؤلف كما تبدو لي:
نواف حردان ابن راشيا، جارة حرمون، هو أحد المؤمنين بمبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية، يقبس من أنوارها... يزرع في حقولها... يعمل مخلصاً لانتصارها وينبري لتحقيق ذلك بهمة قعساء... ناشطاً كقفير النحل، مثابراً كفصول السنة، مصابراً كصخور حرمون وصامداً كقمته الشاهقة ... أتراه مصاباً بعدوى المصابرة والصمود من حرمون؟...
يهاجمه مرض السكري فلا يلين... يسلبه احدى رجليه فلا ينحني ... يصمد... يواجه العلة بصبر لا ينفذ.. يرفض القعود... يصنع قدره بيديه.. ثم يمتشق القلم فيقتحم مجاهل التاريخ... ويصول في ساحاته ويجول حتى تكاد تسمع لوقع قدمه الواحدة ايقاعاً يأتيك مع نسائم التاريخ كأنه وقع أقدام جيش لجب يجدّ السير الى لقاء له مع انتصار محتوم.
نواف حردان المؤلِّف المقعد/الثائر، سيظل منتصباً في الزمان قدوة في التغلب على المعوقات، ورمزاً في تجاوز فسخة العمر المحدود بما يخلفه الفرد في مجتمعه من تراث.نواف حردان سيظل يولد من جديد كلما وقعت عين على كتاب يحمل اسمه، ويحتضن بين دفتيه مشعالاً من الماضي يضيء طريق المستقبل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق