كثيراً ما حدثني الامين نواف حردان عنه، انما لم يُسعدني الحظ ان التقي به. مؤخراً قرأت ديوانه الذي قدّمه الى الامين نواف، وفيه المقدمة الرائعة التي حررها الاستاذ انور سلمان، فرأيت واجباً أن نضيء عنه ونعرّف على ما كان عليه مربياً وشاعراً واديباً ومناضلاً قومياً إجتماعياً.
لذلك اتصلت بابنه الرفيق زياد الذي سارع الى تقديم النبذة التالية عن والده الرفيق الراحل الشاعر نظمي جمال.
اذ نعممها نتقدم بالشكر الى حضرة ناموس منفذية راشيا الرفيق زياد جمال، الذي باسلوبه الشيّق ومعلوماته المتنوعة قدّم لنا نبذة مضيئة عن شاعر يهمنا ان يُعرف أكثر وأن يحتل مكانته المرموقة في عالم الشعراء والادباء.
نظمي تفيد جمال ، ولد في بلدة المحيدثة – قضاء راشيا الوادي ، في العام 1927 . وتلقى دروسه الأولى في ما كان يعرف بمدرسة الضيعة . التي كانت تحتمي شتاء" تحت سقف قبو قديم ، وتخرج مع رحيل الصقيع ، الى ظل سنديانة معمّرة . أمّا رسم دخولها ، فهو نزر زهيد من مؤنة البيت ، يقدّم الى المعلم الشيخ ، على دفعات أو تبعا" للمواسم .
لم تعرف طفولته الكثير من الغنج والدلال . لا بل فإن من الأمانة القول ، أن ذلك الطفل ، قد تحمّل بما يثقل كواهل الرجال ، حيث إنفصل الوالدان ، فإهتزّت كيمياء البيت ، وهو في سنيه الأولى . ولغير قصد أو تحدّي ، اُقحم في مواجهة شتّى ظروف الحياة وقساوتها ، في ذلك الريف التيمي . حيث السواعد المفتولة والجباه السمراء ، وحدها تضع قواعد لعبة البقاء.
قبيل العاشرة من سنيه ، بدأ العملاق الكامن في قمقمه يتمدّد . فرشحت نُتف موهبة ، لا يفكك رموزها ، إلاّ العارفين وأهل الخبرة . أتقن عن ظهر قلب ، عشرات القصائد والمعلقات ، حفظا" وإلقاء" وإستحضارا" .
وسجّل محاولات متواضعة لوجدانيات باح بها على أوراق مبعثرة . أمّا لجده وأبيه وعمومته ، فكان خير بشير ، يتحلقون حوله ، فيقرأ على مسامعهم ، ألف باء صحيفة سمراء ، فيها آخر أخبار قادة الحرب العالمية وجبهات قتالهم .
مع صيف الـ 1939 ، قرر والده أن يبعث به الى المدرسة الداوودية في عبيه وذلك لحرصه على متابعة تحصيله العلمي ، سيما وأن موهبته المبكرة ، قد شجّعت على ذلك .
في الداوودية تابع نظمي تحصيله لسنوات خمس متواصلة ، فنال مع نهايتها الشهادة التكميلية الرسمية. ومنها الى مدينة عاليه ، حيث جامعتها الوطنية ذائعة الصيت في ذلك الزمان .
لم يخطر ببال نظمي ، أن النهاية السعيدة ستأتي بلا مقدمات . وأنّ السّهم الذي أطلقه لهدف ومطلب بعيد ، سيصل الى قلب الدائرة الأصغر بلا رمية من رامي . هو وجها" لوجه أمام أستاذه الأديب الكبير مارون عبود .
أحبه مارون وحاباه ، كحال كل معلم ، يحابي بالغريزة تلميذه المتفوق المميّز . وإن كان إنكاره بالإنحياز يبقى ضمن إطار اللياقات المتبعة . وبادله نظمي حبا" جامحا" ، فكان له الرمز والمثل والقدوة . وإنكبّ على الإجتهاد باللغة وآدابها ، طامعا" برضى معلمه المطلق ، وبمحبته التي تمناها أن لا تقبل القسمة على أكثر منه.
كتب نظمي قصائده الموزونة الأولى في عاليه . فلاقت كل إستحسان وتشجيع من (أبي محمد) مارون عبود . الذي ما توانى عن التدخل مرارا" ، متمنيا" تعديلا" بسيطا" هنا ، أو تصويبا" أدقّ هناك . على مبدأ أن سمعة التلميذ من سمعة معلمه .
ومع صيف العام 1947 قرر نظمي الإنتقال الى " الفريكة " في المتن الشمالي حيث مدرسة الناشئة الوطنية . بعد أن إلتقى بالأستاذ الكبير جورج مصروعة ، فلفته ما هو عليه الرجل من فكر وعقيدة . وكان له ما أراد.
لم يكن قرار الإبتعاد عن مارون عبود بالسهل . إلاّ أن صولة وجولة وهيبة جورج مصروعة ، جعلته يفكر مرة واحدة ، فيقرر على عجل وبلا تردد . لأنه أراد أن يأخذ ما لم يعطه إيّاه مارون عبود . وعند مصروعة كلمة السر ، التي ستفتح أمامه المدى الأرحب ، وتطلقه نحو فكر الزعيم انطون سعادة ، حيث سيدرك من خلال قراءته ، من نحن ؟. ولم يمض وقت طويل حتى إنتمى نظمي الى العقيدة القومية الإجتماعية . وفي العام نفسه ( 1948) تخرّج من الفريكة حاملا" البكالوريا اللبنانية . التي فتحت أمامه (ملكوت) التعليم الرسمي ، لخمس وثلاثين عاما" بالتمام والكمال ( 1948 – 1983 ) ، بدأها مدرسا" للغة العربية في مدرسة راشيا الوادي الرسمية ، ثم مديرا" لمدرسة بلدته المحيدثة حتى تقاعده في العام 1983 .
سـألته يوما" إن كان قد حاول كتابة المقال الصحفي ، فقال : ( من صباي وأنا أحمل هموم وطني وبلدتي وقومي . في العام 1948 – عام النكبة والنكسة – وكنت في العشرين من عمري . رحت أكتب لفلسطين وعنها . حملت مقالاتي الى الصحف اللبنانية ، فأحجمت ، بإستثناء جريدة (اليوم) لصاحبيها المرحومين وفيق وعفيف الطيبي . أخذ أحدهما إحدى المقالات ، قرأها ، فإبتسم لي واعدا" . في اليوم الثاني أو الثالث نشرت الجريدة فقرات من مقالتي ، فشوّهت ترابطها . عزّ علي ذلك . وذات يوم حملت مقالة جديدة الى جريدة الدستور الأردنية ، والتي كانت تطبع في بيروت آنذاك ، فنشرتها كاملة . لن أظلم أحدا" ، فلربما كانت الجرائد يومها على حق . وأنا المبتدئ في عصر عمالقة الكتابة والمعلّقين .
المربي والتربوي الناجح
أخلص في مهنة التدريس ، الى حدود المبالغة . فأعطاها جلّ إهتمامه ووقته . وهو الطامح دوما" ، أن يلصق رتبة التفوق ، فوق جبين كل من تتلمذ لديه . لذلك كثيرا" ما لازمه قضيب الرمان والخيزران ، كسلاح أخير لا يتردد بإستعماله – ولو ببعض الإفراط – كلما دعت الحاجة ، وأينما إقتضت الضرورة والمصلحة .
وسواء أصاب أو أخطأ بخط سيره أو أسلوبه ، فإن النتيجة أتت كمّا تمناها . طلاب متفوقون ، مميزون . مفتشون تربويون تعاقبوا على تقديره والثناء عليه . ووزارة تربية وفنون جميلة ، نوّهت مرارا" وتكرارا" ، بنسب نجاح طلابه بالإمتحانات الرسمية ، التي ما تدنّت غالبا" عن المائة بالمائة.
يروي المعمّرون عنه ، كيف كان يمضي ليله متنقلا" بين نافذة وأخرى ، يسترقّ السمع ، يصغي ، يعدّ أنفاس تلامذته ، مسجلا" على سطح ذاكرته ، كل ما يلفته ، بإنتظار طلوع فجر جديد ويوم جديد ، يقرأ فيه على مسامع تلامذته ، لائحة الإتهام ، بعد أخذ تحية العلم .
الشاعر والأديب والقاص
مع نهايات الأربعينات ، بدأت كتاباته تأخذ مسارها الى الإحتراف . شعرا " وقصصا " قصيرا" وخواطر ووجدانيات . وإن بقيت معظمها ، أوراقا" مبعثرة لمناسبات مختلفة . وقد يكون الهمّ المادي ، قد أسهم في تأخير جمعها ولملمتها ، في مؤلف أو أكثر ، وهو المعلم الذي لم يتعدّ راتبه حينها ، سقف الثمانين ليرة لبنانية . فضاع بعض من تلك الكتابات ، بين دفات الكتب ، ورفوف النسيان ، وأيدي الأصدقاء والزملاء .
كما حلّق نظمي في صناعة التأريخ الشعري ، دونه كل الأسراب . والتأريخ الشعري صناعة صعبة لها حساباتها المعقدة . لذلك لم نجد بين الشعراء ، من تجرأ على ولوج هذا الباب ، إلاّ القلة القليلة .
أمّا باكورة أعماله المطبوعة ، فكانت ( أنثى وكأس ) في العام 1971 . حيث جمع فيها ، أجمل ما كتب عن المرأة من قصائد حب وعتب . وبالرغم من تميّز قصائده تلك ، بالكثير من سلاسة السبك ووضوح المعنى . إلاّ أنها ما خلت من بعض الصور المشبعة طباقا " وجناسا " وإستعارة.
بعد الإصدار الأول ، توقف نظمي عن إصدارات أخرى ، لسنوات طوال . فعبءُ الكتاب الأول ، رتّب عليه دينا" ماديا" ، لم يتخلص بالسهل منه ، بالرغم من الثلاثة آلاف نسخة ، التي وزعت بغالبيتها ، على شكل هدايا للأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء . إلاّ أنه إستمرّ في عطائه ، يجمعه ، يصنفه ، يفهرسه ، بإنتظار الظرف المؤآتي .
في 30 أيار من العام 1978 ، كتب له من بسكنتا الأديب الكبير مخائيل نعيمة ، قال : "وصلتني قصيدتك الممتازة ، فهبّت عليّ من أبياتها نسمة منعشة ، غمرتني بموجة مباركة في هذا الزمان الأخير . ألا بارك الله فيك ، وتقبّل بالغ محبتي" .
الثائر والمقاوم
حصل إجتياح العام 82 ، فقامت الدنيا ولم تقعد . غادر البعض قراهم ، خوفا" من بطش آلة الحرب اليهودية . أمّا الشباب فقد إبتعدوا الى الخطوط الخلفية ، على قاعدة أن المواجهة الفردية وغير المنظّمة ، لا تعدو كونها ضربا" من ضروب الإنتحار ، أمام عدو مدجّج بالحديد والنار .
رفض نظمي مغادرة عتبة بيته . فمجرد البقاء صمود ، والصمود هو شكل من أشكال المقاومة . وألزمنا، نحن أبناؤه ، بالبقاء أيضا" . مع كل يقينه بما قد نتعرّض له جرّاء قراره . ونحن الناشطون في صفوف الحزب السوري القومي الإجتماعي .
وفي تموز 82 ، المّت به إنتكاسة صحيّة قاسية ، طالت لأيام عدّة . لم يتمكّن الأطباء الذين تابعوا حالته ، من تحديد سبب مباشر للحرارة المرتفعة ، والآلام المبرّحة . ولم تنفع أنواع العقاقير والعلاجات بالتخفيف عنه .
الكثيرون من (الغيارى) ، عرضوا نقله الى (إسرائيل) للعلاج . فهنالك على حدّ قولهم ، الطب والتطور والعلم والمعرفة والرحمة . إلاّ أنّ كلّ (نصيحة) كانت تقابل بثورة ، من غضب الراقد فوق فراشه. وغالبا" ما تطور الغضب الى طرد (الناصح) خارجا" .
الى أن كانت ظهيرة أحد الأيام ، حيث أطلّ واحد من وجهاء الضيعة ، وتوجّه الى حيث يرقد الوالد وقال: ( لقد حضر معي أحد أطباء جيش الدفاع الإسرائيلي لمعاينتك . وهو منتظر في الخارج علّك تأذن له بالدخول ) .
مرّت لحظة عصيبة كأنها عقد من الزمان . تسمّرت أحداقنا نحو الوالد المعلم . ونحن أخبر الناس بما هو عليه. إعتدل في فراشه محاولا" الجلوس ، فخانه الوهن الذي أصابه . إستفاق بداخله ذلك السبع الجريح ، فتجاسر للإنقضاض على غريمه ، وأخفق ثانية . فبكى وبكى وبكى ، ثم أومأ الى ذلك (الوجيه) بالمغادرة ، قبل أن تدنّس قدم ذلك النجس المنتظر عتبة الدار .
في العام 1985 وقّعت سناء محيدلي قرارها بدمها ، الذي عجز عن إعتماده ، المجتمع الدولي ومجلس الأمن مجتمعين . فإنصاع الغزاة تحت ضربات أشلائها ، وإنكفؤوا أذلاّء عن بعض أرضنا . بُعث نظمي كطائر الفينيق . ونفض رماد القهر والإنطواء والخيبة ، فإنفجر قصيدا" مقاوما" وعطاء" وإبداعا"، أمام محراب الوطن الذي إستغفره ، وسوّاه في منزلة تجاور الخالق عزّ وجل ، بلا إشراك أو إلحاد.
شارك في عشرات الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية . نشط عضوا" مؤسسا" أو فاعلا" في العديد من الأندية والجمعيات والإتحادات الأدبية والفكرية . بالإضافة الى كونه عضوا" في إتحادي الكتّاب اللبنانيين والعرب . وفي 12 آذار 1989 ، نالت قصيدته ( قدس الإنتفاضة ) مرتبة عالية في مباراة شعر الإنتفاضة ، التي نُظًمتها المقاومة ، في جامع الرسول الأعظم في بيروت ، والتي شارك فيها المئآت من الشعراء ، من كل أصقاع العالمين العربي والإسلامي . فنال حظوة التكريم المعنوي والمادي .
أعتبرت ( قدس الإنتفاضة ) من روائع ما كتب نظمي جمال . فبوركت مدرسة علّمته بأن دمه ليس ملكا" له :
هاكـم دمي.. فخـذوا للقـدس كـلّ دمـي إذ ليـس ملكـي دمي ، أقسـمت أن نُـذرا
مع بداية العام 1993 ، كان العدو قد أبعد عن فلسطين ، الى مرج الزهور في جنوبي لبنان ، عددا " من كبار القادة والمناضلين والمفكرين الفلسطينيين . فأقيم لهم مخيّم " سميّ بمخيم العودة . حاول نظمي الوصول اليهم للشدّ على أياديهم ، فمُنع من ذلك . كتب ما تعذر قوله لهم مباشرة ، فكانت قصيدة ( المبعدون ) ، التي أصرّ على وصولها الى المبعدين ، فتبرع الصليب الأحمر الدولي بتنفيذ المهمة وهكذا كان . من أبياتها :
من قائـلٍ .. إنً فيكـم قوة " ، فعلـت لغيًرت أوجـه التـاريـخ ، للحسـن
قفوا الحياة بعزّ .. فهـــي إن قصُـرتْ في وقفـة العـز .. طالت طيلة الزمـن
لا تُخسروا النصر ، آت ، فهو إن هربـتْ منـه جحـافلكم .. آت علـى سـنن
في 22 آذار 1993 ، تلقّى نظمي ردّ المبعدين ، بواسطة الصليب الأحمر كذلك . وكان الرد قصيدة نظمها الشاعر المبعد محمد صالح طه . مرفقة برسالة كتبها الأخ الشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي . وجاء فيها :
" لقد ألقت قصيدتكم بظلال وارفة على مخيم العودة . ونسأل الله أن نكون عند حسن الظن فينا . وإن عطاء لبنان المشرف ، وموقفه الوطني ، سيبقى خالدا" ، نسجله له بمداد من نور . ويكفي لبنان شرفا" أنك من أبنائه . لقد إستمع المبعدون ، بعد أدائهم الصلاة ، الى قصيدتكم . وكان لها طيب الأثر في نفوس الجميع . ورغم أننا لسنا على مستوى هذا الأداء الأدبي ، إلاّ أن شعراءنا آلوا على أنفسهم ، إلاّ أن يعارضوا القصيدة ، تكريما" منهم للأستاذ الفاضل نظمي جمال . ويسعدني أن أرسل لك قصيدة أحد الأخوة . لك مني ومن جميع المبعدين ، كل تحية وتقدير ، وللبنان منا كل محبة وسلام ". أخوكم/ د. عبد العزيز الرنتيسي
وممّا تجدر الإشارة اليه ، أن فرقة (قصيد) للموسيقى العربية ، قد لحّنت وأنشدت قصيدة (المبعدون) في 21/05/2009 خلال إحياء أمسية موسيقية من التراث الفلسطيني ، وذلك على خشبة دار الأوبرا للثقافة والفنون بدمشق . بعد إنتقائها من بين عشرات القصائد التي رُشحت لتقديمها مغنّاة .
عام 1994 ، صدرت الطبعة الأولى من (أستغفرك يا وطني) وهو كتاب شعر موزون ، حمّله قصائد للوطن والأرض والحجارة وسناء والقدس . فثار ، وقاوم ، وآمن ، ثمّ تألّق .
أثار بعض مريديه ومعارضيه ، إشكالية العنوان . ففعل الإستغفار لذات الله لا لغيره . عزّ عليه التنازل ، فالوطن عنده بعض من الله . ولأنه المؤمن الدافئ كالصلاة ، قدّم كتابه بـ ( أعفُ عني يا إلهي إذا ما إستغفرت وطني من بعدك ).
كتب عنه الشاعر الأستاذ أنور سلمان ، قال: " الكتب الشعرية – عادة – لا تحتاج الى عطر ورق الهدايا ، وحرير شرائط الزينة .. لتضيء طريقها الى القارئ . وحده الشعر ، له تلك القدرة الساحرة على مفاجأتنا بإنتشار دفئه وضوئه وعبيره ، من غير أن يطرق لنا بابا" ، أو يتقدّم منّا بطلب إستئذان . فالشاعر الذي أقدّمه ، لا يجري في عروقه دم الآخرين ، ولا يستعير الحبر من دواة غيره ليكتب. هو شاعر ، تقرأه فتقرأ فيه الشعر . شاعر لا يتحدّث - كما يتحدّثون – مع الفراغ. ولا تسافر كلماته في الوهم .. لترسو في مرافئ الغربة ، أو لتزهر في مملكة الصمت . نظمي جمال.. كن كما أنت ، ولنا هذا الطيب . لكأن السماء التي إختصرت عيناك زرقتها ، هي لريشتك الشاعرة ، دواة الضوء . وكأن التراب الذي أعطى قلبك الطهارة ، وجبينك الإعتزاز ، هو العربة الذهبية لأحلامك المسافرة الى الشمس . هكذ تقطّر عشقك لهذا التراب .. أبياتا" مصفاة . فخذنا على أراجيحك.. عشّاقا" لوطن ، راية إنتصاره بنا ، فرحة للعناق . وأغزل من مقالع الضوء في كلماتك ، ما يعطي الحجارة في أيدي أطفال فلسطين .. أن تأخذ شكل بزوغ فجر العودة. وأهتف للمقاومة بأناشيد تُطلع من جراحها الورود . وتزيّن صدور أبطالها العائدين بأوسمة التحرير ".
أمّا ( طرائف الحكايا) الكتاب الأول ، فصدر عام 1995 . هو مجموعة قصص تراثية قصيرة ، ولدت من رحم الضيعة والمحيط ، وإختزلت ذاكرة نوادر وأحداث وتقاليد . خاف عليها الكاتب من الإندثار ، فرفعها الى مراتب الضوء ، حيث الأبدية .
قدّم له الدكتور محمد أبو علي فقال :" هكذا يخرق نظمي جمال خطوط التماس ، ويلج الى المملكة العصية على الإختراق . وفي ظني أنّ هذا الإقتحام ، لم يكن إلاّ وليد خوف على التراث الشعبي من الضياع ، ووجع قديم إستعصى على الطبيب (المغربي) ... فإذا بنظمي جمال قاص ذو نكهة خاصّة، له مفرداته وصوره وطريقته في السرد العفوي الجريء ... تخرج الحكايات أو الأقصوصة من ذاكرته ، ومن بين أصابعه سلسة معتقة كما الخمر في الخوابي العتيقة . ماهر في الحياكة والسبك ، وقولبة المنحوتة . ساحر في جعلك تتبعه دون تردد. يحرّك فيك الحواس بلباقة وبراعة ، ويجعل من أبطاله أناسا" من لحم ودم . وبين السطور، أقرأ نظمي جمال المربي والمرشد والمثال . إنه سنديانة من بلادي ، بلوطها" .
نظمي جمال المعتمر وفاء" وإيمان
بحث عن أصدقائه ( بالسّراج والفتيلة ) ، فأخلصوا له ، وبادلهم بأحسن منه . لم يسمح لمصلحة خاصة ، مهما عظم شأنها ، أن تقترب من حرمة صداقاته المحكمة الأواصر . لأنه طالما آمن أنها تقتلها لو إقتربت . أحبّ الناس كل الناس ، وما عرف الحقد أو الضغينة يوما" . فأحبوه وشكوا له ، فما تردّد أن يكون قاضي الصلح لكل صغيرة وكبيرة .
في صبيحة الثاني من نيسان 1998 ، فقد نظمي أعزّ أخ وصديق . هو عديله الأوحد ، العقيد الجوي بالجيش الشامي ، أبو مروان يوسف بحصاص ، حيث عاجله الموت المفاجيء ، بلا إنذار أو مقدمات .
حزن نظمي على رفيق عمره ، حزنا" عظيما" ، رثاه وإنتحبه ، وأمام نعشه المسجّى ، قال له : (أسأل ربي يا أبا مروان، أن يمنّ عليّ بمثلك ، فأرحل بصمت ، غير ثقيل أو متثاقل ).
وكأن أبواب السماء كانت مشرعة تلك العشيّة ، فإستجابت في صبيحة الثاني من نيسان 1999 ، أي بعد مرور عام بالتمام والكمال واليوم والساعة . نوبة قلبية حادة ، أسقطت بلمح البصر ذلك الفارس، فترجّل مولّيا" وجهه شطر العالم الآخر ، عن عمر قارب الإثنين وسبعين .
بكت السماء فأبرقت وأرعدت وعصفت . ويوم التشييع حلّق السنونو في جو دافئ مشمس . وتقاطر المشيعون حتى ضاقت بهم الساحات . أصدقاء ، زملاء ، رفقاء ، تربويون ، رسميون ، ممثلون عن مجلسي النواب اللبناني ، والشعب (السوري) ، قادة قطع ومواقع من الجيشين اللبناني والشامي، رجال فكر وأدب وشعر . ممثلون عن إتحاد الكتّاب اللبنانيين ، والجمعيات الثقافية والأدبية . وعشرات برقيات المواساة ، أبرزها برقية دولة رئيس الحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص ، التي قال فيها : ( بوفاتك فقدنا أبرز أدباء وشعراء الوطن ، رحمك الله ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق